معادلة غضب الطبيعة وتقصير الإنسان.. هل تحدّ القوانين من ظاهرة بناء السكنات على ضفاف الأودية؟

انتشرت منذ عدة سنوات، ظاهرة البنايات الفوضوية المشيّدة على ضفاف ومجاري الوديان، في عديد من ولايات الوطن، وهي أراض غير صالحة لعمليات البناء كونها زلقة وعُرضة للفيضانات الفجائية. إذ يؤدّي البناء الفوضوي بالقرب من مجاري الوديان إلى وقوع مخاطر داهمة على حياة السّاكنة وممتلكاتهم، ويعرِّض مستقبل عائلات بأكملها إلى حوادث مأساوية في أيّ لحظة، كما يزيد من تعقيد هذا الوضع، سلوكيات رمي الأوساخ والنفايات في الممرات المائية الجافة.

وهو ما يتسبب أيضاً في تشويه جمالية البيئة والمكان التي تصنعها الأودية وتنحتها عوامل الطبيعة والطقس بمرور الأزمنة، لا سيما في المناطق الرطبة والغابية، وهو ما يُعد جانباً سلبياً آخر لهذه الظاهرة المنتشرة في مناطق البلاد شمالاً وجنوباً. ويعتبر مشكل البناءات العشوائية على ضفاف الوديان من المُعضلات المُؤرقة للسلطات العمومية، وتُشكّل في نفس الوقت خطرا قاتلا على المواطنين بسبب احتمال وقوع فيضانات وسيول فجائية لتلك المسالك المائية الطبيعية النائمة في غالب الأحيان نتيجة شحّ التساقط.

فعلى الرغم من الجهود التي تبذلها الدولة الجزائرية للحدّ من الكوارث الطبيعية، أدّت السيول والفيضانات التي شهدتها بعض ولايات الوطن مؤخراً، جراء التقلبات الجوية الأخيرة، إلى تضرّر العديد من البنايات المشيّدة بالقرب من مجاري الوديان.

تحدّ كبير أمام السلطات العمومية

هذا، وتحوّلت ظاهرة الكوارث الطبيعية وفي مقدمتها الفيضانات وبكل تبعاتها الثقيلة من خسائر مادية وبشرية إلى تحدّ كبير أمام السلطات العمومية والجماعات المحلية، وتأثيرها المباشر على برامج التنمية جراء التفكير الدائم في كيفية حماية هذه التجمعات السكنية من مخلفات الكارثة، لكنها بالمقابل رفعت سقف برامج الوقاية وأساليب المواجهة عن طريق سن جملة من القوانين بداية من القانون رقم 20/04 لسنة 2004 المتعلق بالكوارث الكبرى، وإنشاء صندوق وطني للكوارث الطبيعية، ونصوص تشريعية أخرى صارمة لمراقبة المشاريع السكنية والأحياء التلقائية والسكنات الفردية المشيدة على حواف الأودية أو قريبا من شبكات الغاز الطبيعي وخطوط الكهرباء ذات التوتر العالي.

ضرورة تفعيل مخطّطات التّهيئة والتعمير بالمدن

أكّد الكثير من المختصين في قطاع السكن والبناء بالجزائر من خلال الملتقيات والأيام الدراسية التي نظمت في مناسبات عدة وعبر التقارير المرفوعة من قبل الخبراء عن سبب تفاقم ظاهرة البنايات الفوضوية والهشة، أو ما يعرف حاليا بالأحياء التلقائية والسكنات الفردية المشيدة بطريقة عشوائية، أغلبها على أطراف المدن وحواف الأودية التي يسعى حاليا القانون 08/ 15 لتسويتها، “أنّ بداية هذه الأزمة وتداعياتها الاجتماعية والتنموية تعود إلى فترة التسعينيات وطيلة مرحلة الأزمة الأمنية التي تسببت في نزوح عشرات العائلات والمواطنين من القرى والمناطق النائية إلى مراكز المدن التي أوجدت ما يعرف حاليا بأحياء الصفيح أو البؤر السوداء التي تفتقد إلى شروط ومعايير البناء القانونية، وأصبح أغلبها معرض لخطر الكوارث الطبيعية خصوصا الفيضانات التي تتسبب في خسائر مادية وبشرية كبيرة.

