لعشرين عاما من سنوات عجاف متوالية ومرتّبة بشكل مترادف ومتسارع ومتشابه الأحداث والمخطّطات، علّمتنا النكبات والإستراتيجيات السياسية المعولمة، والتي نخرت الأمة العربية، أوطانا وشعوبا، كيانا ومكوّنا، دولا وأنظمة، أنّ دور الإعلام في تزييف الحقائق وتأطيرها وتعليبها على مقاس سيناريو أو مخطّط ما، لا يختلف عن دور أيّ سلاح فتاك، بل أنّ الحرب بمفهومها الحديث، لم تعد إلا ساحة “دعاية” وإعلام، إذا ما تحكّمت في أداوتها فقد كسبت أعظم المواجهات والحروب دون الحاجة إلى جيوش أو لصواريخ وطائرات نفاثة وبوارج حربية، وبمفهوم أوضح، فإنّ ما يمكن أن تقوم به قناة إعلامية مشهورة، وفق إستراتيجية حروب التعمية وأجندة الإلهاء والتهييج، يمكن أن يعوّض كلّ المواجهات التقليدية المباشرة وما كان يترتّب عنها من خسائر مادية وبشرية، كحالة حروب الغزو القديمة، وما خلّفته من آثار على القوى الاستعمارية قبل الدول المحتلة..
ما هو ثابت في عصرنا الحالي، أنّ المفهوم الحقيقي للاستعمار الحديث، الذي استبدل وجهه التقليدي السابق بأقنعة تجميلية توافق إستراتيجية الغزو “الناعم” الذي يخنقك بقفازات من حرير، أنّه لم يعد إلا تغلغلا داخل البنية الذهنية للشعوب المستهدفة وذلك عن طريق حروب “وكالة” مدروسة، جيّشت، مثلا، “العقل” الجمعي داخل الشعوب العربية في حالة مُسمّى الربيع العربي، لتجعل من شعوب الأوطان العربية معاول هدم، قبل أن تطيح، تلك الشعوب، بأنظمتها الديكتاتورية أطاحت بأوطانها، استقرارا وثروات ومُكوّنا إنسانيا، وكل ذلك عن طريق “إعلام” موجّه، كان هو السلاح الفتاك الذي مرّت من خلاله أجندات ومشاريع استعمارية، ما كان لها أن تمرّ بأعتى الجيوش، لكنها عبر قناة “الجزيرة” و”العربية” كمثال ونموذج، استطاعت أن تفعل في ليبيا “القذافي” وفي دمشق التاريخ وبغداد الفرات، ما لم تستطع كلّ القوى الاستعمارية بمفهومها التقليدي، أن تفعله على مرّ التاريخ والأزمنة، وكلّ ذلك، لأنّ الأجندة الحديثة، تبنّت إستراتيجية “خرق” السفينة من الداخل ثم عرض خدمات إنقاذها والسيطرة عليها وتوجيهها تحت مسميات “الحريّة والديمقراطية وحقوق الإنسان”، لتنتهي الحلقة بالتحكّم الكامل والتمركز “الناعم” في دفّة الربان أو القبطان، والنتيجة أنّه بدلا من معارك مواجهة وصمود، كانت تحفظ كرامة المقاومة والتضحية والرفض والتمرّد في حروب غزو وكرّ وفرّ وخسائر متبادلة، استطاعت لعبة الإعلام، أن تعلب العقل العربي للدرجة التي أصبحت فيها الشعوب العربية تستقبل غزاتها بالورود بدلا من البارود، والمهمّ في لعبة الأيادي الناعمة، أنّ اختراق الأمة العربية، وعكس السياسة الاستعمارية القديمة، المدجّجة بكلّ جيوش وأسلحة العالم، تمّ في عصرنا الحالي اختزاله في إعلام موجّه ومحترف، كسب معركة التلاعب بالمفاهيم، فأصبح تدخّل الناتو في ليبيا وسيطرته على ثرواتها النفطية، حماية ووصاية ونصرة، فيما اجتثاثه للعراق وتدميره لسوريا وتهجينه لمصر واستحواذه على آبار الخليج كحقّ سقاية أممي، نشرا للديمقراطية ودفاعا عن الحرية..
الجزيرة بين الربيع “العبري” و”طوفان” الأقصى !
