مستقبل الثقافة العربية في مرآة أجيالنا الرّقمية.. المنتمي واللامنتمي.. عن أيّ انتماء ثقافي نتحدث؟

 لقد غيّرت الإنترنت كثيرًا من مظاهر حياتنا وأسلوبنا في فنّ “كيف نعيش”، وفي علاقاتنا الاجتماعية حتى داخل البيئة العائلية.. ولم يعد في الإمكان ممارسة العزلة الثقافية المُسيّجة بالحدود الجغرافية، إذ أن تدفّق ثقافات الشعوب في الشبكة العنكبوتية العالمية يفرض علينا نحن أيضًا أن نتدفّق بثقافتنا العربية ونرسّخ وجودنا في المحتوى الثقافي والفكري العالمي، بأكثر اللغات انتشارا ومقروئية في العالم، لأن الاكتفاء باللغة العربية وحدها في نشر ثقافتنا العربية – بكل روافدها الأدبية والفنية والفكرية وغيرها – لن يفيدنا في خدمة قضايانا المصيرية وخاصة قضية فلسطين، لأنّ الإنترنت ليست فضاءات للمعرفة والتواصل فحسب، بل هي أيضًا فضاءات لمعارك يوميّة وحروبٍ “مزمنة” مُعلَنة وخفيّة يعتمد فيها أعداء الإنسانية – وليس أعداء فلسطين والإسلام والعرب فحسب- على جميع أنواع الإفك والتزوير وتشويه الحقائق وإعادة تدوير الأكاذيب.. لتدمير القيّم الأخلاقية ونشر الأفكار الهدّامة التي قد تجعل الإنسان البسيط “خائنا” لنفسه ووطنه وأمّته ودينه دون قصدٍ أو شعورٍ منه!

وإذا كانت الأجيال “المُخضرمة” – عاشت عصر المجتمع الورقي وتعيش عصر المجتمع المعلوماتي – قد استطاعت إلى حدٍّ ما أن تتكيّف وتوائم بين ما يُمكن أن نُسمّيه: أصالة ومعاصرة، فإنّ الجيل الذي وُلد خلال تسعينيات القرن الماضي يُمكن اعتباره “الجيل الرقمي” العربي وهو يتميّز بتعدّد الثقافات والانتماء إلى المستقبل أكثر من الانتماء إلى حاضره وواقعه وبيئته.. بشكلٍ قد يعزله عن ماضيه وثقافته العربية والوطنية جذريًّا خلال العقود القادمة.. لا سيما فيما يتعلّق بعناصر: اللغة، الدين، التاريخ الوطني والعربي، موروث العادات المجتمعية، وغيرها من العناصر الأخرى..

من المُجدي أن نعيد قراءة كتاب “اللّامنتمي” للأديب البريطاني “كولن ولسون”، الذي نشره عام 1956 بعد الحرب العالمية الثانية بكل ما أنتجته من آثار على نفسية المجتمع والفرد ورؤيتهما للحياة من خلال أبطال روايات كُتّابٍ عالميين.. فالإنسان العربي واقعٌ في خيبة كُبرى ويكاد يضيّع بوصلته الروحيّة من شدّة عواصف التّيئيس التي تُحاصره وتُجبره على إعادة إنتاج مفهومٍ آخر للحياة بالنظر إلى الحرب “العبثيّة” على الشعب الفلسطيني في غزّة والضفة.. وعلى الشعب اللبناني وشعوب عربية أخرى..

يقول “كولن ولسون”: “اللّامنتمي هو مشكلة اجتماعية، إنه الرجل الموجود في الحفرة”، ونعتقد بأنّ الإنسان العربي موجود في “حفرة” عميقة ومظلمة وملوّثة الهواء، ولكن مشكلته ليست اجتماعية بل هي مشكلة وجوديّة تتعلّق بكل عناصر كيانه الروحي والفكري والمادي (دينه، لغته، قيمه، موروثه، ثقافته، ترابه، جغرافيته..)، فنحن أمام نوعٍ جديد من “اللّامنتمي” هو “اللّامنتمي العربي” في واقع حياته أو في فضاءات الشبكة العنكبوتية العالمية. ولسنا في معرض قراءة كتاب “ولسون”، وإنما أردنا أن نستعير منه عنوان كتابه لنعبّر به عن المخاوف التي تنتابنا ونحن نتحدّث عن مستقبل ثقافتنا العربية تحت راية الأجيال الرّقمية التي تنتمي إلى عصر المجتمع المعلوماتي..

في سياق هذه الأفكار، توجّهت جريدة “الأيام نيوز” إلى نخبة من الباحثين والكُتّاب بهذه التساؤلات: كيف ترون ملامح الثقافة العربية في مرآة الجيل الرقمي؟ وما مصير قِيَمنا الروحية ومميزاتنا المجتمعية لا سيما ونحن ننتمي إلى حضارة روحية تختلف جذريًّا عن الحضارة المادية التي تعصف رياحها من عوالم الإنترنت وتؤصّل لإنسانٍ “عالمي” ينتمي إلى الخارج أكثر من انتمائه إلى بيئته؟ وكيف ستكون علاقة الجيل الرقمي مع اللغة العربية والدين والموروث المجتمعي وحتى الانتماء الوطني؟

بالتأكيد أن الإنترنت لها فوائدها إيجابياتها.. ولكن لها سلبياتها الخطيرة التي يجب أن نركّز عليها ونستبق تأثيراتها، فهل تعتقدون بأنه من الواجب أن ندقّ ناقوس الخطر لحماية الجيل الرقمي وثقافتنا العربية والإسلامية، أم نعتبر أنّ الأمر هو من ضرورات العصر ونُسلّم به مثلمنا سلّمنا بأمور أخرى جعلتنا في حالة “اللامنتمي” فعليًّا رغم انتمائنا “نظريًّا” إلى حضارة معلومة وشخصية تاريخية معروفة؟

وماذا عنك عزيزي القارئ، هل أنت منتمي أم لامنتمي؟ هل تعرف زوايا بيتك وهموم وآمال أفراد عائلتك كما تعرف تفاصيل كثيرة حول هذا العالم وشخصياته وأحداثه.. من خلال الجهاز الذي يُوصلك بالشبكات العنكبوتية العالميّة؟ إذا لم تكن مهتمًّا بالجواب عن هذا السؤال الآن فإنه لن يكون في وسعك الإجابة عنه بعد عشر سنوات، أو هكذا أزعم!

صبري فوزي
أ.د. صبري فوزي أبو حسين

الجيل العربي الرَّقَمِي ومخاطر التّثاقُف التكنولوجي

أ.د. صبري فوزي أبو حسين (أستاذ ورئيس قسم الأدب والنقد بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بمدينة السادات بجامعة الأزهر)

لا ريب في أن الإنترنت من مسلّمات العصر وضروراته، وأن لها فوائد مُعاشَة وإيجابيات ملموسة في آننا.. ولكن لها سلبيات خطيرة يجب أن نركّز عليها ونستبق تأثيراتها، وندق ناقوس الخطر عليها وعنها؛ لحماية عالمنا وثقافتنا العربية والإسلامية من هذه الرقمية الغازية!! نعم غيّرت الإنترنت كثيرًا من مظاهر حياتنا وأسلوبنا في فنّ “المعايشة”، وفي علاقاتنا الاجتماعية حتى داخل البيئة العائلية.

فالعالم الآن نوعان من البشر: “الجيل المُخضرم” الذي تكيّف مع مستجدات عالمنا الرقمي، وواءم بين الأصالة والمعاصرة بثبات، و”الجيل الرقمي” الذي وُلد خلال تسعينيات القرن الماضي، وقد قُدِّر له أن يتسلح بتعدّد الثقافات والانتماء إلى المستقبل بشكلٍ قد يعزله عن ماضيه وثقافته العربية والوطنية جذريًّا خلال العقود القادمة.. لا سيما فيما يتعلّق بعناصر: اللغة، الدين، التاريخ الوطني والعربي، وموروث العادات المجتمعية وغيرها من العناصر الأخرى.. وهذه الحالة الرقمية المهيمنة على الجميع: عامةً ونُخبةً، تُلِحُّ أسئلة تمثل تحديات، منها: ما ملامح الثقافة العربية في مرآة الجيل الرقمي؟ وما مصير قِيَمينا الروحية ومميزاتنا المجتمعية لا سيما ونحن ننتمي إلى حضارة روحية تختلف جذريًّا عن الحضارة المادية التي تعصف رياحها من عوالم الإنترنت وتؤصّل لإنسان “عالمي” ينتمي إلى الخارج أكثر من انتمائه إلى بيئته؟ وكيف ستكون علاقة الجيل الرقمي مع اللغة العربية والدين والموروث المجتمعي وحتى الانتماء الوطني؟ والإجابة الكاملة العميقة عليها لا تتحقق بدقة في هذا المقال، ولكنه بذرة في سبيل هذه الإجابة.

إن عالم ما بعد الألفية الثانية يعتمد بشكل كبير على استثمار الشبكة الدولية للمعلومات (إنترنت) وتوظيف التقدم التكنولوجي، في مجالات كثيرة من حياتنا. وكلما ازداد هذا التقدم وكثرت مجالات حضوره، أثّر في تغيير نمط حياة الناس وطريقة تعليمهم وتثقيفهم وتربيتهم، وتشكيلهم الروحي والعقلي والخلُقي. وهذا ما يجعل مدارسة موضوع وسائل التواصل الاجتماعي والتّثاقف الفكري التكنولوجي ضرورة حتمية، ويستدعي منَّا أن تكون مدارسة قائمة على حوار صريح شجاع على كل المستويات، وفي كل مواقع التربية والتعليم والتثقيف والدعوة والإعلام: في البيوت، والأندية، وأماكن تجمع الناس، وفي المدارس، وفي الكليات وفي الجامعات، وفي دور العبادة، وفي الأجهزة المسؤولة عن الإعلام في وطننا العربي…

وتعد وسائل التواصل الاجتماعي (Social media) الأداة الإنترنتية التكنولوجية الأكثر تأثيرًا الآن، وهي مصطلح مركب إضافي وصفي، مُكوّن من ثلاثة ألفاظ: الأول موصوف، وهو (وسائل) وتعني الأدوات، والثاني مصدر مضاف إليه وهو (التواصل) ويعني التلاقي، والثالث مصدر صناعي صفة، وهو (الاجتماعي) وتعني البَشَرِي.  وهذا المصطلح (وسائل التواصل الاجتماعي) يعني في مجمله: ﻤﺠﻤﻭﻋﺔ من تطبيقات الإنترنت يتم بناؤها باستخدام تكنولوجيا الويب والتي تسمح للمستخدمين بتبادل المحتوى الاتصالي، أي أنها تطبيقات تُمكّن المستخدمين من إنشاء صفحات أو ملفات شخصية، تربطهم بأصدقائهم، وتمكنِّهم من التواصل معًا، من خلال تبادل الرسائل الشخصية عبر البريد الإلكتروني الخاص بالملف الشخصي للمستخدم، أو من خلال ترك التعليقات المختلفة التي يتشارك فيها المستخدمون، وقد تحتوي الملفات أو الصفحات الشخصية على صور أو ملفات فيديوهيّة أو ملفات صوتية! ويقسّم باحثون مصطلح (وسائل التواصل الاجتماعي) إلى قسمين: الأول في كلمة (media) التي تَعني وسيلة من وسائل الإعلام تتيح التواصل أمام الأفراد! والثاني في كلمة (Social)، والتي تعني أن العملية الاتصالية تسير في وجهين: المرسِل المبدِع للرسالة، والمستقبِل المُتَلَقِّي لها، والمبدع لرد فعل تجاهها! ومن أمثلة هذه المنصات: (Facebook)، (Twitter)، (Snapchat) (Instagram)، (WhatsApp)، (YouTube)، ومنها كذلك ما يكون له جانب مهني مثل (LinkedIn)، وقد تدخل من ضمنها المدونات مثل: (WordPress)، (Blogger)، وغيرها.

وقد أصبح استخدام منصّات التواصل الاجتماعي جزءًا أساسيًّا للتواصل اليومي واستقبال المعلومات لكثير من الأشخاص في العالم؛ فهناك من يستخدم مواقع التواصل الاجتماعي وسيلةً للترفيه والتسلية وتقضية الوقت، وربما لإضاعة الوقت، وهناك آخرون أدركوا مدى قوة وسائل التواصل الاجتماعي، فاستخدموها بشكلها الفعال؛ إذ أسهمت في تيسير التلاقي بين البشر وتسريعه، ففور إنشاء الإنسان المستخدم حسابًا إلكترونيًّا يمكنه من التواصل عبر شبكة الإنترنت مع غيره من الأشخاص على مستوى العالم إلكترونيًّا؛ لمشاركة المعلومات والأفكار والآراء والرسائل… وغيرها من أنواع المحتوى الرقمي: المكتوب والمرئي والصوتي وما يرفق به من ملفات ومعارف ومعلومات وإحصاءات.

وكل يوم يزيد عدد المهتمين بهذه الحالة التواصلية الإلكترونية الرقمية حتى صارت شعبية جماهيرية، فلا تقتصر على النّخبة في المجتمع من باحثين وأدباء ونقاد وفنانين ومبدعين، بل شملت العامة من الناس: متعلمين أو أميين، صغارًا وشبابًا وكبارًا، في البلد الواحد، أو في أيّ دولة أو في أية بقعة من أنحاء العالم وبقاعه.

ومن ثم ظهرت إشكالية فكرية مثارة في الآونة الأخيرة تدور حول الموقف الحضاري والثقافي لكل أمة ودولة من هذه الحالة الكونية سلبًا وإيجابًا، جمودًا وانفتاحًا، إهمالاً وتوظيفًا، فائدة وضررًا، وأظن أننا – في ظل الجمهورية الجديدة لمصرنا – تجاوزنا مرحلة الجمود والسلبية والإهمال… وغير ذلك من مظاهر التخلف والرجعية، وأننا ننتقل إلى مرحلة التعامل المنفتح الإيجابي المفيد الفاعل من هذا التحول الرقمي الحياتي والكوني، شريطة أن نعصم أنفسنا جميعًا، لا سيما جيل الشباب، من السلبيات المدمرة الموجودة خلال التعامل مع هذه الوسائل..

ولعل في ذلك ما يدعو إلى أن نهتم – مؤسسيًّا وشعبيًّا – بتقديم صورة العرب العريقة والأنيقة في عالم ثقافة الصورة وعالم وسائل التواصل الاجتماعي، التقديمَ المنهجيَّ الأمثلَ، بأن نُوظِّف هاته التقنيات التكنولوجية في كل ما يحمي ثوابتنا، ويعلن عن هويتنا، ويواجه كل ثقافة مُسيَّرة مُوجَّهة، أو مُضادَّة عدائية أو مُضلّلة خادعة، تستهدف الأجيال الشابة أو العوام!

إن للإنترنت ولوسائل التواصل الاجتماعي سلبيات كثيرة تضرّ الفرد والأسرة والمجتمع، بل والوطن العربي كله، ويمكنني أن أحددها في الآتي:

1-   سلبيات تضر النفس

وهي عادات تضر الفرد المدمن هذه الوسائل في نفسيته وتنال من روحه وهِمَّته، وتتمثل في إصابته بأمراض نفسية وعصبية خطيرة كالقلق والاضطراب، والاكتئاب، وقد يصل الفرد المدمن لهذه الوسائل إلى مرحلة اليأس والقنوط والإحباط؛ وذلك بسبب عدم الرضا بالنفس وعن النفس، وعدم الثقة بها، وعدم قبول واقعه المعاش، بسبب المقارنة بالغير. وما أصدق قول الشاعر “سلم الخاسر” (ت180هـ) في التعبير عن هذه الحالة النفسية المحطمة وخطورتها:

من راقب الناس مات همًّا — وفاز باللذة الجسور

2-   سلبيات تضر الجسد

وتحدث بسبب انشغال الإنسان بهذه الوسائل المُلهية انشغالاً كبيرًا حتى ينسى الطعام والشراب، وتتقلب مواعيد نومه ويقظته، ويلتزم المكتب أو المكان الذي به وسيلة التواصل فينسى الحركة والرياضة… إضافة إلى متطلبات جسده الأساسية الأخرى، مما يؤثر على جسده بأضرار وأمراض تتمثل في نحافة مفرطة أو سِمنة عالية أو تقوّس في ظهره أو أعضائه الأخرى، أو تصلب العمود الفقري… وغير ذلك من الأمراض الجسدية الناجمة عن هذا الإدمان التكنولوجي!

وقد تسبب هذه الوسائل في تجاهل الإنسان النظافةَ الشخصية حيث لا يهتم بشعر رأسه وأعضاء جسده الأخرى، وهذا صرنا نراه في بعض الشباب غير المبالي في شكله في الأماكن والمواصلات العامة والخاصة!

3-   سلبيات تضر العقل

حيث أثبت دراسات علمية عالمية أن مدمني وسائل التواصل الاجتماعي لمدة ثلاث ساعات يوميًّا يكونون عرضة لخطورة عقلية كبيرة تتمثل في مشكلات خاصة بالصحة العقلية، فضلاً عن التلوث الفكري عن طريق المحتوى القائم على الفهم المغلوط، والمحتوى السيء الإباحي، والمحتوى الإرهابي، والمحتوى المعادي لثوابتنا وهويتنا، والفتاوى الشاذة، والفتاوى الضالّة والمضلّة، مما يوقع في الفِتَن…

كما يلاحظ في مجال التعليم أن إدمان هذه الوسائل يؤدّي إلى تشتيت أذهان الطلاب، وإضعاف مستوى تركيزهم في تلقّي العلوم والمعارف بالمدارس والجامعات ودور العلم المختلفة، فنلاحظ تدنِّي المستوى الدراسي، والغياب المتقطع أو المستمر، والتسرب من التعليم!

