حتى وإن اقتصر الحديث والتفكير وتجسيد المشاريع المتعلقة بإنتاج الهيدروجين وتعقيدات العملية على مستوى القوى العالمية التي تتنافس لكسب تحدي الطاقة بكلفة أقل، إلا أن الدول النامية التي تتوفر على كميات هائلة من هذه الثروة المستقبلية يمكنها الاستفادة من الاستخدامات الطاقوية لهذا العنصر الكيميائي وإنتاجه بما يضمن لها سد حاجياتها من الطاقة النظيفة والاستغناء شيئا فشيئا عن موارد الطاقة التقليدية الآيلة للنضوب ، لكن ذلك يتطلب خططا مدروسة بعمق واستثمارات حتى إن بدت أرقامها خيالية إلا أنها ستجني على المدى المتوسط فوائد اقتصادية كبرى ويستدعي التقدم بخطى ثابتة بعيدا عن الهرولة العمياء.
الجزء الرابع.. الهيدروجين الخفيف في برنامج الانتقال الطاقوي الجزائري
طغى على موضوع الهيدروجين الأخضر، التسطيح في الكثير من الطروحات، وغلب في تناوله عنصر الإنبهار، كما توجهت جلّ الكتابات إلى التمركز حول جانب واحد منه فقط وهو الإنتاج، أي إنتاج الهيدروجين الأخضر عن طريق استخدام الطاقات المتجددة، بينما غفلت عن جانب مهم وهو ذاك المتعلق بتحويله إلى طاقة وإستخدامه طاقويا.
الهيدروجين ننتجه، لنخزن عن طريقه تلك الطاقة التي جرى ضخها واستخدامها لإنتاجه، وهو يتيح لنا بعد ذلك إعادة استخدام هذه الطاقة المُستعادة في مختلف المجالات، ليس كلية، إنما جزء منها، وهذا طبيعي بسبب الفقد الطاقوي، لذلك فالهيدروجين يعد حاملا طاقويا ووسيطا فعالا بين مختلف المصادر الطاقوية عامة، وإنتاج الطاقات المتجددة خصوصا وبين التطبيقات النهائية في مجالات الاستخدام له، لذلك ينبغي لنا أن نطرح السؤال الأساسي: ما هي جدوى إنتاج هذا الهيدروجين إذا لم نتوجه به إلى قطاعات الاستخدام؟ وهنا ينبثق السؤال الجوهري: ما هي جدوى هذا الاستخدام النهائي للهيدروجين؟
لننطلق من الفضاء الجزائري، فعلى سبيل المثال، الحظيرة الجزائرية للمركبات هي بحاجة إلى إدخال (ما بين 230 ألف إلى 300 ألف) مركبة سنويا. بما سيجعلها تتوسع بـما يقارب (2 مليون و400 ألف مركبة) في آفاق 2030، وهذا سيرفع حجم هذه الحظيرة إلى مستوى تسعة (9) ملايين مركبة خلال التسع سنوات القادمة.
لو نفترض بأننا سنستهدف جعل هذه الحظيرة تشتمل على (10 بالمائة/900 ألفلفأأ) من المركبات التي تشتغل بخلايا الوقود الهيدروجينية، ضمن مخطط إدخال الجيل الثاني من السيارات الكهربائية وحين نعود إلى سنة 2019، سنجد بأن الحظيرة الوطنية للسيارات التي اشتملت على (6,6 مليون) مركبة، قد استهلك في مجملها (15,4 مليون طن مكافئ نفطي)، أي ما يقابله (67 تيراواط ساعي).
لذلك ستكون الـ(900 ألف) سيارة التي ستشتغل بخلايا الوقود الهيدروجينية في الحظيرة الوطنية للمركبات في آفاق 2030 بحاجة إلى طاقة في حدود (9,2 تيراواط ساعي) وحين نعتمد على معطى أفضل مردود لخلايا الوقود ذات الأغشية المبادلة (PEMFC)، والتي يصل (60%)، ثم صعودا على طول سلسلة التحويلات الطاقوية، مع حساب كمية الفقد في كلّ مرحلة، مرورا بأجهزة التحليل الكهربائي للماء و وصولا إلى المحطات الكهروضوئية، سنجد بأن الحصول على هذا المقدار من الطاقة الكهربائية للدفع في محركات المركبات، هو بحاجة إلى إنتاج سعات كهربائية بمقدار (33,4 تيراواط ساعي)، أي أننا بحاجة إلى حظيرة وطنية من محطات الطاقة الشمسية بقدرة (7,6 جيغاواط)، و هو ما سيمثل (77%) من مجموع المحطات الشمسية الكهروضوئية التي سنقيمها بدءً من السنة المقبلة 2022 وصولاً إلى سنة 2030، أي سيستحوذ إنتاج الهيدروجين على أزيد من ثلاثة أرباع (3\4) منها.