قناة “الجزيرة” القطرية، وقبل أن يتعرّى دورها “التهجيني” ووجهها الحقيقي في مسمى ثورات الربيع العربي الذي أنهى أزمنة وأوطانا، تمّ تسويقها للذهن العربي، كمشروع إعلامي تحرّري واعد، حيث استطاعت بلاطوهاتها ومعاركها الدونكيشوتية، أن ترسّخ في العقل العربي، أنّها “صوت” الأمة الذي يتصدّى ويحارب بالنيابة عنها، والغريب، في تلك الولادة التمويهية لحمل بلا “أب” ولا “نطفة” ولا حتى تسعة أشهر من انتفاخ “بطن” مشهود، أنّ الرأي العام العربي الذي احتضن معجزة تنفّسه عبر الجزيرة، لم يتساءل، كيف لإمارة قطر، التي تتوسّد أراضيها قاعدة “العديد” الأمريكية. والتي تعتبر الأكبر من نوعها في الشرق الأوسط، وتستقبل 10 آلاف جنديا، كما تحوي أكبر مخزون للعتاد والآليات العسكرية الأمريكية، كيف لتلك القطر “المحتلة” والمسلوبة السيادة والإرادة، أن تتحوّل عبر قناة “فضائية” إلى قِبلة لحرية الشعوب العربية ضدّ أنظمتها وضدّ الهيمنة والمصالح الأمريكية والغربية؟ والأكثر من ذلك، كيف لقناة الجزيرة، التي تجرّأت بلاطوهاتها على تهديم كلّ قصور الأنظمة والحكام العرب من المشرق إلى المغرب العربيين، أن تتعامى عما تتوسّده إمارة “موزة” عن “احتلال” أمريكي مباشر لم تره كاميرات القناة في قاعدة “العديد” الجوية، فيما رصدته في أنفاس الشعوب العربية في مسرحية “ربيع عربي”، كانت قطر هي “عرّابه” العبري، الذي عجّن الخراب العربي على مقاس الاحتلال الناعم أو حروب بالوكالة عن مصالح غربية وأمريكية لم تعد دولها تحتاج إلى جيوش وعدّة وعتاد لتصفية وإزاحة من يقف في وجه مشاريعها ومصالحها الاستعمارية، وكان يكفيها قناة “الجزيرة” كأداة “تثوير” حتى تصبح ليبيا وبغداد ودمشق أثر بعد عين !
بعبارة أدق، الجزيرة كمشروع تأطير وقولبة ناعمة للمجتمعات العربية، ورغم أنّ أجندتها في مسمّى “الربيع العربي” افتضحت وخاصة بعد أن استيقظ الوعي لدى الشعوب العربية على واقع “الخراب” الذي خلّفته تجربة تثويرها “الشعبوية”، عادت، أي تلك الجزيرة، إلى الواجهة عبر ملحمة طوفان الأقصى، لتركب الموجة وتسترد عذريتها في محاولة اغتسال من عار الربيع العربي عبر طوفان الأقصى، لكن السؤال الذي يفرض نفسه، هل فعلا قناة الجزيرة أصبحت لسان حال المقاومة كما ترسّخ في الذهن الجمعي من اليوم الأول لطوفان الأقصى؟ وهل الصورة المقدّمة حول مواكبتها وتغطيتها للأحداث ولخطابات أبو عبيدة ومغامرات الفارس “الملثّم” وكذا للمجازر التي تجري، صورة من يقف مع طوفان المقاومة أم أنّ المخرج الحقيقي لمسرحية الربيع العربي، الذي خدع الشعوب باسم الحرية والديمقراطية، استنسخ له خديعة “أخرى” في ساحة غزة، لتكون اللعبة برمتها، أنّ دور القناة، يحتاج إلى قراءة أخرى ولرؤية نصف الكأس الفارغ من زاوية تمّ تغييبها عن سبق تأطير و”عجن”؟
الجزيرة ونصف الكأس الفارغ !