ونظرا لتفاقم الأزمة وارتفاع فاتورة الخسائر التي تتسبب فيها الظاهرة، وتكاليف التعويضات التي تخصصها الدولة لمواجهة مثل هذه الأخطار مجتمعة بما فيها الحرائق والزلازل، لجأ المشرّع الجزائري والسلطات العمومية إلى تحيين وتفعيل كثير من القوانين والنصوص التشريعية لمواجهة الأزمة والتقليل منها، وأيضا مراجعة الكثير من القوانين المتعلقة بشروط البناء وضرورة احترام معايير السلامة كان من أهمها مشروع القانون الخاص بتسيير المخاطر الكبرى، ومخططات الوقاية بوزارة الداخلية بهدف تحديد مسؤوليات كل قطاع للتدخل والوقاية، فيما أعلن وزير الداخلية قبل أيام خلال انعقاد الملتقى الدولي للحد من المخاطر “أن مصالحه بصدد القيام بمراجعة شاملة للأساس التشريعي للمنظومة الوطنية للمخاطر الكبرى”.

كما شدّد عدد من المختصين والمنتخبين المحليين، على أهمية تفعيل العمل بمخططات التهيئة والتعمير للبلديات “بدو”، ومخطط شغل الأراضي مثلما نص عليه القانون 90/ 29، الذي يحدّد شروط البناء والتخطيط العمراني للمدن والأحياء السكنية الجديدة من أجل الحفاظ على الطابع الحضري والمعماري للمدينة والمحيط البيئي، ومحاربة مثل هذه التوسعات العشوائية والأحياء التلقائية التي أعطت صورة سلبية، وكانت سببا رئيسيا لحدوث مثل هذه الكوارث جراء تعمد تشييد سكنات بحواف الأودية ومجاري المياه والمساحات الهشة المعرضة لخطر انزلاق التربة جراء الأمطار.

خراب في العمران والبُنى التحتية

وقبل تجربة فيضانات فوكة وبوسماعيل بولاية تيبازة، وقبله في عدة ولايات من الوطن بكل ما تركته من خراب في العمران والبنى التحتية وحتى خسائر بشرية، ما تزال ولاية بومرداس تقدّم بعض التجارب السلبية لمثل هذه الظواهر الطبيعية مجتمعة بداية من زلزال 21 ماي 2003، إلى عدد من الفيضانات التي تسبّبت في كوارث وخسائر كبيرة في بعض الأحياء المجاورة منها شبكة الطرقات مثلما شهدته مدينة دلس سنة 2007، بلدية سيدي داود، برج منايل وغيرها وأغلبها ناجمة عن فيضانات الأودية جراء تقليص قنوات مجاري المياه نتيجة الرمي العشوائي للنفايات الصلبة، والتوسع غير المشروع للسكنات الجديدة التي استفادت من رخص بناء بطرق ملتوية، خصوصا بعد الزلزال، حيث انتعشت مشاريع قطاع السكن، وظهرت معها عشرات مقاولات البناء، والمرقين الذين شيدوا بنايات وأحياء تفتقد إلى المعايير القانونية والبيئية، حيث يدفع اليوم المواطن والسلطات المحلية ثمنها.

60 عائلـة معرضة للخطر بواد سيدي الكبـير في البليدة

وفي ولاية البليدة، تقطن ما يقارب 60 عائلة على حواف واد سيدي الكبير الذي يهبط من أعالي جبال الشريعة نحو سهل المتيجة، حيث أنجزوا سكنات قصديرية بدأت تنتشر منذ نهاية التسعينيات، وبداية العقد الأول من الألفية الثالثة. في هذا الصدد، قال عمر بوزوينة المندوب الفرعي للمجلس الشعبي البلدي لضاحية سيدي الكبير، في تصريح صحفي،  بأن عدد السكنات الفوضوية المنجزة على حافة الوادي لا يتجاوز العشرة في إقليم بلدية البليدة، لكن العدد الأكبر يفوق 40 في إقليم بلدية بوعرفة المجاورة.

