زعمت «إكواس» – المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا – بأنها ستغزو النيجر، وتعيد «بازوم» ـ الرئيس المعزول ـ إلى منصبه، وأنها ستعاقب المتمرّدين وتبعث بهم إلى محكمة الجنايات الدولية، في ردّة فعل سريعة لم تكن لها سابقة في القارّة، مع العلم بأن زعماء الأنظمة المشكّلة لهذه الهيئة الإقليمية، في معظمهم جاؤوا إلى السلطة على ظهر دبّابة، أو بمكر من هنا أو خداع من هناك، تقف خلفه فرنسا مهندسة السياسات وراعية الانقلابات.
لكن، يبدو أن المجموعة لا تحقّق الإجماع حول خيار الحرب والتجييش، رغم أنها تُسَيّر عنوة في اتجاه تنفيذ وعيدها، إذِ اجتمع رؤساء أركان جيوش دولها في أبوجا بنيجيريا، ليعلن من هناك مفوض الشؤون السياسية والأمن في المجموعة «عبد الفتاح موسى» أنه “تم في هذا الاجتماع تحديد كل عناصر التدخّل العسكري المحتمل، بما في ذلك الموارد اللازمة، وكذلك كيف ومتى سننشر القوّة”، لكنه لم يكشف عن الموعد الفعلي، مُرجعا ذلك إلى أن التكتل لن يكشف لمدبري الانقلاب متى وأين ستكون الضربة؟ وهو قرار سيتّخذه رؤساء الدول.
إلا أن الأكيد المسكوت عنه، هو أن فرنسا هي التي تقف خلف سيناريو الحرب، وأنها بصدد البحث عن استصدار أمر دولي لشرعنة التدخّل العسكري، وهو الأمر الذي استعصى عليها، خاصة وأن الولايات المتحدة الأمريكية قد وقفت ضمن صفّ خيار الحوار والتفاوض، وأنها عينت سفيرة لها بـ«نيامي» في عزّ الأزمة، كإشارة إلى أنها لا تناصب الانقلابيين العداء، وأنها تفضّل مسارات الدبلوماسية، وهو الموقف الذي عبرت عنه الجزائر، وأكده وزير الخارجية والجالية الوطنية في الخارج «أحمد عطاف» أمام وزير الخارجية الأمريكي، «أنتوني بلينكين»، كما دافع عنه مندوب الجزائر لدى الاتحاد الإفريقي، وكذا رئيس لجنة الأمن والسلم التابعة للاتحاد.
عزم ثم تراجع
لقد سقط خيار التدخل العسكري إذا، أو قل مات قبل أن يولد، رغم شقشقة بعض دول المنظمة، وتراجع بعضها الآخر وتململ البعض المتبقي، فـ”نيجيريا” ـ القوة التي يُعقد عليها العزم ـ ليست تابعة إلى فرنسا، رغم حماسها للتدخّل العسكري، قبل أن تتراجع بعدما أوفدت مبعوثها إلى الجزائر، فيما بقيت السنغال وساحل العاج وبينين وغانا، وكلها دويلات ضعيفة متضعضعة لا يمكن أن تفعل شيئا دون نيجيريا، خاصة أمام تمرّد مالي وبوركينا فاسو، وهما عضوان في المنظمة، واللتان صرحتا بأن أي تدخّل عسكري في النيجر يُعدّ بمثابة إعلان حرب عليهما.
وبالتالي فعوض أن يبدأ العدّ التنازلي لبدء العملية العسكرية، تحوّل العدّ إلى بدء العملية السياسية، في تراجع ملفت لسعار الحرب، خاصة وأن المفوض «عمر علي توراي» قد صرح بأن «إيكواس» ترغب في “نجاح الجهود الدبلوماسية”، وتمنح مدبري الانقلاب في النيجر كل الفرص الممكنة للتراجع عما فعلوه.
ويبقى الآن شكل التراجع وكيفيته، فهم يرون ضرورة إعادة «بازوم» إلى الرئاسة، وأما غيرهم في الجزائر وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية فلا يهمّهم «بازوم» ـ إلا لاعتبارات إنسانية وقانونية ـ بقدر ما يعنيهم الحفاظ على السلم والأمن في البلد، ومباشرة حوار وطني لتنظيم انتخابات تشمل الرئاسية في أقرب الآجال، وهذا هو المقصود بضرورة العودة إلى المسار الدستوري للبلد.
للإشارة، فإن «إيكواس» هو الاختصار بالإنكليزية الذي يطلق على المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، وبالفرنسية تسمى «سيدياو»، وهي تكتّل يضمّ خمس عشرة دولة، هي: النيجر، نيجيريا، مالي، بوركينا فاسو، السنغال، غانا، ساحل العاج، توغو، غامبيا، غينيا، غينيا بيساو، ليبيريا، سيراليون، بنين، والرأس الأخضر، وهي دول لا تحقق الإجماع في أي من المسائل الإفريقية، إلا بما يخدم المصالح الخارجية لبعض الدول الأوروبية والتي على رأسها فرنسا.