الظاهر والمُسَوَّق له في مواكبة وتغطية قناة الجزيرة لكلّ شاردة وواردة مما يحدث في ساحة غزة والأراضي المحتلة، أنّ دورها كان محوريا، فمن اليوم الأول لملحمة طوفان الأقصى، وكاميرا القناة لها من الحضور ما جعلها المصدر الأول لأخبار المقاومة وكذا فضح الإجرام الصهيوني من خلال المذابح التي اقترفها نتنياهو وشلّة محرقته، كما أنّها دفعت ثمن تموقعها غاليا من أرواح عدد من مراسليها الذين استشهدوا في ساحة التغطيات، لكن السؤال المعلّق، في تغطية الجزيرة، التي استطاعت كاميراتها أن تجنّد، ليس فقط الرأي العام العربي، ولكن الرأي العام الدولي أيضا ضدّ المجازر الصهيونية، كيف لنتنياهو وإعلامه وعصابته من مسمّى قادة جيشه، أن يتجاهلوا ويتعاموا على ذلك الدور المحوري للقناة، ويتركون لها ذلك الهامش الكبير جدا من “حرية” التنقّل والتصوير والبث المباشر، رغم يقينهم المطلق، أنها كانت رقما فاعلا في “تسويد” وجه “إسرائيل” وكشف جرائمها؟
سؤال يمكن أن نضعه في مساحة نصف الكأس الفارغ، الذي لا يمكن أن نملأه، بمبرّر قناعة نتنياهو بحرية الإعلام، أو خوفه من ردّة فعل دولية، لأنّ الذي لم يضع اعتبارا لمذبحة من ثلاثين ألف ضحية ولا لقرارات محكمة لاهاي، لا يمكنه بأيّ حال، أن يضع اعتبارا لأيّ ردّة فعل أخرى، والتفسير الوحيد، أنّ هنالك شيء غامض، هدف ما، في تساهل إسرائيلي غير منطقي مع كاميرات تنقل مشاهد إجرامها وصور قتلاها! فترى، أيّ فائدة جنتها حكومة نتنياهو من وراء صمتها، وهل هو عجزها أم أنّ وراء الأكمة ما وراءها من نتائج لم ينتبه لها عقل الأمة العربية، الذي تمّ حشره في زاوية اليأس والتيئيس الممنهج والمعد سلفا؟
الواقع أنّ تغطيات الجزيرة ومرافقتها للمحرقة من يومها الأول ولوحشية الإجرام الصهيوني لحظة بلحظة، كانت وجها آخر من مخطّط تحتاجه “إسرائيل” لاستعادة صورتها عن طريق نقل الرعب إلى الضفة الأخرى، رعب بلا حدود ولا ضوابط ولا سقف زمني معلوم، رعب كان يجب أن يتجاوز حدود غزة، ليصل إلى الذات العربية، ويزرع فيها، أنّ تحدي الكيان الصهيوني في أيّ مغامرة قادمة، ضريبته أكبر من أن يتصوّرها أيّ عقل، كما أنّ العالم بكلّ هيأته الأممية وشعوبه، لن يستطيع وقف “إسرائيل” حين تجنّ أو يداس لها على طرف، والرسالة الواضحة في مجزرة غزة، ليست فقط عقابا لغزة ولكنها مذبحة “كونية” موجّهة لما وراء غزة من أرض وإنسان وأجيال فلسطينية قادمة، وما هو معلّق هنا من أسئلة، هل استقالة الشارع العربي وعودته إلى خُم “يوميات” علفه ودورته الرغيفية، مردّه لمواقف أنظمته المتخاذلة، أم أنها إستراتيجية الترويع الصهيوني التي يتمّ عرض مشاهدها كل يوم، من رسّخت في المجتمعات العربية، أنّ “إسرائيل” التي فقدت قيمة “الجيش الذي لا يقهر” بسبب طوفان الأقصى، عادت من نافذة “المجنون الذي لا يرتدع”، و”الوحش” الذي لا حدود لهمجيته، إذا ما تم استفزازه؟
بعبارة أكثر وضوحا، في خاتمة هذا المقال، أليس التسويق المبتذل والمدروس والممنهج للبلطجة والوحشية والدموية الصهيونية التي لا حدود لها، كان جزءا من مخطط “التيئيس”، الذي أخرج غزة بشكل خاص وفلسطين بشكل عام من حرب “تحرّرية” إلى بقية من إنسان لم يعد يريد من العالم إلا حماية روحه؟
مجمل القول وخاتمته.. كيف لـ”إسرائيل” التي ثارت بجنون في وجه الرئيس البرازيلي، تنديدا بمواقفه من جرائمها، كما أعلنت حربا على جنوب إفريقيا بسبب دعوتها التي رفعتها ضدّها في محكمة لاهاي، ناهيك عن حساسيتها المفرطة من كل تصريح ضدّها لأيّ وجه سياسي، أن تغضّ البصر، ليس فقط عن “جزيرة” فضحت مذابحها وأصبحت ناطقا رسميا لأبي عبيدة ولبطولات الجندي “المقنّع” وللوعة جدّ الطفلة “روح الروح”، ولكن عن إمارة قطر، لا زالت تحتضن تلك القناة المعادية “؟”، بالإضافة إلى قادة المقاومة؟ أليس في الأمر لبس لنسأل بشكل مباشر، هل الجزيرة لسان لطوفان الأقصى أم أنها “غمد” لعملية “السيف الحديدي”، ولكن بشكل خادع الجميع في غزة، كما خادعهم في مهزلة الربيع “العبري”، وما ترتّب عنه من خراب أوطان ونهاية أمة؟