ساد التهليل والتكبير كلّ مساجد القطر الجزائري، صبيحة عيد الفطر الذي احتفى به الجزائريون ـ على غرار الشعوب العربية والإسلامية ـ وتبادلوا ـ خلاله ـ التهاني فور إنهائهم صلاة العيد، لتتفرّغ العائلات بعد ذلك لمرحلة تبادل الزيارات والتبريكات مع الأقارب، في مشهد تتوق مختلف الأجيال إلى إحيائه في هذه المناسبة.
ولا يختلف عيد الفطر لهذا العام ـ 1444هـ ـ 2023م ـ عن الأعياد الفارطة، إذ جدّد الجزائريون حرصهم على التمسّك بسُنّة الخروج إلى صلاة العيد مشيا، حيث تتجلّى تلك المظاهر الاستثنائية التي تطبع الأجواء العامّة ـ في البلاد ـ بمشاعر المحبة والتلاحم والتغافر بين الناس.
وعلى هذا المنوال خرجَ الجزائريون على مستوى التراب الوطني ـ وبالخارج ـ عن بِكرة أبيهم، إلى المساجد للتكبير والتهليل، والاستماع إلى خطبتي العيد وأداء الصلاة، بعد شهر من الصيام والقيام تمّ اختتامه بتأدية واجب إخراج زكاة الفطر، تعزيزا لمبدأ إعانة الفقراء والتكاتف بين المسلمين، وتطهيرا للصائم مما يكون قد وقع أثناء الصيام من رفث ولغو وما إلى ذلك.
وفور إنهاء الصلاة تبادل الجزائريون ـ داخل بيوت الله وخارجها ـ التبريكات والتهاني، ما أفشى مظاهر البهجة والفرحة بقدوم العيد، إذ شهدت الشوارع والساحات ومختلف الأماكن الأخرى، حركية برزت من خلالها صور الأطفال بلباسهم الجديد وما يحملونه من هدايا ولعب اقتنوها، فزادوا الأجواء رونقا وبهجة وجمالا.
رغم أنف التكنولوجيا
كما أن للأسر الجزائرية تقاليد خاصة تجعل من فرحة العيد تغمر جميع أفرادها، ولاسيما ما تعلق بتزيين المنازل وعرض أشهى الحلويات، تحضيرا لاستقبال الضيوف المُهنّئين بالعيد، بالرغم من أن عصر التكنولوجيا قد قلّص الزيارات التي تم تعويضها برسائل على مختلف وسائط التواصل الاجتماعي أو الرسالات النصية.
إلا أن الكثير لا يزال يتشبّث بتقليد زيارة الأهل خلال أيام العيد، ويحرص على الحفاظ عليها وتوريثها للأبناء، في حين يتسابق جزائريون إلى زيارة المرضى ودور العجزة لتقديم تهاني العيد والوقوف إلى جانب هذه الفئات التي تحتاج إلى المساندة والتّعاطف والتضامن خلال أحد أهم أيام العام لدى المسلمين.
وبالرغم من أن الأمر قد يختلف بالنسبة إلى حراس الحدود ومختلف الأسلاك الأمنية والعاملين في القطاع الصحي وبعض الهيئات الرسمية، وكذا المؤسسات ذات الطابع الخدماتي ودور الطفولة وغيرها، والتي أجبر الواجب المهني والأخلاقي المنتمين إليها على العمل خلال يومي العيد، إلا أن استقبال هذه المناسبة ببهجة وتأمّل في قبول الطاعات والعبادات هو ذاته بالنسبة إلى عموم الجزائريين الحريصين على تأدية هذه الشعائر شأنهم شأن مختلف الشعوب العربية والإسلامية الأخرى.
وشهدت مختلف المقابر خلال هذه المناسبة العظيمة حركة غير عادية بإقبال المواطنين عليها للترحم على موتاهم وتذكرهم بالدعاء لهم والتصدق عليهم طلبا لمغفرة الله، وكل ذلك تمّ في أجواء تترجم هي الأخرى المعاني السامية للدين الإسلامي الحنيف.
ثقافة مجتمعية
وقبل حلول مناسبة العيد، اتخذت العديد من القطاعات والمصالح إجراءات ترمي إلى قضاء عطلة العيد في أحسن الظروف، على غرار أسلاك الأمن الوطني، النقل العمومي ومراكز البريد، وفي هذا الإطار، كانت كل من قيادة الدرك الوطني والمديرية العامة للأمن الوطني قد سطّرت مخطّطا أمنيا لتأمين المواطن وحماية الممتلكات وحفاظا على جو الطمأنينة والسكينة طيلة أيام العيد.
أما الشيء الذي لا يمكن إغفاله ـ خلال رمضان هذا العام ـ فيكمن في إقبال الجزائريين على أعمال الخير والتّمسك بالدين السمح من خلال الحرص على تأدية الصلاة ـ وتحديدا التراويح ـ في المساجد، وكذا تكريم حفظة القرآن الكريم في الشهر المبارك
هذا دون نسيان حملات المشاركة في إفطار عابري السبيل وتقديم المساعدة إلى المحتاجين مع تنظيم موائد إفطار جماعية في مختلف المدن الجزائرية، ما سمح ببروز صورة بدت أعمق مما كان الأمر عليه سابقا حين اقتصرت هذه الأعمال والمبادرات على الناشطين والدعاة والعاملين في المجال التطوعي.