وأكّد المتحدث ذاته، بأنّ هذه البنايات الفوضوية بدأت تنتشر خلال الأزمة الأمنية التي عرفتها الجزائر، هروبا من الإرهاب الذي أضرّ كثيرا بسكان المناطق الجبلية الذين غادروا سكناتهم خوفا على حياتهم، فحدث نزوح نحو المدينة. وتحدّث عضو المجلس الشعبي البلدي لبلدية البليدة قائلا: “من المفروض تقدّم هؤلاء بإيداع طلبات للحصول على سكنات اجتماعية، لكن بحسب معلوماتي فقد سبق ترحيل بعض العائلات التي كانت تقيم على حواف واد سيدي الكبير، لكن البنايات بقيت، ويكون قد شغلها آخرون، وبحسب معلوماتي – يقول المتحدث – فإن العائلات التي استفادت من السكن باعت تلك البنايات الفوضوية”.

وأضاف المتحدث: “من الضروري أن يتصدّى رئيس المجلس الشعبي البلدي لظاهرة تشييد بناء سكنات على حواف الوادي بتفعيل اختصاص الضبطية الإدارية، كما أنّ حياة هؤلاء العائلات مهددة ولو يعود الواد إلى حجمه كما في السابق، أي ارتفاع منسوب المياه به بفعل تساقط أمطار غزيرة، سيزيح ما في طريقه ويجد هؤلاء السكان أنفسهم في سهل بلدية شفة”.

وختم بقوله: “يمكن ترحيل هؤلاء السكان نحو سكنات لائقة خاصة وأن عددهم لا يفوق 100، لكن بعد ترحيلهم يجب تهديم بنياتهم القصديرية وتكليف شرطة العمران بالتصدي لمن يرغب في إقامة بناية فوضوية من جديد، خاصة وأن القانون يفرض الحصول على رخصة البناء من قبل البلدية، وأن يكون صاحب البناء مالكا للعقار الذي يريد استغلاله لهذا الغرض”.

ومن جهته، قال مدير الموارد المائية لولاية البليدة، عبد الكريم علوش، في تصريح صحفي، بخصوص هذه البنايات المنجزة على حواف واد سيدي الكبير رد قائلا: “نحن ضحية لأن هؤلاء السكان يجعلون قنوات الصرف الصحي تصب في الواد، وبالتالي تُلوثه وتكون له تأثيرات بيئية أخرى بفعل هذا التلوث مثل انتشار الحشرات في المنطقة”.

وفي هذا الصدد، صرّح المندوب البلدي قائلا: “أتذكر جيدا في فترة الثمانينات أنني كنت أسبح في واد سيدي الكبير لأن المياه كانت نقية، وكانت مكانا سياحيا بامتياز، لكن الآن، تلوّثت مع الأسف وهذا بفعل مياه الصرف الصحي”.

أمّا مسؤول قطاع الموارد المائية فتحدث عن ماضي واد سيدي الكبير قائلا: “قرابة خمسين سنة والبليدة تمون بمياه الينابيع المنتشرة في جبال الشريعة أي قبل حفر أنقاب مائية في سهل متيجة، ومن بين هذه الينابيع، ثلاثة تقع في وادي سيدي الكبير، لكن في الأعلى بعيدا عن هذه السكنات الفوضوية”.

خطر الفيضانات يهدّد “سكان الأودية” بمستغانم

وفي ولاة مستغانم، تعيش العائلات التي تقطن على ضفاف الأودية والأنهار على وقع خطر الفيضانات نتيجة التساقطات المطرية وارتفاع منسوب المياه، الأمر الذي يستدعي تسخير آليات وبرامج استعجاليه للحد من خطورة هذه الكارثة الطبيعية.

إذ بات نزول المطر بكميات معتبرة في وقت وجيز يشكل خطرا حقيقيا يهدّد مناطق بأكملها، إذ يتسبّب في قطع طرقات وفيضان الأودية وسيول كبيرة تطال المنازل إثر ارتفاع منسوب المياه.

ويعيش سكان العديد من المناطق ببلديات الولاية لاسيما بالجهة الشرقية في رعبا حقيقيا، ففي منطقة عيزب القريبة من وادي الشلف التابع لبلدية مستغانم، تتجلى المعاناة وتتحول أيام العائلات الى كابوس خاصة مع التقلبات المناخية ونزول كميات كبيرة من الأمطار، بحيث تقضي أغلب العائلات أحلك أيامها خلال فصل الشتاء، وما تسبّبه قوة تيار الوادي وارتفاع منسوب مياهه لتغمر بيوتهم وتتلف ممتلكاتهم، وهو المشهد الذي يتكرر كل موسم.