4-   سلبيات تؤثر في الأخلاق

إن مدمن هذه الوسائل من الأطفال والشباب يُضيِّع وقته، ويُفرِّط في أثمن فترات حياته، وقد يكتسب لغة منحطة، وغالبًا ما يتحوّل إلى إنسان مستهلك، مسرف، مبذر، بسفه وخبل وجنون! كما أنه يقع في رذائل كثيرة في التعامل مع أسرته وشارعه، مثل: العنف في أخذ حقوقه، والكسل في أداء واجباته، وعدم الاحترام للآخرين، والتحرّش، والتنمّر، والوقوع فريسة للآخرين فيتعرض للابتزاز، حيث يتحكّمون فيه ويُسيِّرونه في طريق السوء والغواية والفساد والإفساد!

5-   سلبيات تضر المجتمع

وتتمثل هذه السلبيات في مخالفة الآداب العامة، وأحيانًا مخالفة القانون، وفي العزلة، وعدم القدرة على تكوين علاقات متوازنة مع الآخرين، وفي الانشغال عن الأسرة، والتفكك الأسري، وانقطاع صلة الأرحام، وعدم الإحساس بالآخرين، حيث الاعتماد على وهم التواصل الافتراضي الذي لا يغني عن التواصل الحقيقي المباشر بين أفراد الأسرة الواحدة، والشارع الواحد، والبيئة الواحدة، كما يُبتَلى مدمن وسائل التواصل الاجتماعي بالوقوع في البَطالة والعَطالة وعدم الإنتاج، والتواكل والاعتماد على الآخرين في توفير متطلبات حياته الرئيسة من طعام وشراب وملبس… وغيرها!

ويوجد الآن وسيلة تربوية قد تكون مرضًا وخطرًا حقيقيًّا تسمّى “ضغط الأقران” (peer pressure) أو ضغط المجتمع المحيط، وهي هنا تكون مجتمعًا إلكترونيًّا عن طريق هذه الوسائل! وتعني -كما في الموسوعة الإلكترونية الحرة – التأثير الذي تمارسه مجموعة الأقران أو المراقبين أو شخص ما لتشجيع مراهق واحد أو أكثر على تغيير توجّهه أو قيمه أو سلوكياته بهدف الامتثال لجماعة أو تيار جديد أو وافد!

6-   سلبيات تضر الوطن

حيث يتلقّى مدمن هذه الوسائل أخبارًا مفبركة، أو معلومات مفتراة، أو شائعات، ويتعامل معها على أنها حقائق ووقائع! ويبني حياته عليها، وقد يشارك في نشرها! مما يوقعه ويوقع الآخرين من المواطنين في كوارث وصراعات وشجارات مواقف حادة! بل قد يضر اقتصاد وطنه، وقد يحدث قلاقل أمنية، ومشاكل سياسية، فيتحوّل إلى منافق أو عميل متآمر أو خائن بطريقة غير مباشرة، وقد تكون غير مقصودة! وقد يُجنّد ضد المصلحة العامة لبلده، وأحيانًا ينشئ المراهقون منشورات دون مراعاة لما فيها من عواقب مسيئة أو مخاوف الخصوصية، وأحيانًا تكون وسائل التواصل هذه ذات دور في الأعمال الإرهابية المدمّرة تبريرًا أو تخطيطًا أو تصويرا ونشرًا! ممّا يؤثّر على صورة الوطن في الخارج، فيضر المجال السياحي الذي يقوم بدور حيوي في توفير العملة الصعبة الضرورية في كل اقتصاد!  فضلا عما يُسمّى السرقات الإلكترونية عن طريق قراصنة الشبكة العنكبوتية الذين يستغلون المعلومات الشخصية فيعتدون على الناس ويوقعونهم في مفاسد أخلاقية أو حياتية أو مادية ….

سلبيات في الأدب والثقافة

وتكاد تكون الآثار المترتّبة على استعمالنا لثقافة الصورة الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي التكنولوجية في مجال الأدب والثقافة محدودة، ومحل خلاف بين الباحثين والمفكرين، وأرى في بحث لي بعنوان (ثقافة الصورة وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة على النصوص الأدبية والثقافة) أن منها:

1- الابتلاء بفاقدي الموهبة

ففي المنتج الأدبي والثقافي الإلكتروني توجد حالة من الترهّل والتزيّد والاختلاق، حيث دخل مئات ممّن لا يملكون أدواتها ولا يمتلكون مؤهلات للكتابة في عالمها النّخبوي والخاص.

2- الأخطاء اللغوية والطباعية

نظرًا للسرعة أو التسرّع في النشر، ولكون كثير من المتعاملين مع وسائل التواصل الاجتماعي لا يجيدون التعامل معها، أو لا يتقنون علم الإملاء، يلاحظ زيادة حجم الأخطاء، ممّا عرّض اللغة العربية لكثير من الجوانب السلبية، حيث يغيب الرقيب على اللغة ويتداول الناس الخطأ من دون إدراك أو وعي به!

3- التقليد والتكرير

كثير من المنشورات الرقمية تتضمن عملاً فكريًّا أو نصًّا أدبيًّا تقليديًّا أو مكررًا، ممّا يؤدي إلى إعادة الوقوع في مزلق تدوير المعرفة الإنسانية، والجمود لدى الكثير من المستخدمين مبدعين أو قارئين.

4- الإبداع السطحي

فالحرص على الإبداع، والرغبة في تسريع النشر أدّى بالكثيرين إلى الوقوع في إبداع أدبي أو فكري سطحي، وإلى ظهور ما يمكن تسميته بالكتابة السهلة والمجانية، التي لا قيمة لها على الإطلاق، وهو ما شجع عددًا كبيرًا من الناس على ممارسة الكتابة ومزاحمة الكتاب الحقيقيين، حتى على صفحات الدوريات الورقية، ففي الآونة الأخيرة اعتمدت بعض الصحف على كُتّاب ضعاف المستوى، حدّ الهزل! وهذا راجع إلى ضعف التعليم، وتراجع حجم القراءة والتثقيف، وغياب الحرص على التجويد…

5- تأرجح النقد الأدبي الرقمي بين التلميع والتنمر

إضافة إلى كوارث لغوية في الإبداع، توجد كوارث لغوية وفكرية في القراءة والتذوّق والنقد، حيث توجد أشباح افتراضية أو شواذ إلكترونيين يشوّهون اللغة والأدب ويضيعون الذائقة الأدبية، أشباح تعلي من الأصفار معدومي المواهب، وتنال من القمم والرموز المصرية! وما تجربة التنمّر النقدي ضد الشعر الحر، وشعراء الستينيات والسبعينيات، وضد الشاعر المصري الكبير “أمل دنقل” على موقع “الفيس بوك” منا ببعيد! ذلك التنمّر الذي بلغ درجة عالية من الانتقاص والهجوم جعلت القائمين على أعرق مجلة مصرية وعربية، وهي “الهلال” يفردون ملفًّا خاصًّا لمواجهة هذا التنمّر النقدي الشاذ، بعنوان (إحياء المعارك الأدبية)! وقد شرفت بكتابة مقال نقدي في هذا المعترك بعنوان (التنمر النقدي ضد الشاعر المصري الرائد أمل دنقل)، نشر في عدد “الهلال” هذا. [الهلال، ع (1552) يونية/ جوان سنة 2022، ذو القعدة سنة 1443هـ، ص 148-178. ومقال في الصفحات 160-165].

فمن التفاعل بين القراء والإبداع الإلكتروني ما يكون إيجابيًّا، ومنه ما يكون سطحيًّا، ويتمثل – كما تقول الروائية “سارة الكعبي” – لدى الشريحة الأكبر للأسف، مثل تفاعل القرّاء مع صفحات وحسابات لمدّعي ومنتسبي الأدب، والذين ينشرون اليوميات والخواطر والشعر الركيك ويشتهرون بسرعة النار في الهشيم، وقد تخيّروا لأنفسهم ألقاباً مجانية مثال شاعر وأديب وإعلامي وغيره، وكثيراً ما نرى هذا الكاتب المؤقت ولا ريب يتبجّح بأنه تخطّى المليون متابع، وأنه لمس سقف سماء الأدب بيديه الاثنتين. (راجع تحقيق “نجاة الفارس” في جريدة الخليج، بعنوان “وسائل التواصل الاجتماعي” بتاريخ 14 أغسطس/أوت 2017).

وها هي ذي وسائل التواصل تسجّل لنا بطريقة عجيبة هذا التردّي اللغوي الذي وصلت إليه حالة النقد الأدبي في أكبر مسابقة في إبداع الشعر بالوطن العربي، حيث الوقوع في خطأ مريع في إعراب لفظة في بيت شعري، والجدال على منصة النقد حول هذا الخطأ فضلًا عن عدم القدرة على الحديث باللغة العربية الفصحى، والحديث بلغة تعد (عكًّا أو عجنًا أو خلطًا) بين المستوى النخبوي الفصيح، والمستوى الشعبي العامي، فلا هو فصيح محض، ولا عامي محض!! مما أحدث تلقيًّا عربيًّا جماعيًّا رقميًّا ضد هذا الغُثاء اللغوي والخُواء الثقافي الذي وصلت إليه هذه المسابقة عقب رحيل الناقد المصري الكبير الدكتور “صلاح فضل”، صاحب الفضل الأول في رواج هذه المسابقة وبروزها؛ إذ لما مات نراها تكاد تموت عقب رحيله!

6- عدم التمكّن من إبداع أدب تفاعلي عربي

الأدب التفاعلي(Interactive Fiction)  هو كل منجز إبداعي يستخدم الحاسوب (الكمبيوتر والميديا والشبكة الإلكترونية العنكبوتية) لإنتاجية نصوص أو أشكال خاصة بتقنية الحداثة أي من خلال الوسيط الإلكتروني لإنتاج قصيدة حيّة يمكن للمبدع أن يطورها ويحذف منها في أي وقت – بخلاف الكتاب الورقي المطبوع الذي لو طبع لن تستطيع الإضافة إليه أو الحذف منه – وتكون لهذا النتاج صفة التشاركية والتعليق في الوقت نفسه أي مشاركة القارئ في العملية الإبداعية وربما تشارك في النص الإبداعي أكثر من أديب من خلال النصوص المشتركة ، وهو كذلك الأدب الذي أنتجته الميديا الجديدة من صورة وموسيقى وغير ذلك (حيث يكون النص مرافقًا لصورة ثابتة أو متحركة أو فيديو) لإنتاج صورة ذهنية تصويرية تجسد العمل الإبداعي وتنقله لنا عبر الذهنية والصورة الحسية – عبر الآلة التكنولوجية – ويمكن للقارئ التعليق المباشر مهما تباعدت المسافة بين المبدع والمتلقي ومن هنا كانت أهمية الثورة الرقمية لإنتاجية أعمال إبداعية جديدة. (ماهية الأدب التفاعلي بين الحتمية والتطور التكنولوجي، د. “شعيب زياد”، مجلة أقلام الهند، السنة الخامسة، العدد الثالث يوليو/ جويلية سبتمبر 2020).

ومع أننا نرى قصصًا تفاعلية عربية للأطفال على اليوتيوب منذ سنة 2013م! فإن الباحث الدكتور “السيد نجم” في ورقته عن “الأدب فى عصر الصورة الإلكترونية” (راجع ورقته المقدمة إلى ندوة “ثقافة الصورة” التي عقدت على هامش مؤتمر فيلادلفيا الثاني عشر، المنشور على موقع مجلة “الغد” الأردنية).. عدم تمكّن العرب إلى الآن من إنتاج أدب تفاعلي حقيقي، وأن كل الموجود على الساحة هو أدب منشور نشرًا إلكترونيًّا فقط؛ فقد ظهرت الأنواع الأدبية المعتمدة على الآلة التكنولوجية بتدرج طبيعي من خلال “نماذج جديدة للنصوص الأدبية، تفيد من العنصر التكنولوجي، ولكن هذه العناصر كانت دائمًا إضافية أو تكميلية، ولم تكن جزءًا أساسيًّا في بنية النص، لذلك لم يشعر كثير من المتلقّين بحقيقة وجودها، ويرى أننا – العربَ – لم نتمكّن من إبداع نص أدبي تفاعلي حقيقي؛ لأن النصوص لم تستطع تحقيق عنصر التفاعلية، بعدُ في نظره! وتضيف الباحثة “وداد معروف” أن الوسيط الرقمي قد أنتج نوعًا جديدًا من الأدب لا يمكن طباعته، لتداخل الوسائط السمعية والبصرية معه، فإذا طبع خرج نصًّا مشوَّهًا، فقد الوسائط التي تكمله. وهناك نظرة تشاؤمية لدى بعض المتابعين للأدب الرقمي حول مستقبل هذه الكتابة.

فما أحوجنا جميعًا إلى أن نتّحد في وقفة فردية وجماعية جادة وصادقة في التوعية بما في هذه الوسائل الطارئة والغازية من سلبيات، وأنها تستهدفنا في أخص خصوصياتنا! فلا بدّ أن نكون حذرين، ومتيقظين، ولنتذكر قول الله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ” (سورة النساء، الآية: 71)، والمؤمن الحق كَيِّس فَطِن، لا يُلدَغ من جُحْر أو يقع في مصيدة أو فخٍّ أو شَرَك! وعلى كل منَّا أن يعلم أنه على ثغر من ثغور الإسلام، وثغر من ثغور الوطن العربي، فليحافظ عليه، وليعمل على ألا يُؤتَى من قِبَله!

 

بسيم عبد العظيم عبد القادر
بسيم عبد العظيم عبد القادر

الجيل الرقمي ومستقبل الثقافة العربية الأصيلة

تحديات مفروضة ومواجهة واجبة

د. بسيم عبد العظيم عبد القادر (شاعر وناقد أكاديمي، كلية الآداب ـ جامعة المنوفية، رئيس لجنة العلاقات العربية بالنقابة العامة لاتحاد كتاب مصر)

شهدت وسائل الاتصال تطوّرات هائلة على مدار القرنين الماضيين، بدأت مع الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، وامتدت لتشمل العصر الرقمي في القرن الحادي والعشرين. هذه الثورة العلمية والتكنولوجية أثرت بشكل جذري على طرق تواصل البشر ونقل المعلومات، مما أدى إلى تغييرات عميقة في مختلف جوانب الحياة الإنسانية.

فمع بدايات القرن التاسع عشر، ظهرت وسائل اتصال جديدة مثل التلغراف، الذي مثّل نقلة نوعية في التواصل عبر المسافات الطويلة، وقد اخترعه “صمويل مورس” عام 1837، وسمح بإرسال الرسائل عبر الأسلاك بسرعة غير مسبوقة، وأعقب ذلك تطوير الهاتف على يد “ألكسندر غراهام بيل” عام 1876، مما أتاح للبشر التحدث مباشرة عبر المسافات الطويلة.

وفي أواخر القرن التاسع عشر، تم اختراع المذياع (الراديو) بواسطة العلماء مثل “غولييلمو ماركوني”، الذي مكّن من نقل الصوت لاسلكيًا، وكانت هذه التقنيات بمثابة الأساس للثورة التي شهدها القرن العشرون، الذي شهد قفزات هائلة في وسائل الاتصال، ومع اختراع التلفزيون في عشرينيات القرن الماضي، تم إدخال الوسائط المرئية إلى المنازل، مما جعل العالم أكثر قربًا من خلال نقل الأخبار والبرامج الترفيهية.

وفي منتصف القرن، جاءت شبكة الهاتف الدولي وخدمات البريد الجوي، مما أسهم في تعزيز الروابط بين الدول. ومع التقدم في تقنية الحواسيب، ظهر الإنترنت في أواخر الستينيات، كجزء من مشروع (ARPANET)، الذي كان مخصصًا في البداية للأغراض العسكرية قبل أن يصبح أداة رئيسية في الاتصال العالمي.

ومع بداية القرن الحادي والعشرين، دخلنا عصر الرقمنة، حيث أصبحت الهواتف الذكية وأجهزة الحاسوب المحمولة جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، وظهر البريد الإلكتروني كوسيلة فعّالة وسريعة للتواصل، وتطورت تطبيقات التواصل الاجتماعي مثل “فيسبوك”، “تويتر”، و”واتساب” لتغيّر جذريًا طريقة التواصل بين الناس.

كما أن تقنيات الاتصال الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء (IoT) دفعت حدود الابتكار، فاليوم يمكن للبشر التواصل عبر مكالمات الفيديو، والعمل عن بُعد باستخدام منصات مثل “زووم” و”مايكروسوفت تيمز”، مما يتيح التواصل الفوري من أيّ مكان في العالم.

وبالرغم من الفوائد الكبيرة التي قدمتها الثورة التكنولوجية في وسائل الاتصال، فهناك تحديات مثل انتهاك الخصوصية، وانتشار الأخبار الزائفة، وزيادة الاعتماد على الأجهزة الإلكترونية، ومع ذلك فإن المستقبل يعد بمزيد من الابتكارات، مثل تقنيات الواقع الافتراضي والميتافيرس، التي ستعيد تعريف مفهوم التواصل الإنساني.