هذا الواقع جعل من التّمسك بالدين والعمل التطوعي ثقافة مجتمعية تنتشر في كل مكان، إلى درجة انخراط مصالح رسمية وهيئات في هذا المسعى من أجل مواكبتها مركزيا ومحليا، في مختلف هذه المناطق، من حيث التنظيم والحضور والمشاركة، وهو ما يعتبره أغلب الجزائريين سلوكا رائعا بحاجة إلى ترشيد وتطوير واستدامة.
قلعتان لجموع المُصلّين
وفي كل عام تصنع جموع المُصلّين في مساجد غرداية وأدار، مشاهد روحانية تخفق لها القلوب، وتجعل من هذين القلعتين مصدر فخر للجزائريين، فصور وفيديوهات المُصلّين هناك، وهم باللباس الأبيض الناصع الذي يرمز إلى النقاء والسلام وسماحة الإسلام، انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، وتم تداولها في مختلف مناطق العالم.
ودأب سكان غرداية وأدرار ـ من مختلف الفئات العمرية ـ على الخروج لتأدية صلاة العيد، في صورةٍ تُترجم عُمق العلاقة التي تربط الجزائريين بواحدةٍ من أعظم شعائر الدين الحنيف، وهو ما يحرص عليه كافة أفراد المجتمع الجزائري لعزيز أواصر الأخوة وبثّ روح التسامح والتكافل الاجتماعي، فضلاً عن كونها فرصةً لتقوية الوحدة العقائدية والثوابت المرجعية للأمة.
وبما أن الجزائر البلد القارة، تسخر بفسيفساء من التقاليد والعادات التي توارثتها أبًا عن جدّ، حرصت العائلات على إحياءِ هذه العادات الراسخة والمتجذرة، حيث لا تتخلى الأسر عن عادة اقتناء “كسوة العيد” كطريقةٍ وأسلوبٍ لإدخال الفرحة والبهجة على قلوب أبنائها، وإخراجهم بأبهى حلّة أمام أقرانهم يوم العيد، وذلك من باب التفاؤل والسرور بحلول عيد الفطر المبارك.
سوق الحلويات التقليدية
أمّا الأسواق الجزائرية، فلها عبقها الخاص خلال هذه المناسبة، فغير بعيد عن ألوان الملابس وجمال تصاميمها، يرسم باعةُ المكسرات ومستلزمات الحلويات بمختلف أنواعها، فسيفساءَ ذهبية تخطفُ الأبصار بجمال ألوانها المتراصة والمتناسقة، في صورةٍ تعكس حرص الأُسرِ الجزائرية على اختيار أجود وأطيب أنواع المكوّنات لتحضير ما لذ وطاب من الحلويات التقليدية.
وبمجرد حلول العشر الأواخر إيذانًا برحيل الشهر الفضيل وحلول عيد الفطر السعيد، شرعت النساء في تحضير الحلويات الخاصة بهذه المناسبة، ولعل أشهر هذه الأنواع «التشاراك» المسكر أو «العريان» وحتى «المعسّل» أو «قرن الغزال» كما يحلو للبعض في بعض المناطق تسميته، وهو من بين أفخر وألذ الحلويات التقليدية الجزائرية، وتأخذ هذه الحلوى شكل الهلال وتُغطّى بطبق من السكر الناعم الذي يعطيها لونها الأبيض.
ويحتل «المقروط» كذلك، مكانةً خاصة على طاولة العيد الجزائرية، سواء مصنوعًا باللوز المعروف في العاصمة ومدن الوسط، أو بـ”الغرس” (عجينة التمر)، الذي تشتهر به ولايات شرق الجزائر، ليتم وضعه في العسل بعد قليه في الزيت، إضافة إلى حلوى «الطابع» وهي حلوى يتم تشكيلها في قوالب معدنية أو بلاستيكية بأشكال هندسية مختلفة، والبقلاوة والدزيريات وعدة أصناف أخرى.
ومن أشهر العادات المتوارثة خلال هذه المناسبة الدينية العظيمة، عادةُ تبادل صحون الحلويات بين العائلات أو الجيران، وذلك الصحن هو هدية العيد “الحلوى” أو عربون محبة، يتبادلها الجزائريون كنوع من أنواع التغافر وتمتين العلاقات الاجتماعية.
وهناك تقليدٌ آخر، يرتبط بفئة الأطفال بشكلٍ خاص، ولا يمكن الاستغناء عنه أو إغفاله، وهو «العيدية» التي تعدّ من بين أقدم وأهم مظاهر وطقوس الفرح والبهجة بعيد الفطر لدى الأطفال الذين ينتظرون حلوله بفارغ الصبر، من أجل الحصول على عيديتهم التي غالبًا ما تكون عبارة عن مبلغ مالي بسيط يمنحها لهم الزوّار من الأهل والأقارب.