هذا، إلى جانب خطر المياه الراكدة التي تتسرب مع مرور الوقت الى أسفل المباني، ممّا تسبّب في ظهور تشققات على جدران تلك المساكن ممّا يجعل سقوطها على قاطنيها أمرا واردا في أي لحظة.

وأمام خطر الفيضانات التي باتت تهدّد أمن حياة القاطنين على ضفاف الوادي، أكّدت الجهات المعنية على إحصاء هؤلاء العائلات، حيث سيتم التكفل بهم حسب الأولوية، كما أكّدوا على محاربة والتصدي لكل من يتجرّأ ببناء السكنات الفوضوية على ضفاف الأودية والأنهار.

الحد من السكنات المشيّدة على حواف الأودية.. ضرورة قصوى

وفي هذا الصدد، يقول أستاذ كلية الحقوق والعلوم السياسية بجامعة بشار، الدكتور لعرباوي نبيل صالح، بأنّ الجزائر عرفت في السنوات الأخيرة انتشارا واسعا لظاهرة البنايات الفوضوية والعشوائية بمختلف أشكالها، ممّا أثّر سلبا على البيئة والأراضي الفلاحية والطابع الجمالي والهندسي للبنايات، ودفع ذلك بالمُشرّع الجزائري إلى إصدار القانون رقم 08/15، الذي يحدد قواعد مطابقة البنايات وإتمام انجازها بغية تسوية وضعيتها.

وقد لفت الدكتور لعرباوي إلى ضرورة اتخاذ إجراءات وتدابير على مستوى كل الولايات لتحسيس وتوعية المواطنين بخطورة البناء على ضفاف الوديان، والوقوف على هاته الظاهرة من خلال ممارسة السلطات المحلية مهامها الرقابية، واحترام الدراسات والنصوص القانونية من أجل حماية الأرواح والممتلكات، داعياً إلى التدخل لوقف كل البنايات على ضفاف الأودية حتى ولو تحصل أصحابها على رخص بناء.

 

ابتسام مباركي - الجزائر

ابتسام مباركي - الجزائر

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
برنامج عمل مشترك بين وزارة الشباب ومكتب برنامج الأمم المتحدة لمكافحة الإيدز بالجزائر مولوجي تُشدد على ضرورة "تحيين" مناهج التكفل بالأطفال المعاقين ذهنيا الجمارك تحجز أكثر من ربع مليون "قرص مهلوس" بالوادي  أوابك.. الغاز الطبيعي المسال سيلعب "دورا رئيسيا" في الانتقال إلى اقتصاد منخفض الكربون برنامج الغذاء العالمي.. 70 ألف لاجئ كونغولي ببوروندي مهددون بالمجاعة تنسيق جزائري-سعودي خِدمةً للحجاج والمعتمرين الجزائريين الرئيس تبون يستقبل الرئيس الأسبق لجمهورية تنزانيا الاتحادية نحو مراجعة سقف تمويل إنشاء مؤسسات مصغرة سوناطراك وسونلغاز تبحثان فرص التعاون والاستثمار في أديس أبابا تعليمات صارمة لإعادة بعث مشروع مصنع الإسمنت بالجلفة تحالف طاقوي تاريخي بين الجزائر والنيجر ونيجيريا.. هل يغير خط الصحراء خريطة الغاز العالمية؟ إيتوزا.. برنامج خاص لتسهيل تنقل المواطنين بالعاصمة خلال العيد وزير الصحة يقترح مشروع توأمة بين جامعة بلجيكية والمدرسة الوطنية للمناجمنت في الجزائر العراق يلجأ لتوريد الغاز الجزائري لتعويض الإمدادات الإيرانية منظمات جزائرية تدين الحملات العدائية لليمين الفرنسي المتطرف يستضيف المعطيات الوطنية.. بداري يُدشن قسم الحوسبة السحابية 50 ألف هكتار تمت معالجتها.. استراتيجية وطنية محكمة لمكافحة الجراد الصحراوي الاحتلال يرسم حدود الضم بالدم والنار.. هل تبقّى للفلسطينيين موطئ قدم في الضفة؟ وزير الصحة يؤكد على تعزيز قدرات العاملين في القطاع الصحي عبر برامج تكوينية متطورة شركة هولندية رائدة تدخل سوق المحروقات الجزائري