ويمكن القول إن الثورة العلمية والتكنولوجية في وسائل الاتصال أثرت بعمق على البشرية، حيث قلصت المسافات وجعلت العالم قرية صغيرة. مع استمرار التقدم التكنولوجي، سيظل التواصل محورًا رئيسيًا في حياة البشر، مما يعكس رحلة تطورنا المستمرة نحو مستقبل أكثر ارتباطًا وابتكارًا.

ومما لا خلاف عليه أنَّ الإنترنت غيّرت كثيرا من مظاهر حياتنا وأسلوبنا في فنّ “كيف نعيش”، وفي علاقاتنا الاجتماعية حتى داخل البيئة العائلية.. والمتأمل فيما كنا عليه منذ خمسين سنة أي نصف قرن ـ عشته كاملا منذ بلغت سن الصبا ـ وما صرنا إليه الآن يجد العجب العجاب، فقد كنا نعيش حياة اجتماعية ملؤها الدفء والحميمية، وحياة اقتصادية متوازنة، تكاد تذوب فيها الفوارق بين الطبقات، ويتكافل الناس فيما بينهم فيعطف الغني على الفقير، ويحترم الصغير الكبير، والآن صارت العلاقات بين الناس من الأقارب والأصحاب علاقات باردة فقد يمر الأسبوع والشهر وقد يمر العام وكأننا نتغنّى بقول الشاعر العربي القديم “جميل بثينة”:

وَإِنّي لَأَرضى مِن بُثَينَةَ بِالَّذي — لَوَ اَبصَرَهُ الواشي لَقَرَّت بَلابِلُه

بِلا وَبِأَلّا أَستَطيعَ وَبِالمُنى — وَبِالوَعدِ حَتّى يَسأَمَ الوَعدَ آمِلُه

وَبِالنَظرَةِ العَجلى وَبِالحَولِ تَنقَضي — أَواخِرُهُ لا نَلتَقي وَأَوائِلُه

وما زلت أتذكر ما كنت أرسله لأبي الحبيب – يرحمه الله ـ من خطابات ورقية أول سفري إلى السعودية منذ ربع قرن، وما كان يرسله لي الوالد، وإنني لأرى هذه الخطابات الآن ولا يسعني إلا اجترار الذكريات، والترحّم على والدي والترحّم على هذه الأيام. وكذلك ما كنت أتبادله مع زوجي من رسائل قبل هذه الثورة الرقمية والطفرة في الاتصالات، التي جعلت العالم بين يدينا عبر جهاز صغير يتيح لنا التواصل بالصوت والصورة معا، فلم تعد الغربة مؤرّقة كما كانت قبل الإنترنت، وهذا من حسنات التقدم الرقمي، الذي يتيح لنا التواصل ونحن في مخادعنا مع أصدقائنا وأقاربنا في أقصى الكرة الأرضية صوتا وصورة وفي أي وقت من ليل أو نهار، ولي قصيدة عنوانها “خطاب الحبيب” أقول فيها: (ديواني لو تطلبين العمر ص 124ـ 126).

جاء الخطاب من الحبيب فأنعشت — روحي، وفارقني الكرى وجفاني

وأعادني عشرين عاماً للصبا — حيث الغرام، فزلزلـت أركاني

ما زلتَ يا قلبُي تفيض صبابةً — رغم المشيب، فأنت أنت جَناني

تهفو إلى الغيد الملاح تضمها — لك غادة غمرتك بالتحنان

وتذوب وجداً إن سمعتَ حديثها — يَسْري مسير الدم في شرياني

يا قلبُ رِفقاً بي فإني مدنف — أضناه بُعْد الأهل والخلان

أضناه بعد حليلة وخليلة — ملكت برقتها زمام كياني

واستأثرت مني بكلّ محبتي — وسبت فؤادي بالفؤاد الحاني

أنسته كلّ مليحة من قبلها — ملأتْ بسحر جمالها وجداني

يا ليل إني قد فقدت تصبّري — وجَرَعْتُ كأس الهجر والحرمان

سامرْتُ بدرك والنجوم عددتها — حتى مَلِلْتُ وعدّها أعياني

أشتاق رؤيةَ نجمتي من بينها — تلك التي ملكت عِنانَ بياني

لكنّني شرّقْتُ إذ هي غرّبَتْ — حتّى طويْتُ الغرب في أحضاني

وتَكَحَّلَتْ عيني بطيف خيالها — فتزَيّنَتْ من كُحْلِه أجفاني

يا من تلومُ على هواها خَلِّني — فاللوم مزّق أضلعي وكواني

لو كُنْتَ مثلي عاشقاً لَعَذَرْتَني — وعلِمْتَ أن الحبَّ قد أضناني

يا نجمتي، يا شمس أيامي، ويا — كُلَّ المنى، فَلْتَهْنَئي بحناني

فلقد وهبتك يا حياتي خافقي — وعصيت في درب الهوى شَيْطاني

وطرحْتُ حبَّ الغيد إلا غادةً — قد أزهرت من حبِّها أفناني

قد علّمّتْني الحبَّ – رغم حيائها – — فتضوَّعَتْ من طيبه أرداني

فمتى أعود لها لتسكنَ مُهْجَتي — فلقد وجدْتُ بحضنها أوطاني

لولا رجائي في اللقاء ومأملي — لنسجت من خيط الهوى أكفاني

وقد كتبت عنها زميلتي السورية الفاضلة الدكتورة “فاتن محجازي” دراسة نقدية قيمة، حيث كنا نعمل معا في كلية التربية للبنات بالأحساء وكانت زميلة لزوجتي وصديقة لها.

وهناك قصائد أخرى كانت نتاج الغربة وضعف وسائل التواصل آنذاك منها طيف الحبيب وأين الحبيب ولو تطلبين العمر وأعلنت حبك، ويا ليلة العيد، وكلها في ديواني الثاني “لو تطلبين العمر” (ط1 ـ 2011م).

وهذا مطلع قصيدتي “يا ليلة العيد” حيث أتى عيد الفطر المبارك وأنا في المدينة المنورة:

يا ليلة العيــد أين الأهـــل والـــــــدار — يا ليتــهـــــم معـــــنا للبيــــت عـــمــار

يا ليتهم معنـا نحظى بصحبتـــهــــــم — في حضرة المصطفى إذ نحـــن زوار

لم ننسهم بالدعا في المسجـــدين وفي — شهــر الصيــام، ففي البيتين أنـــــــوار

وفي الصيام دعاء العبـــــد يقبـلــــــه — رب كريـــــم له في الصـــوم أســـرار

نرجو تفضله بالعتـــــــــق في كـــرم — عنا وعنكم، فلا تمسســــكم النــــــــار

أنتم أحبتنا يا طـيب معــــــــدنـــكــــم — من حبنا لكم أهل الهـــــوى غـــــاروا

وكيف لا وصميم القلـــب منزلــــــكم — لولا محبتــــــكم لم تـعـــــمــــر الـــدار

يا رب بارك لنا فيكم وفي وطــــــــن — يهفو فؤادي له والعـــقــل يحتـــــــــار

لولا مشقة عيش فيه ما نزحــــــــــت — منه العقول، ولا للأصعــب اختــاروا

لله هجرتنا في الأرض واســــعـــــــة — نرجو رضاه، فهل في هجـــرنا عــار

وإذا كانت الأجيال “المُخضرمة” استطاعت أن تتكيّف وتوائم بين ما يُمكن أنْ نُسمّيه: أصالة ومعاصرة، فإنّ الجيل الذي وُلد خلال تسعينيات القرن الماضي يُمكن اعتباره “الجيل الرقمي” العربي وهو يتميّز بتعدّد الثقافات والانتماء إلى المستقبل بشكلٍ قد يعزله عن ماضيه وثقافته العربية والوطنية جذريًّا خلال العقود القادمة.. لا سيما فيما يتعلّق بعناصر: اللغة، والدين، والتاريخ الوطني والعربي، وموروث العادات المجتمعية وغيرها من العناصر الأخرى.. وتلك حقيقة واقعة لا بد أن نواجه أنفسنا بها حتى نستطيع التصدي لها بكل الوسائل المتاحة وبذل مزيد من الجهد العلمي والوعي الثقافي والحضاري حتى نحمي هذا الجيل من خطورة الغزو الثقافي والعولمة التي تريد صبغ العالم بالصبغة الغربية العلمانية وتنحية الدين والعادات والتقاليد جانبا، وبالطبع تنحية اللغة التي هي وعاء الفكر وأداة استيعاب الدين والتاريخ والثقافة والهوية العربية والإسلامية.

ولو لم نبادر ونسارع بذلك فإننا لا ندري ما مصير قيمنا الروحية ومميزاتنا المجتمعية لا سيما ونحن ننتمي إلى حضارة روحية تختلف جذريًّا عن الحضارة المادية التي تعصف رياحها من عوالم الإنترنت وتؤصّل لإنسان “عالمي” ينتمي إلى الخارج أكثر من انتمائه إلى بيئته.

ولا ندري كيف ستكون علاقة الجيل الرقمي مع اللغة العربية والدين والموروث المجتمعي وحتى الانتماء الوطني، إنَّ كل ذلك سيكون عرضة للتمييع والاضمحلال بقدر تراخينا عن الوعي بهذه المعضلات التي تعصف بأمتنا وبقدر استهانتنا بهذه التحديات وعدم المسارعة إلى مواجهتها بكافة السبل.

وإذا كان قد تأكد أنَّ الإنترنت لها فوائدها إيجابياتها.. فإنَّ لها سلبياتها الخطيرة التي يجب أنْ نركّز عليها ونستبق تأثيراتها على جيل الشباب والأطفال الذين هم عماد مستقبل الأمة، ومن الواجب أنْ ندقّ ناقوس الخطر لحماية الجيل الرقمي وثقافتنا العربية والإسلامية وألا نعد الأمر من ضرورات العصر ونُسلّم به بل تجب مقاومته والتصدي له بكل الوسائل الممكنة، ولن يتأتّى لنا ذلك إلا إذا تسلحنا بالعلم والمعرفة الحديثة وأوجدنا البدائل لهذه الوسائل بحيث يكون محتواها عربيا وإسلاميا يناسب ديننا وثقافتنا ويحافظ عليهما كما يحافظ على لغتنا العربية التي تتعرض هي الأخرى لهجمة شرسة تحاول إقصاءها في مناهج التعليم عن طريق المدارس والجامعات الأجنبية التي انتشرت في بلادنا العربية كالسرطان المدمر الذي يوشك أن يوهن قوة هذه الأمة، “فكم عز أقوام بعز لغات” كما قال شاعر النيل “حافظ إبراهيم”.

وإذا كنا قد رصدنا الجوانب الإيجابية والسلبية للثورة الرقمية والمعلوماتية فإنه تجدر الإشارة إلى أنَّ هذا التقدم الهائل قد عاد بالخير على مستقبل القضية الفلسطينية وكان له الأثر الأكبر في فكر ووجدان الجيل الرقمي العربي، والغربي والعالمي على حد سواء، فقد نقلت لنا وسائل الإعلام ـ على مدى عام كامل ويزيد شهرين، منذ السابع من أكتوبر عام 2023م ـ نقلت لنا هي ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى من الفيسبوك والفيديوهات والتيك توك والإنستجرام والتيليجرام وغيرها، نقول إنَّ كل هذه الوسائل والوسائط نقلت لنا وقائع الحرب غير المتكافئة بين فئة مؤمنة مجاهدة صادقة وصابرة، هي فصائل المقاومة الإسلامية في غزة وفي مقدمتها حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، والعدو الصهيوني الغاشم والغادر الذي لا يرقب في المؤمنين إلًّا ولا ذمة، والذي وقفت بجانبه قوى الشر العالمية والدول التي تدّعي حماية حقوق الإنسان والحيوان، بقيادة أمريكا راعية الإرهاب الصهيوني الأولى ومعها إنجلترا صاحبة “وعد بلفور” المشؤوم الذي أعطى ما لا يملك لمن لا يستحق، فوعد اليهود بوطن قومي على أرض فلسطين العربية الإسلامية، ومعهما فرنسا بتاريخها الأسود في الجزائر على مدى مائة وثلاثين عاما، وألمانيا التي تريد أن تزيح اليهود عن كاهلها وتتبرّأ من محرقة مزعومة بمساعدة اليهود إلى محرقة محققة يشاهدها العالم بالصوت والصورة على مدار الساعة، وكذلك إيطاليا التي تضم الفاتيكان، راعي المسيحية في العالم، ولا يسع المثقف المصري والعربي والمسلم إلا أن يخجل من موقف كثير من الدول العربية والإسلامية التي تقف موقف المتفرج مما يحدث من إبادة جماعية في غزة خاصة وفي فلسطين ولبنان عامة، بل إنَّ هناك دولا تمد يد العون والمساعدة للعدو الصهيوني الغادر علنا ودون خجل وهي لا تعلم أو تعلم وتتجاهل أنه سينطبق عليها المثل العربي الرمزي القديم الذي صاغته المخيلة العربية على لسان الثور الأحمر حين قال: أكلت يوم أكل الثور الأبيض.. وقصة المثل معروفة ومشهورة… فقتلة الأنبياء لا يتورّعون عن قتل أتباعهم، والصهيونية العالمية تدعم الكيان الصهيوني بكل ما أوتيت من قوة حفاظا على مصالحها في الهيمنة على الشرق العربي وثرواته من جهة، كما أنَّ الغرب يريد أن يزيح اليهود عن بلاده من جهة أخرى.

ولقد غيرت الثورة الرقمية المعادلة وبعد أن كانت الصهيونية العالمية تسيطر على الصحف العالمية والقنوات الفضائية في كثير من الدول الغريبة وتستخدمها في تزوير الحقائق والتدليس على العالم، فقد افتضح أمرها أمام العالم بفضل وسائل التواصل الحديثة فشاهدنا المظاهرات تجتاح العالم الغربي وتصل إلى البيت الأبيض مطالبة بوقف الحرب الظالمة وغير المكافئة، وقامت دولة جنوب إفريقيا برفع قضية أمام المحكمة الجنائية الدولية ضد الكيان الصهيوني لقيامه بجرائم الحرب وجرائم الإبادة الجماعية، وقد صدرت منذ أيام قليلة مذكّرات توقيف من المحكمة ضد المجرم السفاح رئيس وزراء الكيان الصهيوني ووزير الحرب اللذين يعف اللسان عن ذكر اسميهما!!

ولقد جمعني القدر يوم الجمعة الماضية في صالون يونس الثقافي بالحاكمية مركز ميت غمر، الذي يرعاه صديقي الحبيب سفير الإنسانية أ. عبد الحميد يونس، بالمستشار مرتضى منصور الرئيس السابق لنادي الزمالك، وعلمنا منه أنه رفع قضية لدى المحكمة الجنائية الدولية على عصابة المجرمين السفاحين الذين يحكمون الكيان الصهيوني قبل أن ترفعها جنوب أفريقيا بثلاثة أشهر، ولكن الإعلام المصري والعربي عتم على هذا الخبر، وقد تأكدت من ذلك عن طريق ابني المهندس أحمد بسيم الذي أتى بالخبر من بعض المواقع غير المشهورة.