وحتى أمام هذه المعضلة، لم يتم الاتفاق على موقف واحد، لا فيما تعلق بالحشد العسكري، ولا فيما تعلق بشقّ العقوبات السياسية والاقتصادية، فقد خرجت مالي وبوركينا فاسو ببيان مشترك يعتبر أن أيّ تدخّل عسكري ضد النيجر هو بمثابة “إعلان حرب” على البلدين أيضا، ورفضتا، إلى جانب غينيا كوناكري، الانضمام إلى أيّ إجراء من شأنه تنفيذ عقوبات ضد نيامي.
ورغم جعجعة التدخل العسكري، إلا أن دول منظمة «ايكواس» ليست في أحسن حال للقيام بأية مغامرة حربية، فقدراتهم العسكرية ضعيفة وبنيتهم القتالية باهتة، فحتى نيجيريا المعوّل عليها، تتعرض قواتها في كل يوم إلى ضربات موجعة من قبل بعض الكيانات الإرهابية المعشعشة هنا وهناك عبر البلاد، وللإشارة العابرة، فإن القدرات العسكرية لجيوش دول «إيكواس»، تختلف معنويا وماديا، سواءً على مستوى العدة والعدد، أو على مستوى الإمكانات والتكوين والتأهيل.
خلاصة الفعل
وبالتالي، فإن أي تدخل عسكري في النيجر، سيعتمد بشكل أساسي على الجيش النيجيري، وذلك بالنظر للإمكانات البشرية والعسكرية التي تتمتع بها نيجيريا، إذ تعد أكثر من 223 ألف عسكري، فضلا عن امتلاكها الحوامات والطائرات والمقاتلات والدبابات الحديثة، وإضافة إلى المكون العسكري لنيجيريا، فإنها جغرافيا تشترك مع النيجر في حدود طولها أكثر من 1600 كيلومتر.
وأما السنغال فيبلغ تعداد جيشها 17 ألف مقاتل، فهي تحتل المرتبة 125 في التصنيف العالمي، ورغم ذلك لا تزال وزيرة خارجية هذا البلد تصر وتؤكد على ضرورة المشاركة في الحل العسكري مهما كان الثمن، أما بينين الجارة الجنوبية للنيجر، فيتكون جيشها من 5000 فرد، وهي تحتل المرتبة 144 عالميا، ورغم هزالها، إلا أنها تريد غزوا عسكريا على غرار دولة السنغال.
ولذلك، يحذر الملاحظون والمتتبعون للشأن الإفريقي، من أية مغامرة عسكرية في النيجر، باعتبار أن مسألة الحسم العسكري لن تكون سهلة وسيطول أمدها، وستطول معها المعاناة لشعوب المنطقة، وسيتسبب ذلك في أزمات إنسانية لن تكون محمودة العواقب، وسيدخل نصف القارة في فوضى عارمة هي في غنى عنها.
ويُرجع بعض المحللين إصرار هذه الدول دون غيرها على الحل العسكري، إلى أن منظمة «ايكواس» تريد التخلّص من انقلاب النيجر حتى لا تنتقل عدوى الانقلابات إلى بقية دول غرب إفريقيا، إذ أن الظروف الاقتصادية والاجتماعية كلها توفر أرضية خصبة لتنفيذ مثل هذه السيناريوهات الانقلابية كما كان الشأن بالنسبة لدولة غينيا ومالي وبوركينا فاسو من قبل.
أضف إلى كل هذا، الضغط الممارس من قبل النظام الفرنسي، للمضي قدما نحو فرض الحل العسكري، لأن ذلك يصبّ مباشرة في صالح القوة الاستعمارية القديمة، الطامحة إلى إقامة الحجة أمام العالم بأن خروج القوات الفرنسية من إفريقيا، يعني بالضرورة دخول المنطقة في دوامة من العنف والانقلابات والانقسامات التي لا تؤثر على الأمن والاستقرار في القارة فقط، وإنه سيتطاير الشرر ليمسّ أوروبا وآسيا والعالم العربي، على الأقل عن طريق تدفّق اللاجئين والمهاجرين والفارين من جحيم الفقر والفاقة والحرب.
وبالمقارنة بين المعسكر القاري الرافض للحل العسكري، وذاك المطالب بالتدخل الحازم، يظهر الشرخ كبيرا بين المقدرات الجانبين، إن من الناحية العسكرية، أو من الجانب الاقتصادي، وبالتالي فإن خيار الحوار والتفاوض هو الخيار الفائز في هذه المواجهة، ولن تكون هناك حرب مهما كان الثمن، خاصة وأن الجزائر القوّة الضاربة عسكريا واقتصاديا، لن تتهاون هذه المرة ولن تغضّ الطرف عن مصير المنطقة التي هي جزء منها، ولن تترك الحبل على الغارب بين يدي غرباء يعبثون فيها كما يشاؤون، خاصة وان حلفا معنويا أكثر منه اتفاقا عسكريا يربطها بدولة مالي، موريتانيا والنيجر.
إذا، فليهنأ النيجر وليطمئن من جانب الخيار العسكري، فإنه لن يكون، وليبحث رجاله عن حلول توافقية ترضي جميع القوى الوطنية، لإيجاد أرضية جامعة تلبي طموحات الشعب النيجيري، وتحفظ كرامته وتعيد له استقلاله المختطف.