لو نأخذ أيضا مجالا آخر يستهلك (28,37%) من الاستهلاك الجزائري النهائي للطاقة، وهو قطاع السكن، الذي يستهلك (14,3 مليون طن مكافئ نفطي)، وينمو استهلاك الكهرباء فيه بـ (2,7%) سنويا، خاصة وأن إجمالي عدد المشتركين حاليا قد وصل إلى عتبة (10 ملايين).سنجد بأنه في حالة إبقاء استهلاك الكهرباء على مستوى الحظيرة الوطنية للسكن تحت عتبة الـ (20 مليون طن مكافئ نفطي)،في آفاق 2030، ستكون بحاجة إلى (85 تيراواط ساعي).
لو نفترض بأننا سنستهدف كذلك إمداد (10 بالمائة) من هذه الحظيرة السكنية بأنظمة كهرباء وتدفئة تشتغل بخلايا الوقود الهيدروجينية. سنجد بأن طريقة الحساب ستختلف بعض الشيء لو نعتمد إمداد المنازل بالهيدروجين عبر الأنابيب بدلاً من عبوات التخزين، في هذه الحالة ستكون الحظيرة الوطنية بحاجة إلى طاقة كهربائية متأتية من تحويل الهيدروجين في حدود (25 تيراواط ساعي) ومحطات كهروضوئية بسعة (5,7 جيغاواط).
لذلك وفقًا لنمط الإستهلاك الطاقوي القائم في الحظيرة الوطنية للسيارات، مع إدخال الفعالية الطاقوية في محال البنيات والمساكن، سنجد بأنه سيترتب عن إدخال الهيدروجين ضمن نموذج الإستهلاك الطاقوي الوطني في آفاق 2030 توفير إمدادات طاقوية كافية، عبر إنشاء محطات شمسية كهروضوئية بسعة (13300 ميغاواط) خلال التسعة (9) سنوات المقبلة، بينما البرنامج الوطني للإنتقال الطاقوي يستهدف الوصول إلى (15000 ميغاواط) في آفاق سنة 2035.
هذا المقدار من الطاقة سينتج لنا ما يُقدر بواحد (1) مليون طن من الهيدروجين. بما يستلزم حشد ستة (6) مليار دولار لتركيب أجهزة التحليل الكهربائي للماء ” Renewable Hydrogen Electrolysers” فقط. كما أن تحويل هذا الهيدروجين إلى طاقة مستعملة من جديد يستدعي استثمارات هامة، فحين نؤسس حساباتنا على تقديرات التكلفة الرأسمالية، أي التكاليف المرتبطة بالنفقات الرأسمالية والاستثمارات على الأرض، والتي تشير إلى أن كلفة تركيب كل واحد كيلوواط من السعات المركبة لخلايا الوقود (PEMFC) تصل (39 ألف دولار)، زائدة تكلفة تشغيلية تصل (1000 دولار\كيلوواط). هنا سنجد بأن الكلفة على مدى عشر (10) سنوات من تركيب خلايا الوقود في المركبات والمساكن والمنشآت الثابتة سيكلف (160 مليار دولار).
هنا أجد من الملائم التذكير بأن المفوضية الأوروبية ضمن مسعى تحقيق أهداف إستراتيجية الهيدروجين “أوروبا المحايدة مناخياً”، قد حددت هدفًا، بحلول عام 2024، يتمثل في تركيب أجهزة للتحليل الكهربائي للماء لإنتاج لهيدروجين الأخضر بقدرة (6 جيغاواط)، والتي بإمكانها إنتاج واحد (1) مليون طن من الهيدروجين المتجدد. وبمجرد تحقيق هذا الهدف، ستواصل “المفوضية الأوروبية” بعد ذلك توسيع أعمال هذا البرنامج للوصول إلى سعة بـ (40 جيغاواط) من أجهزة التحليل الكهربائي للماء لإنتاج (10 ملايين طن) من الهيدروجين المتجدد بحلول عام 2030.
من خلال هذا العرض المُبسط والمختصر جدا، نجد بأن هذا الهيدروجين، الذي هو أخف العناصر الكيميائية، وأولها نشأة، وتمركزا في الجدول الدوري لخفّته، هو بحاجة إلى مخططات راسخة واستثمارات ثقيلة لتحقيق قفزات قياسية ووثبات ترفعنا. وعلينا تجنب الهرولة.
يتبع لاحقًا بإذن الله ..