وبمناسبة يوم الأرض الذي صادر فيه العدو الصهيوني الأراضي الفلسطينية، يوم 30 من مارس 1976م، كتبت قائلا:

حتما سنعود إلى الأرض — سنعود قريبا يا وطني

فالأرض تنادي ونداها — كالرعد يجلجل في أذني

وقلتُ كذلك، تحت عنوان “سيعود الأقصى”:

دنسني باغ وحقير — عبد للعجل مدى الزمن

باراك، ترامب قد اشتركا — في الكفر وتقديس الوثن

ولصفقة قرن قد سعيا — تبا للعهر وللعـــفن

ورسول الله يبشرنا — بالنصر على رغم المحن

فسينطق حجر مع شجر — وينادي المسلم خلصني

واقتل من دنسني زمنا — وأثار البغض مع الفتن

وعد من ربي أحفظه — ستسوء وجوه ظلمتني

يا مسلم لا تيأس واصبر — فالنصر قريب للوطن

سيعود الأقصى منتصرا — ويساق الباغي للكفن

إنْ طال العهد بمحنته — فبسبب الفرقة والإحن

لكن الله سيجمعنا — وإليك سنرجع يا وطني

وقد استشرفت المستقبل في إحدى قصائدي بعنوان “هنية لا تهن: حفيد الفاتحين” وقد أهديتها إلى الأبطال المرابطين في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس قلتُ فيها:

إذا صار الغراب دليل قـــــــوم — القوم إنْ تبعوا الـدلـيــــــــلا

ألا فاضرب بسيفـك كل وغـــــد — كفور غاصب يأبى الرحــيـــــلا

فـقتـــــل في سبيل الله فــــــــوز — ومن أهدى من الرحمن قـيــــــلا

وكن كالشمس تشـرق كل حيــن — لخير الناس، قد عافت أفـــــــولا

إذا انـصهـــرت عزائـمنا بحـب — عصي الأمر، نلقاه ذلـــــــــــولا

ونقهـــر بالـمحبة شــانـئينـــــــا — ونلقى عـنـد خالـقـنـا قـبــــــــولا

أرى الأقصى يطالعــنا حزينـــا — براه الـشــوق، لم يشف الغلـيلا

يرى الباغي الظلــوم يتيه فخرا — بساحته، ويوسعـه كـبـــــــــــولا

ألا يا أمة المليار هـــــــــــــــبـوا — لكسر القيد، كي نرضي الرسـولا

فيرضى الله عـنـــا، يجتبيــــــنـا — ويرزقنا بجـنـتـه مـقـيـــــــــــــلا

فليس الحر من يرضى هوانـــــا — لدين، بل يراه المستحيـــــــــــلا

ويأبى الحر إلا كســر قـــــــيـــد — عن المظلوم، أو يغــدو قــتيــــلا

أخا الإسلام أنت بكل فــــــــــــج — تنير لنا، فتهدينا السبيـــــــــــــلا

حفيد الفاتحين انهض وجاهــــــد — وأشعل في الظلام لنا فتيــــــــــلا

ولقــن عصبة الفجار درســـــــا — أراك وعيته جيلا فجيــــــــــــــلا

فإن النصر معــقـــود بـخـــيـــل — ستملأ ساحة الأقصى صهيــــــلا

فلسطين الجريحة لن تراعـــــي — وأسد محمد تخذوك غــيـــــــــــلا

فها هم يـــــزأرون بكـــــــل واد — وفي أكناف غزة والخليـــــــــــلا

أأطفال الحجــارة يا رجـــــــــالا — فجرتم بالحجارة سلسبيـــــــــــلا

يروي أمة عــطشى لـــعــــــــــز — فتذكر ماضيا ألقا جـمــيـــــــــــلا

صلاح الدين والأقصى أســــيــر — فأين تراه سيفكم الصقيـــــــــــلا

لنفلق هام أبناء الأفاعـــــــــــي — ونأخذهم به أخذا وبيـــــــــــــــلا

وذا ابن سلول يظهر من جـديـــد — وددت أراه بينكم قــتـيـــــــــــــلا

“هنية” لا تهن واصبر وصابـــر — ورابط واتق الله الجلــيـــــــــــــلا

لعـلك مـفـلـح، فالله مـعـــــــكـــم — فلا ترضوا به أبدا بــديــــــــــــلا

وهذا جهد المُقلّ نقدّمه للمجاهدين الصامدين والمرابطين الصابرين الذين يدافعون عن شرف أمتنا العربية والإسلامية التي تحتاج من يوقظها من غفوتها قبل فوات الأوان، وقد قلتُ في قصيدتي “يا شباب الدين” وهي قصيدة استشرافية كسابقتها:

يا شباب الدين سيــــروا — فـي ظـــلال الديـن نــور

في سبيل اللـه ضحــــوا — فـي سبيــل اللـه ثـــوروا

إنما الإسـلام كــنــــــــز — ليــس يفنى أو يغـــــــور

فيه للدنيـا نجـــــــــــــاة — فيــه للخلـــق ســـــــرور

حافظوا دومـاً عــليـــــه — لا تــهابــوا لا تخـــوروا

لا تصيخوا لادّعـــــــاء — فيــــه بهتــــــــان وزور

ديننـا ديـن قويـــــــــــمٌ — مــا لــه أبــداً نظيــــــــر

رغم إرجاف الأعـادي — أُفْعِمَت منــه الصـــــدور

رغم شــارون وبـــوش — كلـــــهم نــــذلٌ حقيــــــر

أعلنوا حرباً ضروســـاً — جاءنــــا منــهم نذيـــــــر

حملة الصلبــان عـادت — قادها بوش الصغيــــــــر

حملة للشـــــر قامــــت — ضالِــــــعٌ فيهـــا بليـــــر

لا تطـــع منهم أثيمـــــاً — كلـــهم وغــــدٌ كفــــــور

لا تخف منهم عتــــــلاً — حشوه جبــــنٌ وخــــــور

أنت منصـورٌ عزيــــزٌ — وهو مخـــدوعٌ غريـــــر

أنت في جنـــاتِ عــدنٍ — وبــه تحمى السعيــــــــر

لا تســـالم، لا تهــــادن — طبعهم طبــــعٌ غـــــدور

كيف تنسَى أو تنـــاسَى — مسجدي الأقصى الأسير

مسجــدٌ ما زال يشكـــو — قــد عــلا منــه الزفيـــر

هل مليـكٌ؟ هل رئيـسٌ؟ — هل أميـــرٌ؟ أو وزيـــر؟

يا صــلاحَ الديــنِ إنـي — عزَّنــــي منهــم نصيــرُ

قل لهـــم إمـــا يهبُّـــوا — مِن سباتٍ أو يبــــوروا

وقلتُ في إحدى قصائدي:

والله لو زأر المليار لارتعدت — فرائص الكفر أنى شاد منزله

ربوا على العز أشبالا لتنتصروا — فالكفر ربى على الأحقاد أشبله

وقد كتبتُ قصيدة حين عزم “ترامب” نقل السفارة الأمريكية إلى القدس بعنوان “أبو لهب المعاصر والقدس” كتبتها في السادس من ديسمبر 2017م، قلتُ فيها:

هذا الشقي يروم نقل سفارة — للقدس ساء مقالة ونفاقا

تبت يداه هو الجهول بأمة — تشتاق، والأقصى غدا مشتاقا

من أجله تبدو الدماء رخيصة — تفديه مصر وتستحث عراقا

تفديه أمتنا الجريحة إنه — مسرى الرسول يكابد الإرهاقا

عبثت بنو صهيون في ساحاته — حفرت بليل تحته الأنفاقا

تبغي له هدما لتنشئ هيكلا — شاهت وجوه الكافرين وفاقا

أقصر أبا لهب فلست ببالغ — أمرا نطير دونه الأعناقا

يا أمتي وجب الجهاد استيقظي — نذر الضلالة تملأ الآفاقــــــــا

وقبل طوفان الأقصى بعشر سنوات، والحال يزداد سوءا، ولكن بقعة الضوء تتمثل في المرابطين في بيت المقدس وفي مسيرات العودة، فمتى تنتفض أمتنا المخدرة؟!، شكرا للشاعرة الكبيرة الأستاذة “بسمة الفراية”، والأستاذة “فاطمة الفراية”، فما زال الأمل موجودا ومعقودا على نساء الأمة ورجالها، ومما زادني اليوم أملا ما سمعته ورأيته على تلفاز الكيان الصهيوني الغاصب عن رعب الصهاينة من الطائرات الورقية التي يطيرها الفلسطينيون على مستوطناتهم المغصوبة فيجأرون ويطلبون من الجيش التدخل، فقلت: سبحان الله! هذه طائرات ورقية فما بال طائرات العرب التي تشترى بالمليارات وتكدس في حظائرها؟! ما بالها لو طلعت طلعة واحدة على المعتدي الغاصب الغشوم الذي يضرب بكل القيم الإنسانية والمواثيق الدولية عرض الحائط؟!

وقد كتبت الشاعرة الأردنية الأستاذة “بسمة الفراية” (هدية للقسام بمناسبة أسر الجندي الإسرائيلي):

الله أكبر جاءت تسبق العيدا — كفّوا الدموع وحيّوا جندنا الصّيدا

الله أكبر يا قسّام ما وهنت — منك العزائم جودي بالفدا جودا

الله أكبر قد رددت في خلدي — قبل المآذن يا قسّام ترديدا

الله أكبر دوّت في مساجدنا — والخائنون مضوا بالخطف تنديدا

الله أكبر قد أخرسْتِ من جبنوا — لك المشاعر دانت تقطع البيدا

الله أكبر قد قزّمتِ قامتهم — وبالمعالي رفعتِ الهام توحيدا

خذوا دمائيَ صبّوا في جراحكمُ — خذوا العيون ودكّوا القوم تسديدا

الله أكبر يا أبطال فعلتكم — قد مهدت لطبول النصر تمهيدا

فعلّقت الشاعرة “فاطمة الفراية” ببيتٍ قالت فيه:

الله أكبر دوت من حناجركم — دكت حصون العدا، للنصر تمهيدا

فكتبت تعليقا عليهما في الحادي والعشرين من يونية 2014م:

الله أكبر في رمضان يدركها — مَن أسلموا وجههم لله تأييدا

مِن يوم بدر لها سحر يراودنا — على المدى، جددوا التاريخ تجديدا

الله أكبر صخَّت سمعهم فغدوا — مستنفرين كحمر تملأ البيدا

فيا قساورة لله قد هتفت — نشيدكم إخوتي قد زلزل الصيدا

فالغيد من أمتي فاقت جبابرة — فيما اكتفى “خائر” بالظلم تنديدا

الله أكبر لاح النصر فارتقبوا — يا فتية الحق للقهار تأييدا

مَن ذا يقاوم خيل الله إنْ ركبت — بل مَنْ يحاول للأحرار تهديدا؟!

ملائك الله قد جاءت مسومة — لتنصر الحق، نعم الجند تعضيدا

قصرتُ في نصركم يا إخوتي وكبا — جواد شعري، فجاء القول ترديدا

لكم دعائي ولو خيرت كان دمي — فداء أطفالكم، أفدي به الغيدا

حتى نحرر مسرى المصطفى بغد — هناك يا إخوتي نستقبل العيدا

وفي التاسع من يونية/ جوان 2019م كتبت تحية لشهداء الحق:

يا شهيد الحق لبيت الندا — ونصرت الحق دمت السيدا

لم تخف موتا ولم ترهب عدا — ورفعت الهام في وجه الردى

يا شهيدا رفع الله به — راية الحق على طول المدى

كيف ننساك وقد علمتنا — جرأة المؤمن في وجه العدا

إن يكن غالك حقد أسود — صرت بدرا في دجانا خالدا

في جنان الخلد تلقى جندنا — جند مصر منذ فتح أسعدا

في سبيل الله كانوا دائما — شعلة النور التي لن تخمدا

نم قرير العين واهنأ يا فتى — كلنا بعدك لبينا الندا

وهذه القصائد منشورة على وسائل التواصل الاجتماعي وأبرزها “فيسبوك” كما ألقيتها في إذاعة صوت فلسطين من القاهرة، وأعدها نوعا من الجهاد بالكلمة أدعو الله أن يثيبني عليه ويرزقني به أجر المجاهدين الصادقين الصابرين.

كما أنني استضفت دولة فلسطين عدة مرات في لجنة العلاقات العربية التي أتشرف برئاستها، بالنقابة العامة لاتحاد كتاب مصر التي تقف موقفا مشرّفا ضد التطبيع مع الكيان الصهيوني، هي واتحاد الأدباء والكتاب العرب الذي يرأسه نقيب كتاب مصر الدكتور “علاء عبد الهادي”، وكم وقفنا وقفات احتجاجية على سلم النقابة بل وصل الأمر للاعتصام ثلاثة أيام بالنقابة تنديدا وشجبا واستنكارا للمجازر التي يرتكبها العدو الصهيوني، ومعلقين خريطة دولة فلسطين على باب نقابتنا الغراء، وواضعين شعار فلسطين على كل مكاتبات النقابة ومطبوعاتها، كما استضاف صالون النقابة وزير الثقافة الفلسطيني، “عاطف أبو سيف” وحاوره الدكتور “علاء عبد الهادي” نقيب كتاب مصر والعرب، وتحدث عن التراث الفلسطيني الذي سعى الكيان الصهيوني المجرم لتدميره ممثلا في المساجد التاريخية والكنائس الأثرية وغيرها من المعالم التاريخية.

وقد استضفتُ في لجنة العلاقات العربية غير مرة المستشار الثقافي الفلسطيني الصديق الروائي الأستاذ “ناجي الناجي”، واحتفلنا بكتاب قصائد في رحاب القدس الذي ضم تسع عشرة ومائة قصيدة لشعراء من كل الدول العربية والصادر عن ملتقى الشعراء العرب برئاسة الشاعر المصري “ناصر رمضان”، بحضور الشاعرة الفلسطينية والكاتبة والناشطة الثقافية الأستاذة “نهى شحادة عودة” (ياسمينة عكا) ممثلة لفريق إعداد الموسوعة.

وقد خصص العدد الأخير من مجلة “الكاتب العربي” التي يرأس تحريرها الدكتور “علاء عبد الهادي”، وهي مجلة فصلية متخصصة تصدر عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب (العددان 96، 97 ـ أفريل / يوليو 2024)، قسما كبيرا لتغطية فعاليات نصرة القضية الفلسطينية سواء في النقابة العامة لاتحاد كتاب مصر أو الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب.

وبهذا نرى كيف تسهم المجلات والكتب والصحف وغيرها من وسائل التواصل التقليدية إلى جانب الوسائل الحديثة المسموعة والمرئية في نصرة القضية الفلسطينية التي هي قضية العرب والمسلمين جميعا، وليست قضية الفلسطينيين وحدهم كما يحاول بعض المثبطين أن يصدروها لنا، والله غالب على أمره ولو كره الكافرون!!!

شعبان عبد الجيد
د. شعبان عبد الجيِّد

نعم تطوّرْنا.. ولكن بأيّ ثمن؟

علاقاتُ “الأرخَبيل” في زمن الرَّقمَنة!

د. شعبان عبد الجيِّد (كاتب من مصر)

وخرجتُ من بيتي وحيداً لستُ أعرفُ لي طريــقْ

في قلبيَ الأحــــزانُ تُثْقِلُني أُفتِّشُ عن صــــــديــقْ

ونَظَرْتُ في كلِّ الوجـــــــوهِ فلم أجدْ من أرتجــيـهْ

الكلُّ حولي حائرُ الخُــطُواتِ فـــي ظُلُماتِ تِـــــيـهْ

كلُّ العُيـون بــها ســـؤالٌ ليس يُسْكِتُه جـــــــــوابْ:

“نحن الحَـزانَى وحدَنا نمضي فأينَ همُ الصِّحَابْ”؟

وعَـــرَفْتُ أنَّا فــي بُحُور الصمتِ مثلَ الأرخبيـــلْ

جُزُرٌ مبعثرةُ القلوبِ.. فلا مُــــقامَ ولا رحـــيــــلْ

ورَجَعْتُ أرسُمُ أحْرُفي الحَيْرَى سطوراً من دمـوعْ

أبكي الزمانَ وأندُبُ الماضي وأهْرُبُ فـي الْجُموعْ!!

(القصيدة للكاتب)

 التطورُ سُنَّةٌ من سُنَنِ الحياة، بل هو من أهمِّ مزاياها وألزمِ لوازمِها، وبَدَهيٌّ أن يكون هناك من يرى ميزاتِه ومحاسنَه فيرحب به ويدعو إليه، ومن لا يبصرُ غيرَ عيوبِه ومخاطرِه فيشكِّك فيه ويتخوّف منه.

ومنذ تسعين سنة نشر الأستاذ “أحمد أمين” مقالًا في مجلة “الرسالة” (26 مارس 1934) تحت عنوان “والراديو أخيرًا”، ذكر فيه أنه نشأ في حي وطني، لم يأخذ من المدنيّة الحديثة بحظ قليلٍ ولا كثير، يعيش أهلُه عيشة وادعة هادئة بطيئة، لم تتغير عن معيشة القرون الوسطى إلا قليلًا. ولم تنقطع الصلة بينهم وبين آبائهم وأجدادهم؛ إذا عرضت عليهم صفحة من حياة مصر قبل بضع مئات من السنين فهموها حق الفهم، وقرءوها في أنفسِهم وفي معيشتهم، “فكانت الصلة بيني وبين سكان القاهرة في عهد الفاطميين أو الأيوبيين أو المماليك أقربَ من الصلة بين ابني وعهد إسماعيل؛ فالحياة في السنين الأخيرة غيّرَت سكان المدن تغييرًا كبيرًا، ونقلتهم نقلة مفاجئة سريعة، حتى ليحملق الطفل في عينك استغرابًا إذا حدّثته بحديث يتصل بالحياة الاجتماعية في عهد جدّه أو جدّته، ويرى كأن الدنيا خلقت خلقًا جديدًا”.

كان بين سكان الحارة رابطةٌ تشبه الرابطةَ بين أفراد القبيلة، فهم يرعون حق الجوار بأدق معاني: يعودون أحدهم إذا مرض، ويهنئونه إذا عوفي، ويواسونه في مأتمِه، ويشاركونه في أفراحه، وهم في ذلك سَوَاسِيَة، لا يتعاظم غنيٌّ لغناه، ولا يتضاءل فقير لفقره.

وكان لكلِّ بيت من بيوت الطبقة الوسطى منظرةٌ (مندرة) لاجتماع الأصدقاء في إحداها. فيسمرون فيها السمر الحلو اللطيف، وأحيانًا يجتمعون فيحلو لهم العَشاء معًا فيرسلُ كلٌّ رسولًا إلى بيته يحضر منه خير ما عنده، وأحيانًا يُحيون الليلة في سماع قرآنٍ أو حفلة طرب.

هكذا كانت الحارةُ تعيش حياةً بسيطةً ساذجة، لا تكلف فيها ولا تعقيد، وإن كانت لا تخلو من الكدِّ والشقاء؛ حتى فوجئ أهلُها ذات يومٍ بحُفَر تمزقها طولًا وعرضًا، ومواسير تُمَدُّ في الشوارع لتدخل بعدها الحنفيات في البيوت، ويخرج الماء من الحائط بدلًا من أن يأتيَ به السقَّاء. ثم دار الزمن دورته وإذا بعامل يأتي ليخرم البيت من جديد، وإذا بالأسلاك تمتد وآلة صغيرة تركب وجرس يدق، وإذا بالتليفون، وإذا بنا نتصل بمن في القاهرة وضواحيها، بل بمن في أنحاء القطر، ويتصل بنا من أحب. ثم رأينا الأسلاك تخرم البيت، وتخرم كل حجرة فيه وتدخل بيتنا الكهرباء، فندير المفتاح مرة فتضيء الحجرة، ونديره مرة فتظلم.

وأخيرًا أتى العامل يَزيدُ الأحزمة حزامًا، ولكنه في هذه المرة حزام ناقص – خط رأسي وخط أفقي، وآلة لا يأبه لها النظر، وفي ذلك سرٌّ عجب، هذا هو الراديو – فيه علم إن شئت، وفن إن أردت، وناطق إن أصغيت، وساكت إن أعرضت، ومتحدث بكل لسان، وواصلك بكل مكان. إن شئت معلمًا فمعلم، أو غناءً فمغنٍّ، أو فنًّا ففنان – يهزل حيث تحب الهزل، ويَجِد حيث تهوى الجد، يمتاز عن التليفون بأن التليفون طالب ومطلوب، فإذا كان طالبًا فقد يفجعك بخبر، أو يوقظك من نوم، أو يحملك مطلبًا يشق عليك. أو يصلك بمحدث يثقل على نفسك، ثم تريد أن تتخلص منه فلا تستطيع فقد لزم الأمر، وحُم القضاء. أما الراديو فليس إلا مطلوبًا، وهو عبدٌ مطيع، وخادمٌ أمين. إما ساكت أو متكلم بما أحببت، نديم ظريف، جُهَينة أخبار، وحقيبة أسرار، ترياق الهم، ورُقْية الأحزان.

وكان الأستاذ “أحمد أمين” يدرك أن الليالي من الزمان حُبالَى، مثقلاتٌ يَلِدنَ كلَّ عجيبة، وأن العقلَ الإنسانيَّ سوف يأتي بالمذهل من الاختراعات والمدهش من الابتكارات، فقال في آخر مقاله: إن كنت أيها الراديو قد دخلت البيت أخيرًا فلست آخرَ ما يدخل، فهم يحدثوننا عن سلك آخر سيدخل قريبًا يحمل الصور كما تحمل أنت الصوت؛ فإن كنا الآن نسمع لك فسنسمع بعدُ ونرى. ومن يدري! لعل أسلاكًا أخرى تدخل فتوزع الحرارة والبرودة بقدر، وأسلاكًا وأسلاكًا؛ بل لعل هذه الأسلاك لا تعجب الجيل القادم فيراها بعد أن يتحرر رمزًا لعصر بغيض أولع الناس فيه بالقيود حتى سلسلوا بيوتهم بهذه السلاسل، وسيهزأون بهذا النوع من الحياة الساذجة التي تستعين على الرغبات بالمواسير والأسلاك، وسينظرون إلينا كما ننظر نحن إلى سكان ما قبل التاريخ، وسيعجبون إذا فرحنا باتصالنا بأهل الأرض مع أنهم اتصلوا بأهل السماء. وستعود البيوت من غير أسلاك ولكنها وافية بالمطالب التي نستمتع بها. والتي نصبو إليها، والتي لا يقدر خيالُنا الآن حتى على الحلم بها، ويخلق ما لا تعلمون.

وقد حدث ما توقَّعه الكاتبُ الكبير، وحدث ما هو أبعد منه، وتطورت وسائط الاتصالات التكنولوجية ووسائلُها بصورةٍ لا تكاد تُصدَّق، ووصلت إلى ذروتها في السنوات القليلة الماضية، وما خفي كان أعظم. ولا أحد يمكنه أن ينكر ما فيها كلِّها من خير ومنافع، تمامًا مثلما أنه لا أحد يستطيع أن يتجاهل ما فيها من شرور وأضرار. وفي الوقت الذي كان فريقٌ من الناس يرى في الإذاعة خطرًا على الأدب والصحافة والقراءة، خاطب أحدُ الشعراء الراديو قائلًا:

وحَّـــدتَ أنحــــاء الممالك كلِّها — وتكادُ تمزجها هوى وطِباعا

وجعَلتَ لـذات السَّرَاةِ ولهــوَهم — للــــــبائسين مسرَّةً ومـــتاعا

ونقلتَ من قَصرِ الغنيِّ سرورَه — فجــعلتَه بيــــن الأنامِ مُشاعا

وأذكر أن الأستاذ “أحمد حسن الزيات” قد نشر في مجلة “الرسالة” (31 ديسمبر 1934) مقالًا عن “الراديو والشاعر”، ذهب فيه إلى أن الراديو قد هزم الشاعر في كل قهوة، كما هزمت الآلة الإنسان في كل عمل! ففي كل مقهى من هذه المقاهي (البلدية) آلة من هذا الاختراع العجيب تُغري الأذواق العامية بالفن، وتروّض الآذان العصيّة على الموسيقى، وتنبّه العقول الغافلة إلى العلم، وتحبّب النفوس المستهترة في الأدب؛ فهي تقرأ القرآن، وترسل الألحان، وتذيع العلم، وتشيع اللهو، وتنشر البهجة!

ولكني مع ذلك عظيم الأسف على موت القَصَّاص، شديدُ الأسى على فقد الشاعر! فإن مخاطر الشهامة لـ (أبي زيد)، ومواقع البطولة لـ (عنترة)، ومواقف النُّبل لـ (سيف بن ذي يزن)، أصلح لتهذيب العامة فيما أظن مما يبثه المذياع كل يوم من النوادر الوضيعة، والأناشيد الخليعة، والألحان الرخوة!

ولكن الأستاذ “محمود غنيم”، وبعد أسبوعين اثنين من نشر مقال “الزيات”، نشرت له مجلة “الرسالة” نفسُها قصيدة طريفةً عن (الراديو)، وقف فيها على الجهة المقابلة، وقال في بعض أبياتها:

وآلةٍ جعلت من حــجـــــرتي أفُـــقًا — يَــــرتدُّ منحسرًا عن حـــــــــــــدِّه البصرُ

كأنما الكُــرة الأرضية انــحصرَت — في جوفها، والورَى في جوفها انحصروا

قد كنتُ أغشى بيوت اللــهو منتقلًا — فصار يسعى إلـــيَّ اللــــــــــــهوُ والسَّمَرُ

ثرثارةٌ إن أردت القـــــولَ ثــرثرةً — فإن أردت اختــــصارًا فـــــــهو مختصَرُ

في كلِّ يومٍ يرى للغــرب خــارقةً — يكفيه هــــــــذا ويكفي المشرقَ النـــــــظرُ

القوم يبتكرون المعجـــــــزات لنا — ونـــحن نفتَنُّ فــــــــــي إطراء ما ابتكروا

فهل ترى الشرق قد أدَّى رسالته — وهــــــل تــــــرى أنبياء الغربِ قد ظهروا

وحين ظهر التليفزيون رأى فيه جماعة من الكُتّاب والنقاد خطرًا على ذوق الناس وأخلاقهم، وزعم بعضهم أنه سوف يكون سببًا في تفكك العلاقات الأسرية، وأن سوف يؤدي إلى ضعف الروابط بين أفراد البيت الواحد؛ حيث ينبهر الجميع بما يعرضه من برامج ومسلسلات، وما يذيعه من أفلامٍ ومسرحيات، ويجلسون أمام شاشته في ذهولٍ واستسلام، لا يكاد أحدُهم يحسّ بصاحبه، أو يلتفت إليه، ويتحاقون حوله وهم في صمت عجيب، وكأنه صار لسانهم الذي ينطق بدلًا منهم، أو حتى عقلهم الذي بات يفكر بالنيابة عنهم.

وفي الوقت الذي علت فيه من هؤلاء وأمثالهم صيحات الإنذار والتخويف، وجدنا الشاعر “عامر محمد بحيري” يعبّر في إحدى قصائده عن وجهة نظرٍ أخرى، لا يخفى ما فيها من وجاهة وواقعية، ويقول عن “التليفزيون” في أوَّل معرفتنا به (مجلة الثقافة، 30 يوليو/ جويلية 1963):

إلى جــــانب المرئيِّ أنفقت لـــيلتي — فلا تسأليني: كيف قضيت سهرتي!

لقد طفت في الدنيا وصاحبتُ أهلَها — وحدَّثني أقـــطابُها رغـــم وَحــدتي

ولـــو كان كل الأمر لحنًا وصورةً — لما قنعت نفسي بلحــنٍ وصـــــورةِ

ولكنه الكــــون الكبــــــــير أرُودُهُ — وإني لفي بيتي وفي ظـــلِّ غــرفتي

لــــــــقد نقل المرئيُّ للبيت ملعبي — ومسرحَ تمــــثيلي ودار خيـــــــالتي

وأمتعني فـــي ســـاعةٍ بعد ساعةٍ — بأسفار عمري رحـــلةً بعد رحــــلةِ..

فيــا أيها المرئيُّ شاركتَ وَحدتي — وجدَّدت لي عمري وأذهبتَ وحشتي

لـــقد عشتُ عمري كلَّه ثم عشتُه — ومــــا مرَّ منه غــــــــــير يومٍ وليلةِ!

وبين يديَّ الآن، وأنا أكتب هذه السطور، كتابان قيِّمان للدكتور “أحمد صالح”، يقعان في ثمانمائة صفحة من القطع الصغير، ويتناولان آخر ما جدَّ من تقنيات التواصل وقت صدورهما، وأثرها في حياة الفرد وقيم المجتمع، أولهما عن “هوَس الإنترنت وتداعياتها الاجتماعية والسياسية” (سلسلة كتاب الهلال، مارس 2002) والثاني عن “صدمة الإنترنت وأزمة المثقفين” (سلسلة كتاب الهلال، يوليو/ جويلية 2005). لا يمكنني أن أستعرضهما هنا بداهةً، لكنني أشير إلى موضوعاتها إجمالًا؛ حيث كان الكتاب الأول دعوةً للإبحار والتجوال لسبر أغوار العالم المعلوماتي الجديد، لنرصد تلك الفجوة الرقمية بين أعنياء العالم وفقرائه، ولندرك ماذا يمثله العجز التكنولوجي عند الفقراء، وماذا تفعله تُخمة المعلومات وفيض التكنولوجيا عند الأغنياء.

أمَّا الكتاب الثاني فيرصُد نتائج ثورة الاتصالات وتفاعلاتها السياسية والاجتماعية، والثقافية والاقتصادية، والقضايا والحقائق والظواهر الجديدة في هذا العالم المتشابك؛ مثل ظاهرة الدين والتدين الافتراضي المنتشر على الإنترنت، وظاهرة الهاتف المحمول وتداعياته الاجتماعية والنفسية، ثم مستقبل القراءة والكتابة وأزمة المثقفين في عصر المعلومات.

ولعلَّ أخطر ما جاء في هذين الكتابين هو ما ذهب إليه المؤلف في آخر صفحات كتاب “صدمة الإنترنت”، حين ذكر أنه  ليس من المبالغة في القول أن العالم الآن على قمة منحنَى الكمال للتطرف في الشر، الشر الذي تنتشر إمكانياته أبعد بكثيرٍ من التي ورثتها أسلحة الدمار الشامل للدول القومية، ومن المدهش والفظيع أن سلطة الشرِّ المتطرف في يد قلَّةٍ من الأفراد الآن، فماذا يحدث حين تصل أيديه التكنولوجيا الجديدة، خاصةً إذا عرفنا أن التقدم السريع والجذريَّ الأخيرَ في الإلكترونات الجزيئية (Molecular Electronics) سيوفّر القدرة، بحلول عام 2030، على بناء (مكائن الحواسيب) التي تزيد قوتها مليون مرة عن حواسيب اليوم.

إن هذه القوة القوة الهائلة للحاسبات عندما تندمج مع التقدّم الموازي في العلوم الطبيعية، والفهم العميق الجديد في علم الوراثة، تصبح قوى تحويلية هائلة عندما يطلق لها العنان، وتتيح الفرصة لإعادة تصميم العالم بالكامل، سواء بالخير أو الشر!

وإزاء هذه القوة المدهشة والمرعبة لهذه التقنيات الجديدة، ألا يجب أن يكون السؤال المطروح هو: كيف نستطيع نحن البشر أن نتعايش مع تلك التقنيات بطريقة أفضل؟ وإذا كان انقراضنا هو الاحتمال القائم، أو حتى يمكن حدوثه، نتيجة تطورنا التكنولوجي، فكيف يمكن أن نتقدم مع الانتباه والحذر الشديد؟!

ومع خطورة هذا الكلام في حينه، إلا أنه يبدو الآن عاديًّا لمن يتابعون ما جدَّ من تقنيات الهواتف الذكية والحواسيب الرقمية، ويعرفون قدراتها الهائلة المرعبة، إن العالم بسبب هذه الثورة العلمية، كاد يكون افتراضيًّا في جملته، وأوشك الإنسانُ الطبيعيُّ أن ينقرض ليحل مكانه الإنسانُ الآلي الصناعي، لقد تمت عملية (رَقْمَنَة الإنسان)، وصار عبدًا لهاتفه الجوال، وتابعًا لكلِّ ما يثيره ويجذبه على مواقع التواصل والإنترنت.

حتى العلاقات الإنسانية في الأسرة الواحدة، صارت مهددة بالانهيار، بل بالتلاشي، فلا الزوج يهتم بزوجته مثلما كان، ولا الزوجة تبالي بمشاعر زوجها، وربما يجلسان مع أبنائهما في غرفة واحدة ومع كل منهم هاتفه، ينكفئ عليه منشغلًا عمّن حوله وعمّا حوله، تحسبهم جميعًا وعقولهم شتَّى، يجمعهم مكانٌ واحدٌ وتفرقهم الشواغل والأهواء، لقد صاروا غرباء رغم أنهم أقارب، ومتباعدين، رغم أنهم جيران؛ وكأنهم “الأرخبيل” (Archipel)، تلك الجزر المنعزلة في قلب المحيط، يظنها الرائي لتقاربها جزيرة واحدة، فإذا ما دقّق النظر تبينت له الحقيقة.

أذكر أننا كنا في القرية نتزاور ونتحاور، وحين يضمّنا مجلسٌ نأخذ في أحاديث السمر التي لا تُملُّ ولا تنتهي، كلٌّ يقصُّ حكاياتِه ونوادرَه، ويبث شجونَه وشكاواه، ويجد من الآخرين آذانًا مصغيةً ومشاعرَ مؤنسة، ساعتها يشعر المرء بالأمان والطمأنينة، ويدرك أنه ليس وحده، وأن هناك من يحسّ به ويتعاطف معه، بل ويشاركه ويواسيه، وينصحه ويشير عليه. وقد نظمتُ قصيدة حين مررت على بيت قديمٍ هيَّج عندي هذه الذكريات الجميلة وأثار حنيني إلى ذلك الزمن الطيب، قبل أن يبرد وهَجُ المشاعر، ويسكت صوتُ النَّدِيِّ، وتنفصم عُرَى العلاقات، قلت فيها:

هـــذا هــــــو البيتُ الذي جــــدرانه تتـــــذكَّرُكْ

أبوابُه.. شُــــرُفاتُهُ.. حتــــى النـــــوافذُ تنظرُكْ

في كلِّ ركنٍ فيــــه ذكــــرى لليـــــالي الخاليات

للأمسيات الدافئــــات.. وللعهــــود الغاليــــــات

طغت الفروعُ على الأصول فزُلْزِلَت وهو المقيم

ما زال يَعمُرُ رغم هــــذا العمر بالدفء القـــديم

بالصَّحـب يلتفون حلَقاً حول نار المَـــــــوقِــــــدِ

والشايُ زَغـــــــرَد بالغناء علـــــى بكاء المُنشِدِ

بالضِّحك واللهو البريء وبالحــــــديث الطيـــب

بالصالحين الذاكــــرين وبالصـــلاة علـــى النبي

وأولــــــو المهابةِ والشيوخ يعلِّمون ويُـــرشدون

والصبية الأغرار في أنس المجالس يَصخبـــون

حتـــــى النساءُ.. لهنَّ فيـــه مواعـــــدٌ ومجالسُ

ينــــثُـــرن فيــــــه فنـــونَهنَّ: عجـــائزٌ وأوانِسُ

ما زال هذا البيت يعبــــق كالمجــامرِ بالطيـــوب

بالدمعِ يرمُقُ هاجريه.. وبالمـزاهرِ مَــــن يؤوب

هو لم يزل مُـــذ كنتَ طفلاً… لم يُغَيِّره الــــزمن

يلقاك بالبِشْر القديـــم.. ولا يُسائلُ: “أنت مَن”؟

وهو ما لا نجد شيئًا منه في يوم الناس هذا؛ حيث صار الابن لا يصلُ أبويه إلا عبر الهاتف؛ هذا إن وصلَهما أصلًا، ولا يطمئن على أهله أو أصدقائه إلا في المناسبات والأعياد، هذا إذا خطروا على باله. وباتت الروابط الأسرية والوشائج الإنسانية في خطرٍ شديد، أمَّا الشباب الذين تحركهم الغرائز وتتحكم فيهم الشهوات فقد صاروا عبيدًا لهواتفهم، وشذَّ منهم من يقدر على التحكم فيها والسيطرة عليها، وهو ما ينذر بكارثة اجتماعية وإنسانية كبرى، تزلزل قيم المجتمعات وكيانها، وتهدد مشاعر البشر وطبيعتهم.

ولا أريد أن أَبدُوَ متشائمًا أو راديكاليًّا أو عدوًّا للتطور، فأنا لا أعتقد أن اختراعًا جديدًا، ظهر وغيَّر حياةَ الناس، ولو بعضَ التغيير، إلا كان له من يؤيّدونه ومن يعارضونه، بَيدَ أن حركة التطور السريعة المتلاحقة تمضي في طريقها لا تلوِي على شيء؛ فلا هي تفرح بمن يصفّقون لها، ولا هي تبالي بمن يَعبَسون في وجهها. ولا أظن أن أحدًا يقدر على إيقاف سيلها الهادر وتيَّارها الجبَّار، وأقصى ما يمكن أن نفعلَه أن نهدهِدَ من غُلَواء حماستنا، وأن ننتظر ما يمكن أن تنتهيَ إليه الأمور، وإن كان يَلُوحُ في الأفق ما يُوحي بخطرٍ عظيمٍ وشَرٍّ مُستطير!

إسراء نزال 3
إسراء نزال

إسقاط المسؤولية الثقافية على الجيل الرقمي.. مَهْرَب جديد للعربي!

إسراء نزال (كاتبة ومهندسة كيميائية فلسطينية من جنين)

قد تجدون العنوان قاسٍ بعض الشيء، لكنه ليس أقسى من واقع الثقافة العربية، فقد كان لافتا لي أن أقرأ أن الجيل الذي وُلد خلال تسعينيات القرن الماضي أنه يُمكن اعتباره “الجيل الرقمي” العربي وأنه يتميّز بتعدّد الثقافات والانتماء إلى المستقبل بشكلٍ قد يعزله عن ماضيه وثقافته العربية والوطنية جذريًّا خلال العقود القادمة. كما كان لافتا للنظر التساؤلات التي يطرحها بعض المثقفين وأذكر بعضا منها: كيف ترون ملامح الثقافة العربية في مرآة الجيل الرقمي؟ وما مصير قيمينا الروحية ومميزاتنا المجتمعية لا سيما ونحن ننتمي إلى حضارة روحية تختلف جذريًّا عن الحضارة المادية التي تعصف رياحها من عوالم الأنترنت وتؤصّل لإنسان “عالمي” ينتمي إلى الخارج أكثر من انتمائه إلى بيئته؟ هل تعتقدون بأنه من الواجب أن ندقّ ناقوس الخطر لحماية الجيل الرقمي وثقافتنا العربية والإسلامية أم نعتبر الأمر من ضرورات العصر ونُسلّم به؟

أرى في هذه الأسئلة مهربا جديدا تختبئ وراءه الثقافة العربية لتتناسى واقعها، لأن البحث بين سطور التاريخ والثقافة سيضع الأمور في نصابها الحقيقي دون السماح بإسقاط مسؤولية الثقافة على الجيل دون العروبة. لماذا؟

بداية عزيزي القارئ، من بديهيات نظرية الفراشة “فرع من نظرية الكم الفيزيائية” أنّ أيّ نظام يعمل في مراحله الأولى يتأثر بالشروط الابتدائية والتي تتذبذب كثيرا، ومن هنا يمكن أن تحدث تغييرات ضخمة وفي الوقت نفسه تلعب التغذية الخلفية دورا كبيرا مؤثرة على سلوك النظام وبالتالي على الحالة النهائية التي يمكن أن يصل إليها. (جون جريبين\ البساطة العميقة\ ص12).

ويتضح من هذا التفسير أن كل شيء وأيًّا كان هذا الشيء، هو نظام في نهاية الأمر، وإنه يتكون من عدة مراحل هي أولية ونهائية. وهذا تماما واقع جيل التسعينات الذي كان الحلقة الأخيرة قبل نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، وكما يخبرنا موقع (HISTORY EXTRA) البريطاني أن حقبة التسعينات قد شهدت تطورا تكنولوجيا رقميا ظنه الجميع قد وصل القمة ليُنهي عالما قديما ويبدأ آخر جديد، فقد كان الظن أن عام 2000 هو عام نهاية العالم الذي عرفناه أو بداية عالم من مستقبل غير متوقع. وعلميا يطلق على المرحلة ما بين النهائية والأولية “العقدة” التي تقع بين مرحلتين مختلفتين كليا، وهذا يعني أن جيل التسعينات يقع في مرحلة العقدة التي تفصل حقبة الثقافة الورقية عن حقبة الثقافة الرقمية، ومتشبعة بذبذبات نهاية الحقبة الأولى “الورقية” وبذبذبات بداية الحقبة الأخيرة “الرقمية”.

وبناء على ذلك، من المتوقّع أن يُمكِّن هذا جيل التسعينيات من أن يكون متعدد الثقافات ما بين عربية لا زالت وراء العصر الورقي وغربية أبدعت في الثقافة الرقمية، وبالتالي فإنّ الجيل الرقمي متشبع بماضٍ ثقافي ورقي وحاضر ثقافي رقمي. ومع ذلك تجد هذا السؤال – على حد تعبير بعض المثقفين – ما الذي يجعل الجيل الرقمي “جيل التسعينيات” منفصلا عن ماضي وثقافة العرب؟

والإجابة عن هذا السؤال هي ضمن السؤال التالي: هل الأمر يعود إلى خلل في جيل التسعينيات أم في واقع الثقافة العربية؟ فإن كان جيل التسعينيات جاء في حقبة “ذهبية” تجمع بين مرحلة نهاية الثقافة الورقية التي تمكّنه من تذوّق جمال طعم صعوبة الوصول للمعلومة والانتقال إلى مرحلة الرقمية التي تجعل الثقافة متعددة يسهل على الجميع الوصول إليها موحدة تحت نظام عالمي، فمن المتوقع ألا يكون هنالك قلق حول “ملامح الثقافة العربية في مرآة الجيل الرقمي”! إلّا أنّ التوتر المقلق حول الثقافة العربية يخرج من هذا السؤال الذي يطرحه بعض القراء والمثقفين “هل تعتقدون بأنه من الواجب أن ندقّ ناقوس الخطر لحماية الجيل الرقمي وثقافتنا العربية والإسلامية أم نعتبر الأمر من ضرورات العصر ونُسلّم به؟” ويقصد بالسؤال المخاوف من الإنترنت والرقمية وما تؤول إليه من عولمة الإنسان.

السؤال بحد ذاته هو ما يجب أن يضرب ناقوس الخطر بسبب طرحه، لأنه إشارة الى أن العقلية العربية لم تتعلم من خطأ قاتل ارتكبته ولا زالت مصممة على ارتكاب ذات الخطأ المدمر للثقافة العربية والإسلامية، ليأتي عربي ويسأل عن سبب التخلف لدى العربي عن التقدم الثقافي أو حتى العلمي! ما سبب القسوة اللينة في كلماتي؟

مرّ النص سواء كان عربي أم غربي بعدة مراحل تاريخية متصلة لا منفصلة، بداية كانت الثقافة تنتقل شفهيا من جيل إلى جيل ومن ثم جاء اختراع الكتابة (الحجر، أوراق الشجر، البردة… إلخ) وأخيرا جاء الاختراع الرقمي الذي يحوّل النص إلى لغة الحاسوب الثنائية (النظام الثنائي: 0 – 1)، وعبر لغات البرمجة تتحوّل لغة الحاسوب الى لغة يفهمها الإنسان.

ولم يكن من الممكن اختراع أمر دون سابقه، فكيف سيكون هناك لغة برمجة إن لم يكن اختراع الكتابة قد سبقها، وكيف ستكون هناك كلمة مكتوبة إن لم تنطق مسبقا! إذًا الاختراعات التي جعلت الثقافة – أيًّا كانت هذه الثقافة – تنتقل من جيل إلى جيل، هي اختراعات متّصلة زمانيا لا منفصلة، وفهم هذا هو ما ميّز الغرب وبالتالي ثقافتهم عن العرب، تحديدا فيما يتعلق بالثقافة الرقمية، لماذا؟

المطبعة، نعم المطبعة. جاء هذا الاختراع الأوروبي الألماني خلال القرن الخامس عشر بهدف سد تزايد الطلب على نسخ المؤلفات، بمعنى أن القرّاء الغرب كانوا في ازدياد والمطبعة جاءت لسد الحاجة لدى القرّاء. لكن، ورغم سعي الآباء اليسوعيين اللبنانيين على سبيل المثال لإدخال المطبعة الى العالم العربي إلّا أن العرب تأخروا عن الالتحاق بالاختراع أربعمائة عام بسبب “بايزيد” ثامن سلاطين الخلافة الإسلامية العثمانية الذي أصدر قرارا بتحريم إدخال المطبعة إلى الأراضي العثمانية (التي كان الوطن العربي من ضمنها)، بل كفَّر من يستخدمها، لكن سمح لليهود والمسيحيين استخدامها دون استعمال الحروف العربية! ولحق المطبعة التي تنتمي إلى مرحلة الكتابة الورقية، اختراع “الرقمية” التي انطلقت عام 1971 ويعود فضلها الى عالم الرياضيات الأمريكي “روبرت وينر”.

هذه الأربعمائة عام كانت كافية لحدوث فجوة ثقافية هائلة بين العربي والغربي، فالغربي الذي أبدع أشد إبداع في الثقافة الورقية عبر المطبعة، كان سبّاقا في المجال التكنولوجي والرقمي، حيث أن مقال “فانيفار بوش” (كيف نفكر؟) سنة 1945 من المقالات الأولى المؤسسة لظهور النص الرقمي، ويتبعه أعمال الألماني “تيولوتز” عام 1959. في المقابل، هذه الأربعمائة عام جعلت العربي متأخرا عن اللحاق بمطبعة الغربي وإذ تظهر الرقمية، ليكن العربي أمام خيارين: إمّا الرقمية دون الورقية التي تأخر عنها أربعة قرون، وإمّا مواكبة الرقمية والورقية في ذات الوقت!

وأعود بكم إلى سؤال: هل تعتقدون بأنه من الواجب أن ندقّ ناقوس الخطر لحماية الجيل الرقمي وثقافتنا العربية والإسلامية أم نعتبر الأمر من ضرورات العصر ونُسلّم به؟” والإجابة، كيف سيتم حماية الجيل الرقمي دون حماية الثقافة؟ وكيف سيتم حماية الثقافة دون مواكبة التطور الزمني والسياق التاريخي للنص (الشفهي، الكتابي، الرقمي)؟ هل هنالك رغبة عربية وإسلامية بإعادة الخطأ الذي حصل مع المطبعة وأن يبقى الناطق بالعربية يكرر الأسئلة التي يطرحها بعض المثقفين وطرحتها هنا للإجابة عليها؟ الرقمية لا مفر منها وإلّا مع الاختراع القادم للثقافة “الاستشعار الكمي” ستكون الثقافية العربية تتساءل: “ماذا أفعل مع هذا الاختراع وأنا بالكاد ألحق بسابقه!”؟ كيف يُسقطون المسؤولية الثقافية على الجيل الرقمي وهناك تقرير سنوي صادر عن المنظمة العالمية الفكرية عام 2008 ورد فيه أن نسبة التأليف في العالم العربي لا تتجاوز ثلاثة كتب لكل مليون عربي؟! أي اتصال للجيل الرقمي مع الماضي العربي إن كان هناك تخلّف عن الطباعة الورقية تسببت بخسارة مخزون ثقافي عربي تراكم على مدار أربعمائة عام..

ويلحق التخلّف بسؤال رجعي هو: هل هنالك خطر على الجيل من عولمة الإنسان وثقافته! وكأن اللحاق بالرقمية يمنع العربي من أن يكون عربيا وأن ينقل ثقافته العربية! بدلا من مخاوف الاستثمار في الوقت الذي يمرّ والتطور التقني الثقافي يتصاعد.. على العروبة أن تواجه الحقيقة الخطيرة وهي تقرير المنظمة العالمية الفكرية عام 2008 والذي هو إنذار بحقيقة أن الثقافة العربية هي التي لا تنمو البتة، فماذا هو متوقّع من الأجيال العربية التي تخلفت ثقافتها عن الورقية ولاحقا الرقمية؟ ليس أمام الجيل سوى ثقافات الغربي الذي ينقل ثقافته الرقمية محققا إبداعا في كافة الميادين. ومع ذلك هنالك تحدي خطير للمجتمع الأوربي وهو أنه يتقدم في السن مع فقدان الهرم السكاني لشكله حيث يحل المزيد والمزيد من كبار السن محل مجموعة متناقصة من الشباب، ليكن الحل هو السماح بهجرة الشعوب الأخرى إلى أوروبا لكن لا ذعر لدى الأوروبي من فقدان ثقافته أمام الوافد الى وطنه، بل يعمل مشروع “يورو فيجن” الثقافي الأوروبي على تطوير المجتمع الأوروبي لاستمرار مواكبة الرقمية الأوروبية التي تتغنى بأوروبا المليئة بالثقافات المهاجرة، في المقابل تجد العربي يخشى من أن ينسى الجيل الرقمي العربي ثقافته، وهذا يعود إلى معضلة الثقافة العربية لا الرقمية أو الجيل الرقمي.

في الختام، مستقبل الثقافة العربية لا يعتمد على الجيل الرقمي، بل على ذاتها بالدرجة الأولى، وذاتها تأتي من الإنسان الذي يبنيها، لكن يرى عالم الإنسان البولندي “مالينوفسكي” أن ثقافة أي مجتمع تنشأ في جو يتم فيه إشباع احتياجاته البيولوجية والنفسية التي يعمل على تلبيتها النظام الاجتماعي، ويرى الفيلسوف الألماني “هيجل” أن الوعي البشري محدود بالظرف الاجتماعي الذي يعيشه الإنسان. فإن كان الظرف الاجتماعي في العالم العربي مضطرب نتيجة الواقع السياسي، فكيف سيلبّي النظام الاجتماعي حاجات الانسان العربي كي تنشأ وتتطور ثقافته! أيّ ثقافة سيبنيها الإنسان العربي بعدما أصبح منهمكا بقوته لا بفكره؟ أيّ مستقبل للثقافة العربية متوقع في مرآة الجيل الذي ثقافته العربية قد توقفت عن النمو ويعيش في عصر ثقافات عالمه منفتحة على بعضها البعض في عصر الرأسمالية الثقافية؟! ولهذا وبناء على كل ما سبق، عنوان المقال هو خاتمته إسقاط المسؤولية الثقافية على الجيل الرقمي… مهرب جديد للعربي!

عبد الوهاب برانية 3
عبد الوهاب برانية

“ما للمنازل أصبحت لا أهلها – أهلي ولا جيرانها جيراني”..

اللغة العربية وتحديات الرقمنة

د. عبد الوهاب برانية (كاتب وباحث، جامعة الأزهر، خبير لغوي بمعهد الوسطية بجيبوتي – مصر)

اللغة العربية هي حاملة الهوية لكل مواطن عربي، يعيش داخل وطنه أو خارجه، وقد يحمل المواطن العربي عدة لهجات محلية أو إقليمية، فيعبّر بها عن كثير من احتياجاته المعيشية والسلوكية، وتستقيم حياته على هذا النحو من التفاهم، ولكن تبقى العربية هي الأساس الذي يُعَوَّلُ عليه في تحديد الانتماء العربي، لوطن من تلك الأوطان المنتشرة من المحيط إلى الخليج، وباتساع رقعتها في القارتين: الإفريقية والآسيوية، شمالا وجنوبا.

واللغة هي بالأساس الحاملة لحضارات الشعوب العربية والناقلة لثقافاتها وتراثها، والمُعبّرة عن هويتها، وبدون اللغة لا يأمن عربي على عربيته ولا يطمئن مواطن إلى استقرار هويته.

ومع هذه الأهمية لتلك اللغة الأصيلة والعريقة، فإنها أضحت تتعرّض لتحديات غير موقوتة بزمان ولا محدودة بمكان، فالتاريخ شاهد على الهجمات المباشرة، التي تعرضت لها اللغة العربية، على مرّ العصور، سواء أَكَشفت تلك الهجمات عن عدائها السافر للغة الضاد، أم توارت خلف دعوات مغرضة، تزعم الحرص على التيسير والتطوير، ولكنها في الحقيقة تدسّ السمّ في العسل، وتقدّم الموت وراء دعوات، ظاهرها فيه الرحمة وباطنها من قبله العذاب.

ولما كانت أغلب الدعوات مكشوفة الخطط، مفضوحة النوايا، فقد راح أصحابها ومَن وراءهم، يتفنّنون في إيجاد أساليبَ، أسرع استجابة، وأقل كلفة، وأوفر أثرًا، ثم وجدوا بغيتهم في الغزو التقني، فقد برعوا في الوصول إلى عقول شبابنا، بما اخترعوه من وسائل التواصل الاجتماعي: (الفيس بوك وتويتر وبرامج الشات وما على شاكلتها) فاستحوذوا على عقول الشباب والشيوخ والأطفال، واستنفد هؤلاء طاقتهم ووقتهم في التعامل مع تلك الوسائل، حتى لم تدع لهم وقتا، يجلسون فيه إلى بعضهم، ويتحاورون فيما بينهم، بل وجدنا كلًّا في عزلة عن صاحبه، وهو وإن جالسه، غير أنه لم يعره قلبا ولا عقلا ولا سمعا، فكيف بالله استطاع أولئك المتوارون بدعاواهم خلف اختراعاتهم، أن يصلوا إلى تلك النتائج السريعة، بأقل كلفة ، وأدنى جهد.

ونحن إذ نستنكر انبطاح الناس لهذه الوسائل، لا يعني رفضنا لمواكبة العصر والاندفاع خلف تطوّراته المتلاحقة، فهذا ليس بواردٍ في تفكيري ولا بمطروحٍ للمناقشة في مقالي، ولكن الاستنكار هنا، لموقف هؤلاء المنقادين بلا هوادة، المُرتمين بكلِّيَتهم في أحضان تلك الوسائل، غير مبالين بما تأخذ من وقتهم وجهدهم وعقلهم، وما تنتقص من هويتهم.

إن هذا الجيل من شبابنا، الذي يُنتظر منه الحفاظ على الهوية الثقافية والحضارية، هو مَن يُخشَى عليه، أن يكون سببا في ضياعها؛ فقد ظهرت عوامل التأثّر الشديدة، مُلِحَّةً أشدّ ما يكون الإلحاح، ومنذرةً أعجل ما يكون الإنذار، حيث راح يفقد كل يوم جزءًا ولو ضئيلا من هويته، بالتقليد الأعمى لكل ما يتلقاه عبر تلك المنصّات، في المظهر والمخبر، والمنشط والمكره، وغدَا لسان الحال يردّد مع القائل:

ما للمنازل أصبحت لا أهلها — أهلي ولا جيرانها جيراني

لقد صارت لغة هذا الجيل المتداولة على منصّات التواصل أخلاطا وأشباها، فلا هي عربية خالصة لعربيتها، ولا هي أعجمية خالصة لعجمتها، فتوارَت ألفاظ بمعانيها وجرسها، وحلّت محلّها ألفاظ أجنبية بمعانيها المسطّحة السوقيّة، وأضحى الجميع يتداولونها على أنها الأقرب للفهم والأنسب للتعبير عن الرأي، وغدت منطوقة على ألسنة العامة والخاصة، ولا يستطيع أحدٌ أن ينكر من ذلك شيئا، وباستطاعة كل إنسان له أدنى صلة بالهواتف والحواسب والمنصات الرقمية، أن يقف على جملة وفيرة من لغة تلك البرمجيات التي أضحت على كل لسان، ويجيدها عامة الناس وخاصتهم، ولا أظن أحدا لا يقف على كلمات مثل: (اللايك، وتعني: الإعجاب. والكومنت، وتعني: التعليق. والشير، وتعني: المشاركة). وهذه بدهيات التواصل التي يعرفها الأميّ والمتعلّم، ناهيك عن لغة الأيقونات التي حلّت محلّ لغة المشاعر والوجدانيّات، فاستبدلت بها رسوم تعبّر عن الحزن والكآبة أو الفرح والسعادة، أو الشكر والامتنان، أو الاحترام والتوقير، أو الاستنكار، وغيرها مثل القلوب الحمراء، والأيدي المنقبضة والمنبسطة، والورود والأوجه بمختلف أشكالها، مستغنين بتلك الأيقونات الصامتة عن اللغة المنطوقة والمكتوبة، التي لها طابعها الخاص، من مخاطبة القلوب والعقول، ولا يمكن أبدًا لمثل تلك المختصرات أن تقوم بشيء ممّا تقوم به اللغة المنطوقة والمكتوبة في أصل استخدامها.

عندما كنت في مرحلة الطلب، وكنت أقرأ بيت “أبي الطيب المتنبي”:

ولكن الفتى العربيَّ فيها — غريبُ الوجهِ واليدِ واللسانِ

ما كنت أتصوّر أن سيأتي يوم على المجتمعات العربية، ينطبق على شبابها كلام “المتنبي”، وكأنما كان الرجل يستقرئ المستقبل، بما سيكون عليه حال أبناء الوطن العربي، من اغترابهم في أوطانهم وجهًا، ويدًا، ولسانًا، ولكنه تحقّق في كثير منه في أزماننا الأخيرة منذ عقدين أو يزيد.

ربما يقول بعض القرّاء: إن الأمر ليس بهذه الخطورة التي يصوّرها المقال، وأنا أوافقه في أنّ الأمر يمكن تداركه، فلم نفقد كل أوراق اللعبة من أيدينا، ولكني أخالفه في الاستهانة بالأمر، فكأننا لا نتحرك إلا بعد وقوع الكوارث، وإن آثار التراجع في لغتنا بادية في إقبال غير قليل من أبنائنا وبناتنا على الغثّ، واهتمامهم بالسّطحي، وعزوفهم عن الثمين النافع، وإدبارهم عن العميق الأصيل، لهو أكبر دليل على وقوعهم أسرى تلك الفخاخ المنصوبة للغتنا وهويتنا الثقافية، فالبداية تكون باعتيادهم على التنازل الجزئي عن الثوابت والأصول المرعيّة، ثم شيئا فشيئا يستمرئون التنازل حتى يبيعوا الجَمل بما حمَل كما يقال، ولا يجدون ما يُمَسِّكون به من موروثاتهم الحضارية والثقافية.

وبتصفّح وسائل التواصل الاجتماعي، يدرك المُتصفِّح البصير، حجم الكارثة في كل شيء، فلا يستقيم له منشور خالٍ من الأخطاء اللغوية والإملائية والأسلوبية، فضلا عمّا فيه من تسطيح وسذاجة، وإن أكثر ما يزعج المُدقِّق في الأمر، أن يجد هذه الظواهر عامة بين أغلب الفئات والطبقات، وحملة أعلى الشهادات!

وإنّ تلك الآثار، المترتِّبة على الخضوع للمحتوى الرقمي العربي، الذي لا يتماهى مع قيمة اللغة العربية، وأهميّتها بالنسبة للمنتسبين لها، كلغة للعلوم والمعارف، ليمثّل تحدّيًا كبيرا وخطيرا يواجه تلك اللغة، ويلزم الوقوف حياله، بالتحليل والنقاش والدراسة، حتى لا نترك هويتنا في مهبّ الريح، يعبث بها من يريد أن يعبث، ومن تسوّل له نفسه المروق بناشئتنا إلى مهاوي التنازل البغيض غير المسؤول.

إن تأثر اللغة العربية بالتطور الرقمي أضحى من الموضوعات الجديرة بالاهتمام؛ ففي ظل الثورة الرقمية والتكنولوجية، التي تتطور كل يوم تطورا ملحوظا، بات حتما على الأفراد والمسؤولين معا التنبّه لمخاطر الانخراط غير المحسوب وراء كل ما تقذف به تلك الوسائل، فإنما هي كالسّيل العرم الذي يحمل الضار والنافع، وعلينا أن نأخذ منها ما ينفعنا ونتجنّب ما يؤذينا. فيمكن أن نأخذ من معطيات الثورة الرقمية كل ما هو إيجابي، من توافر المعلومات، وتداول المعارف والبيانات، ونفيد حتى من التعبيرات والمصطلحات الجديدة التي هي من نتاج تلك التكنولوجيا، لكن على أساس دمجها في تعاملاتنا، إلى جوار مرادفاتها العربية، التي تدل عليها، دون هجرها أو استبدال إحداهما بالأخرى، حينئذ نكون مواكبين لتطورات العصر، وفي الوقت نفسه محافظين على أصالتنا وهويتنا من التراجع أو الضياع.

وحيد حمود 3 1
وحيد حمّود

موسم الهجرة نحو الرقمنة

وحيد حمّود (كاتب من لبنان)

في كلّ موسم هجرة، يعمد المهاجرون إلى أخذ أغلى ما يملكون، يتفحّصون أماكنهم المتروكة، يتأمّلون كلّ شيء بمحاولةٍ لإبقاء الأثر في الذاكرة لأكثر وقتٍ ممكن، يحملون في جعبتهم كلّ ما يمكنه أن يعيد لهم، في أمكنتهم الجديدة، ذكريات الزمن المنصرم.. تلك الهجرة التي نعرفها، فماذا عن موسم الهجرة نحو الرّقمنة؟

ممّا لا شكّ فيه، أنّنا الآن – ومع اكتساح التّكنولوجيا للعالم، وبمؤازرةٍ من الحليف الأقوى “الذّكاء الاصطناعيّ” – قد دخلنا في مرحلة التلاقح الثقافي والحضاريّ والفكريّ، ومن ناحيةٍ أُخرى نحن في معركةٍ صداميّةٍ كُبرى سيكون النّصر حتميًّا للأقوى.

في بادئ الأمر علينا أن نعترف بأنّ التّفكير الورقيّ بات يندثر شيئًا فشيئًا، لقد انتقلت البشريّة من نقش أفكارها فوق الحجر والشجر إلى الورق ثمّ عصفت الثورة التكنولوجية الأولى لتتحوّل معها الأفكار والأشياء إلى أقراصٍ مدمَجة، والآن نحن في مرحلة الثورة التكنولوجية الثانية، فما في أدمغتنا لن يتّسع له الورق بعد اليوم، ولا الأقراص المدمَجة، بدأت تتلاشى الكتب الورقيّة والأقراص  والمخطوطات لتتشكّل عِوَضًا عنها الخزائن السّحابية، فبدل أن تحمل ألف كتاب في مكتبتك ستحتاج إلى سحابةٍ تخزينيّة غير مرئيّة تحملها معك عبر حسابٍ إلكترونيّ أنّى ذهبت. إنّها الحقيقة التي لا مفرّ منها، والواقع الذي يتجلّى رغم تشبّث الجيل غير الرّقميّ بذكريات الزمن المنصرم.

من زاويةٍ أُخرى، وبين جيلٍ أخذ الرقمنة وهو في منتصف عمره وآخر نشأ عليها، تتبدّى لنا صراعاتٌ فكريّة سيكون مصيرها الزوال بعد عشرين عامٍ من الآن كحدٍّ أقصى، ولكنّ هذه الصراعات التي ستصبح في غياهب النسيان ستأخذ معها الكثير من الأفكار والعادات والموروثات التي تأُسّست عليها ثقافتنا العربيّة، فجيل الرّقمنة لا يؤمن بأمجاد الأوّلين التي علّمونا في المدارس أن نتغنّى بها فهمّشوا واقعنا، وصوّروا لنا بأنّنا غير قادرين إلّا على الوقوف على أطلال السّابقين لننشد شعرًا فارغ المعنى، باهت المضمون، ثمّ تركونا نصفّق لما فعله الأقدمون دون أن نفعل شيئًا يُذكر للأجيال القادمة، وهنا يُطرح السؤال: بم سيفخر أحفادنا في المستقبل وقد استنفدنا طاقاتنا كلّها بالغناء على نغمة الماضي الذي تركه أجدادنا فلم نزرع لهم شيئًا يحتفون به؟

إنّ الجيل الرّقمي فهِم اللعبة قبلنا نحن وأقصد بـ “نحن”: جيل المخضرَمين، أي الذين يمدّون يدًا نحو الماضي وأُخرى نحو المستقبل.. عرف أنّه أمام مواجهتين حتميّتين، تتجلّى الأولى في الجِرار الفارغة التي تركها أهله دونما شيء، وتتمظهر المواجهة الثانية في خوض غِمار الزمن الرقمي وما بعده مع الخائضين، لا سيما الغرب الذي بات يسبقنا تكنولوجيًّا بسنوات وربما بقرن من الزمن.

ولا تخفى على أحد المخاطر والتّحدّيات التي سيواجهها الجيل الرّقمي في ظلّ هذا الانفتاح الذي يُقبل عليه، فصُنّاع الذكاء الاصطناعيّ ومطوّروه، وأصحاب التطبيقات الرقميّة، وأسياد الإنترنت، لن يقدّموا ما يقدّمونه مجّانًا، وهنا تظهر أزمة انسلاخ الهوية العربية عبر تقمّص عادات وأفكار سلبيّة تدخل كالسمّ في الأطباق الفكرية الشهيّة، وأخطر ما نراه الآن هو ظاهرة (المؤثّرين وصنّاع المحتوى الهابط) وهم كما يسمّيهم البعض “الفاتحون الجُدد”، فهُم يدخلون كلّ بيت، والتطبيقات تضجّ بهم، وكأنّ هناك هجمةً شرسة يقوم بها أصحاب تطبيقات السوشيال ميديا مثل: (فايسبوك، تيك توك، يوتيوب…) عبر تعديل نسبة إظهار المحتوى الهابط وتهميش المحتوى الجيّد، وهذا الأمر ليس بالصّعب، فصانع الشيء مالكه، يتحكّم به كيفما شاء، فيغيّب قضايا، كالقضية الفلسطينية، ويحارب من يذكر كلمة “إسرائيل” كاملةً بالسوء فيحجب حسابات ويلغيها تحت مُسمّيات “محاربة الإرهاب”، وبالمقابل، يفسح المجال أمام فيديوهات الرقص والتعرّي والمجون.

ومن ناحيةٍ أُخرى، لا نستطيع إنكار الحرب التكنولوجيّة الداعية إلى رفض الظلم وإظهار الهمجيّة الإسرائيليّة عبر التطبيقات الرقمية، ولن ننسى الأمر الذي طلبه مؤخّرًا الناطق الرسمي باسم حركة حماس ” أبو عبيدة”، حين دعا “الهاكرز” إلى القيام بهجمةٍ سيبرانيّة على العدوّ، حيث لبّى نداءه العديد من هؤلاء الشبّان الذين ينتمون لهذا الجيل الرقمي من عدّة بلدان عربيّة فكلّفوا العدوّ خسائر ليست بالحسبان.

نعود إلى أمر هذه الهجرة، الهجرة نحو الرّقمنة، إنّها مسألة وقت، وليس بالوقت الكثير، وسيبقى في الساحة الجيل الرقمي فقط، والجيل ما بعد الرقمي، وهذا الأمر مفتوحٌ على التطوّر التكنولوجيّ الذي يتقدّم يومًا بعد يوم، ولهذا فإنّنا أمام حاجةٍ ملحّة لكي نترك كلّ ما لدينا من أفكار بالية وانتصارات وهمية لا نحقّقها إلا في ساحات الـ (PUBG)، ونركب سفينة الهجرة نحو الرقمنة، لكي نسيطر عليها قبل أن تُسيطر علينا، وحتّى نُفَعّل إيجابياتها في خدمتنا وخدمة قضايانا المحقّة وفي الدفاع عن وجودنا وأفكارنا التي تتماشى مع هذا التطوّر، وإلّا فالقاع المظلم بانتظارنا، ولن يسمع صرختنا أحد.

 

محمد عواد 3
محمد عواد

أيّتها الأجيال المُرقمنة.. جهلنا كان أروع من “معارفكم”!

محمد عواد (كاتب وروائي من مصر)

منذ ثلاثة أعوام مضت، كانت تجلس بجواري ابنتي التي تبلغ الحادية عشر من عمرها، بينما كنتُ أعبث في هاتفي، أعيد صياغة عمل إبداعي لي، كنت أكتبه على “مذكرة الهاتف”، التفتَت نحو حيرتي، وعيناها تنظر نحو شاشة هاتفي، ثم ابتسمت ابتسامة ماكرة أسقطتها على جهالتي، ثم قالت قول محتكم عليم: “ألا زال أبي يكتب على “المذكرة”؟!، كيف لمثل أبي لا يحوي هاتفه تطبيق الـ (word)؟ ثم وضعته لي، وصرتُ أعتمد عليه بعد ذلك في كل شيء!

وهنا تبدو الإشكالية الكبرى، هذا الخلاف المتجذّر بين الجيل القديم والأجيال الحديثة حول عالم الرقمنة، فأجيالنا ترى أنه كارثي على المجمل، أما أجيالهم فترى جيلَنا عجبا من أمره، لا نفرّق شيئا عن “جاهلية قريش”!

وعندما ننظر إلى الأمر بحياديّة من كل جوانبه، وبعين متجرّدة مُنصفة، وبدراسة متأنّية لكل جوانبه، نستطيع أن نقول بأن الأمر يشبه كل أمر، له مواجبه وسوالبه، وهو في النهاية تطور طبيعي، مع مستجدّات العصر، شئنا أم أبينا.. فالتطور والحداثة في كل العصور، لها عصفها الذي لا تستطيع معه الأصالة صمودا أمامه، ودائما يبقى هذا الصراع المتواتر على مرّ العصور بين التجديد والأصولية، فلكل منهم مريدوه ومن يدافع عنه، حتى ولو وصل الأمر إلى بذل النفس عزيزة، فداء للأمر!

وعندما نتحدّث عن “الرقمنة” من وجهة نظر أجيال العجائز مثلنا، هم يرون أنها صنعت من عالمنا كله ـ كما يقال عنها ـ قرية صغيرة، تعرف كل شخوصها، وبيوتها، وشوارعها، وحتى مجاريرها، فضيّعت علينا خصوصيتنا، وأبعدتنا عن تواصلنا الحسي والجسدي، وبلورت عواطفنا في فضاء كاذب، لا يعبّر عن تواصل حقيقي، وحميميّة صادقة.. فيقينًا، يختلف كل الاختلاف “عزاءٌ” بمنشور على صفحة “تواصل اجتماعي”، عن عزاء تصافح فيه رفيقا بكلتا يديك، ثم تعانقه صدرا بصدر، حينها فقط، يستطيع هذا الشخص أن يشعر بالدفء النفسي، ودون ذلك، يشبه “خبزا جافا”، تأكله مع “إدام مُختمر”!

وعندما نفنّد الأمر، نقول أو نزعم بأنّ “الرقمنة” قد أفقدتنا حقا خصوصيتنا، فمثلا “هاتفك”، الذي صار يشبه قرينك معك، لا يغادرك ولا تغادره، حتى صار كعضو من أعضاء جسدك، تفزع فزعة أمٍّ فقدت طفلها، حين تلتفت ولا تجده بجوارك، في صحوك ونومك، في عملك وراحتك، يشاركك وسادتك، تهتم به أكثر مما تهتم بزوجك وولدك، صارت لعنته تطاردك، يستطيع به  أيّ أحد الوصول إليك، ويقتحم خصوصيتك، ويوقظك من نومك، ويستدعيك لعملك في غير موعدك، بل ويعاتبك على عدم ردّك، بل ربما يعاقبك على الأمر، بحجة تجاهلك، وقس على الأمر كل شيء يتعلق بحريتك، وخصوصيتك!

أمّا المدافعون عن الأمر، فلهم رؤية مختلفة تمامًا من وجهة نظرهم، ينظرون إلى منافع الأمر، بعيدا عن مضارّه، ويعتبرون أن الأمر يتعلق بذوقيّات التواصل، ولكن القيمة الحقيقية للأمر، تكمن في طوارئ الأمور، ويرون بأنك تستطيع أن تنقذ حياة أحدهم، بسرعة التواصل مع القادر على الأمر، كطبيب لحالة حرجة في المشفى، أو كهيئة دفاع مدني، مع حريق اندلع في بناية تقطنها أنت وأهلك معك..

ثم ننتقل إلى الشقّ الاجتماعي، فالحق كل الحق بأنّ الرقمنة قد صاغت مشاعر مُعلّبة، لا تشبه “طزاجة” المشاعر بين الناس، فشتّان بين مهاتفة عبر مناحي التواصل، وبين لقاء دافئ بينك وبين من تتواصل معه، تقرأ فيه حقيقة مشاعره، وصادق ودّه، تشتم في جلستكما تلك، عاطر أنفاسه، وروعة لُقياه، وعذوبة ودّه.. يقينًا، يختلف الأمر تماما، ويقينًا صنعَت “الرقمنة” شرخا عاطفيا بين قلوب الناس، يستحيل ترميمه لا قريبا ولا بعيدا، كان من نتاجه اغترابٌ عاطفي أصاب القريب منا والبعيد، فأسفًا صارت هذه الوسائل والمنصات، بديلا رخيصا غير مكلف، عن مشاعر حقيقية صادقة، فيقينًا يختلف الأمر، حين تذهب إلى شقيقتك في بيت زوجها، تسلم عليها وتجلس معها، تحكي لك، وتحكي لها، تبهجها أمام زوجها، وأولادها.. يختلف الأمر عن مكالمة هاتفية “مثلجة”، تنثال دمعاتها بعدها، على جفائك لها، يقينًا هناك شرخ عاطفي، فعلته “الرقمنة” بنا، شئنا أم لم نشأ!

وأيضا لهؤلاء منطقهم، يستطيع أن يسألك، حين تتحدث معه في الأمر: “وماذا عساك أن تفعل مع شقيقتك، إن كنت مسافرا هناك في بلد بعيدة عنها؟ هل بوسعك أن تراها وتتحدث إليها، صوتا وصورة بدون الرقمنة؟”.

وبعيدا عمّا سبق، تتهم أجيالنا “الرقمنة” بأنها فتحت باب الغواية والخيانة والفجور على مصراعيه، هي يسرت الأمر تماما، فبها وبغير غيرها، ربما تكون راقدا في غرفتك، وزوجتك وربما ابنتك، أو شقيقتك، تتواصل مع أحدهم يغرر بها، وربما يواعدها، وأنت في سباتك لا تدري عن الأمر شيئا، ناهيك عن الإباحية السهلة في كل مناحي منصات “الرقمنة”، فلربما تجاهد جهاد الأنبياء، في تربية أسرتك على قيمنا الدينية والأخلاقية، ويأتي موقع من المواقع، يلجه ولدك من باب الفضول، فيهدم كل ما بنيته في سنوات عمرك.. وعليه لا أحد ينكر أن الانفتاح المعلوماتي على منصاتها، كارثي بكل المقاييس، وليس هناك سقف له، وأيضا، ليس هناك وسيلة لحجبه، والأمر وصل بنا أننا لا نستطيع حتى مراجعة “هواتف أبنائنا، بحجة واهية ملأوا بها عقولهم، أسموها “حقوق الخصوصية”، وكأن الآباء والأمهات، ليسوا إلا أصدقاء لهم، تعرفوا عليهم في مقاعد المدرسة!!

وبمنطق الآخرين، يستطيع أن يرد عليك: “لماذا ينشغل الآباء بتلك الأمور وحدها؟، لماذا ينسون أنّ هناك مواقع أكثر وأكثر، دينية وثقافية وفكرية؟، لماذا ينصب فكركم أيّها القدامى، في الإباحية، والمثلية، والإلحاد؟، لماذا لا تنظرون إلى الجانب المضيء في الأمر؟ لماذا تصرّون على هذا التّشويه النفسي والسلوكي لأجيالنا؟ حقًّا نحن نتعجّب منكم “.

ثم نذهب إلى الجانب الفكري، ترى أجيالنا بأنّ منصات “الرقمنة” تم صياغتها خصِّيصًا لتكون أداة اختراق فكري، تنفذ إلى عقول أبنائنا، نفاذ الرمح في الصدر، يتم بواسطتها توجيه مجتمعي صوب رؤية لا تتماشى مع قيمنا وعقائدنا وأخلاقنا، كنشر الرذيلة والعقوق، والتمرد، أو لصياغة مجتمعات متناحرة، أو تغيير سياسي، أو ديموغرافي.. أضف إلى ذلك “الخلافات العشائرية”، و”الخلافات العرقية”، و”دعوات الانفصال”، وهي تملأ أوطاننا العربية من مشرقه حتى مغربه، يتم استخدام الرقمنة استخداما فعّالا لتهييج كل تلك الدّمامل المجتمعية، ودون أن يشعر أحد بالأمر!

وبمنطق الآخرين، هم يقولون أيضا: “استطاعت الرقمنة أن توحّد كلمة الشعوب، فجعلتها سواء، واستطاعت أن تزلزل عروش ومواريث للحكم، كانت سوف تظل تحكمكم كابر عن كابر، وخلف عن خلف، وهي التي استطاعت أن تعيد للشعوب كرامتها، أمام حكامها”، فتضحك أجيالنا بتهكم عليهم ثم ترد: “سلمت أيديكم، واقعنا اليوم أسوأ مما كنا عليه ألف مرة”.

وفي النهاية، ورغم كل ما يميّز الرقمنة من ميزات، وبتجرد حقيقي وإنصاف، لها ما لها، وعليها ما عليها، حقيقة، نستلذ بطزاجة طبختها، ونكتوي أيضا بشطيطتها، ولكن تتفوّق مسالبها على ميزاتها، والحل هو توعية أنفسنا وأجيالنا بأمرها، يجب علينا أن نصوغ رؤى، تنفّر من مساوئها، وتشجّع على ميزاتها، وأن نستثمرها الاستثمار الأمثل، بما فيه نفع مجتمعاتنا، والحفاظ على هويتنا، وثقافتنا، وأوطاننا، وألا نسير خلفها سير الفريسة نحو الذئب.. يجب علينا أن نمتلك حسًّا أمنيا حين نتعامل معها، حتى لا نكون ضحية لأعدائنا، ولا نمسي أغنامًا تسوقنا أعدائنا.. يجب أن نأخذ منها ثمرها، ونترك عليها عفن جذورها، علينا أن نكون شعوبا ناضجة، بمجدها وتاريخها وعلمها وفضلها على الأمم!!

وقبل أن أختم مقالي، أطالب كل الحكومات العربية، والتي لجأت إلى التعليم الإلكتروني عن بعد، بما يسمّونه “تعليم التابلت”، بالعودة فورًا إلى التلقين المدرسي الورقي، فهذه المنهجية من وجهة نظري، فرّغت كثيرا من الفكر الطلابي، وأفقدتهم عديدا من مميزاته، مثل الشق التربوي، والوطني والقومي، والمهارات الحسية المكتسبة مثل الرسم، والموسيقى، والخط العربي، ناهيكم، عن العلاقات المباشرة بين الطلاب وبعضهم البعض، والشق التربوي للمدرّس في فصول المدرسة، وما شابه هذه الأمور..

حقا! نحن في أزمة حقيقية، صراع جيلين، لا يريد الأبناء أن يعتنقوا فكر آبائهم، ولا يريد الآباء أن يعتنقوا فكر الأبناء.. وخلال عقدين من الزمان، ولا غيرهما، سوف ينتصر جيل الأبناء، رغما عنا، أقدارهم وأقدارنا لا محالة، سُنّة الله في خلقه. وقبل أن أختم، أود أن أقول لهم: يقينا! جهلنا، كان أروع من معارفكم، أسفًا لم تتذّوقوه”.

سعاد عبد القادر القصير 3
سعاد عبد القادر القصير

كيف تحوّلت “ألو.. حياتي” إلى (Alo 7ayeti)؟

سعاد عبد القادر القصير (باحثة وكاتبة من لبنان)

من تابع المسلسل اللّبناني “ألو.. حياتي”، بطولة “عبد المجيد المجذوب” و”هند أبي اللّمع”، يعلم أنّه مسلسل قائم على الهاتف.. واقعيّة تعتمد الحوار اللّغويّ، وتعطي التّواصل الصّوتي المباشر أهميّة عليا في عمليّة بناء علاقة إنسانيّة بين العاشقَين. فلطالما كانت لغة الحوار مرآة شخصيّة الفرد، ليكون واضحًا للآخرين، فلا يضع نفسه في دائرة الشّك والتّأويل والتّبرير.

فمتى تحوّلت “ألو.. حياتي” إلى (Alo 7ayeti)؟

منطوق عربيّ واحد ولكن استُبدلت حروفه بالأجنبيّة، تعابير مختلفة اجتاحت التّواصل البشريّ، هي لغة اللّا لغة، أو ما يُسمّى اليوم بلغة الإنترنت، فهل الإنترنت وطن له شعبه ولغته؟

هو ليس وطنًا، وليس أرضًا، ولكنّه عالم كامل، له لغته، وسكّانه، ومعالمه الخاصّة. ورغم أنّ العديد من العرب ما يزالون يستخدمون اللّغة العربيّة الرّسميّة، إلّا أنّ مستخدمي لغة التّواصل بطريقة غير تقليديّة جعلهم يقلبون الهمزة اثنين (2) والخاء خمسة (5)، وما إلى ذلك من اختراعات لغويّة في سبيل تطويع الحروف الأجنبيّة لخدمة اللّفظ العربيّ. ويعود ذلك إلى سيطرة اللّغة الإنكليزية على العالم الرّقميّ ممّا جعل مستخدميه يستسهلون تعريب الحروف الأجنبيّة بدلًا من العربيّة. فيظنّ البعض أنها أكثر حيويّة و(cool)، وتحاكي ثقافتهم العصريّة.

أمّا من يستخدم العربيّة المحكيّة في العالم الرّقميّ، فشوّه التاء والهمزة والقاف والكاف، وما إلى ذلك من حروف تُلفظ بطريقة مغايرة للفصحى، فجلست الإملاء في الزّاوية تبكي على حالها، تبحث عن طبيب لغة يُعيد لها جمالها المدفون في مجاهل العالم الرّقميّ، وطاحت القلوب على عتبات “الأُلوب”.. فهل يشكّل العالم الرّقميّ خطرًا على اللّغة؟

اعتدنا القول إنّ لكلّ شيء إيجابيّاته وسلبيّاته، وكما أنّ عالم الإنترنت سمح بتعلّم اللّغات بوسائل مختلفة وسهلة وسريعة، ومهّد لنا الطّرق من أجل الحصول على المعلومات بكبسة زرّ، وفتح لنا باب المناقشة مع الذّكاء الاصطناعيّ، فهو في المقابل شوّه هذه اللّغة بسبب طريقة استخدامها أوّلًا، وبسبب سيطرة اللّغة الإنكليزيّة على العالم، حيث دخلت العديد من المصطلحات على العربيّة وفرضت نفسها عليها، ولا يسعنا كعرب إلّا أن نتقبّل الفكرة ونتعايش معها، (أند تو موف أون) (and to move on)، لأنّنا ببساطة لا نمتلك صلاحيّة السّيطرة ونحن المُسيطر علينا.

فهل توقّف تدخّل العالم الرّقميّ باللّغة عند هذا الحد؟ أم تعدّاه ليغتال مشاعرنا الإنسانيّة بعد أن دقّ المسمار حتى أعناق لغتنا؟

إنّ اللّغة ما هي إلّا تعبير عن بيئة فكريّة وثقافيّة واجتماعيّة تُشكّلها بما يتناسب ومحيطها، فحين تتزعزع اللّغة تجرف معها النّفس البشريّة لا محالة. وكما اخترق هذا العالم الرّقميّ اللّغة، مدّ شباكه حتّى إلى العلاقات والمشاعر البشريّة، وبدأت آثاره تظهر بشكل واضح بلغة الحوار المباشرة:

?7ayete jeye teshar 3na lym

No ya 2albi, 5alya la bkra

حوار مُبهم، لغة مفكّكة، ضباب يغطّي صفاء العلاقات المتبادلة. وهنا تبدأ رحلتها في عالم الحزن الموازي، (block, unblock, status)، وتتخيّل حوارًا حقيقته الوحيد أنّه وهمٌ يدور في رأسها، يدور ويدور ويكبر، تلملم من صفحات الإنترنت كلّ ما يمتّ للاكتئاب من صلة، كلّ قصص الخيانة، والإهمال، والنّرجسيّة، تصمت وتبدأ مرحلة الـ (emojis)، مشاعر مختصرة ببعض الرّموز، وهل تتنفّس النّفس دون أن تحرّر الكلام المكبوت؟ دون أن تعكس مكنوناتها في عيون الطّرف الآخر؟

حوارات وأحاديث ترسلها دون أن تنطق بكلمة واحدة، أدخلت نفسها في عراك عاطفيّ لا وجود له، وقد تصل الأمور أحيانًا إلى قطع العلاقات بمجرد إلغاء المتابعة ومحو الصّور، ونشر بعض العبارات الفلسفيّة أو الدّينيّة أو الأدبيّة، الوحيدة التي تنال شرف النّشر بالعربيّة الفصحى، يجدون فيها التّعبير الحقيقيّ الذي فقدوه في محادثاتهم الفوضويّة. فلماذا يكون الاتّصال المباشر والتّواصل الحاسم صعبًا في هذه المرحلة؟

إنّ غياب اللّغة بمفهومها التّواصليّ والتّرابطيّ، من نبرة صوت، لغة عيون، حركة جسد، لغة حيّة اغتالتها الشّاشة الزّرقاء، واستبدلتها بعلاقات باردة، جافّة، جامدة، تعيش تحت تهديد التّأويل والتّهويل، كلّ ذلك بدأ يؤدّي إلى انهيار المنظومة المجتمعيّة المتينة.

أصبح الصّمت سهلًا، والعلاقات متباعدة، واللّغة مختصرة، والعبارات أجنبيّة معرّبة تشبه الطّلاسم. خلل اللّغة نهر يجرف معه المجتمع الإنسانيّ ستترجمه الأيّام مع الأجيال اللّاحقة.

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
النيابة تتحرك ضد الغش التجاري..حبس تاجر باع لحومًا مستوردة على أنها محلية الخارجية الجزائرية تجدد دعمها لمقديشو بعد الهجوم الإرهابي إيمان خليف تتحدى ترامب: "لن يمنعني أحد من الذهب في لوس أنجلوس" رئيس الجمهورية يعزي في استشهاد الطيار المقدم بكوش نصر إثر تحطم الطائرة العسكرية رسميًّا.. الوكالة الوطنية للعقار الصناعي تباشر مهامها هل تكمل الدول الإسلامية 30 يومًا من رمضان؟.. مركز الفلك يكشف هذه أبرز الملفات التي ناقشها اجتماع الحكومة تحطم طائرة عسكرية بأدرار.. والجيش يفتح تحقيقًا في الحادث مظاهرات حاشدة بالمغرب تطالب بإسقاط التطبيع مع الكيان الصهيوني إحباط محاولة إدخال 30 قنطارًا من الكيف عبر الحدود مع المغرب الجزائريون في رمضان.. حين يتحوّل العمل التطوعي إلى عادة مُتجذرة في المجتمع شراكة أمنية وتنموية بين الجزائر وتونس لخدمة المناطق الحدودية غزة تحت القصف الصهيوني.. عظّم الله أجركم فيما تبقّى من إنسانيتكم أيها...! في محاولة لتخفيف التوتر.. وزير الخارجية الفرنسي يتودد للجزائر رقم أعمال "جيتكس" للنسيج والجلود يرتفع بـ15 بالمائة في 2024 اليونيسف: المشاهد والتقارير القادمة من غزة تفوق حدود الرعب القضاء الفرنسي يرفض تسليم بوشوارب للجزائر.. هل تتصاعد الأزمة؟ وزير الداخلية التونسي يزور مديرية إنتاج السندات والوثائق المؤمنة بالحميز انتشار "الجراد الصحراوي" يُهدّد 14 ولاية.. وهذه المناطق المعنية الجزائر تُروّج لمنتجاتها الغذائية في صالون لندن الدولي