معركة أخرى وانتصار آخر وتستمر مسيرة المجد.. أهلا بربيع الدبلوماسية الجزائرية

لم يكن الأسبوع الأخير من شهر مارس لربيع هذا العام، ليمرّ هكذا، كما عهده العالم أسبوعا نمطيا رتيبا، يتأرجح بين موسم تقطير الورد بقسنطينة الجزائر، وعيد النوروز ببلاد فارس وما جاورها، وموسم الألوان بالهند الهندوسية، وأعياد شمّ النسيم بمصر كعادة قبطية، وموعد رأس السنة الصينية.. وغيرها من مظاهر الاحتفاء والاحتفال بقدوم فصل الربيع، وانقشاع سحب الشتاء وانفراج برودتها.. ذلك أنّ قلوب العالم كله كانت معلّقة بمجلس الأمن الدولي، وبما يسفّر عنه الاجتماع المصيري المخصّص لوقف إطلاق النار بغزة فلسطين، والتي حوّلها الصهاينة المجرمون من أكبر سجن مفتوح، إلى أبشع مذبحة إنسانية شهدها عصر الصوت والصورة وشبكات التواصل والاتصال.

فقد فشلت الجلسات الأولى التي خَصّصها مجلس الأمن لذات الموضوع، بسبب حقّ النقض الأمريكي المُفَعَّل دعما للكيان الصهيوني، كما ظلّ عليه الأمر منذ عقود.. لكن هذه المرّة، يوجد ضمن أعضاء المجلس بلد بعضوية غير دائمة، ليس ككل البلدان ولم يكن أبدا مثل أيّ بلد؛ إنها الجزائر ذات النزعة الثورية والتوجه الإنساني، والتي لا تحابي في الحق أحدا، ولا تعرف كيف تنافق ولا كيف تتاجر تحت الموائد وخلف الأبواب.

فمنذ البدء كان خيارها الدفاع عن الحق مهما كان صاحبه، ومواجهة الظلم والباطل مهما كان من يقف خلفه، بلغة متّزنة وخطاب رصين، وبالحجة البينة والدليل المبين؛ “على كل من يعترض على وقف إطلاق النار أن يسائل ضميره ويراجع إنسانيته”.. مرافعا بكل الصدق الممكن “عمار بن جامع” السفير الجزائري أمام أعضاء المجلس، مردفا في ذات السياق؛ “ما يحدث في غزة من فظائع ترفضها الفطرة الإنسانية السليمة، وعدم وقف إطلاق النار، يعني الرضا بأن يُقتل أكثر من مائتين وخمسين شخصاً كل يوم..”، مواصلا “قصفه” المركزّ بكلّ صراحة ووضوح ومن دون أدنى مبالاة لأحد؛ “ومثلما أكّد رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون؛ سيكتب التاريخ بأنّ كل من يقف وراء جرائم الإبادة في غزة، في عداد مجرمي الحرب وأعداء الحياة..”.

وعندما انتصر الشيطان للحظات، وفشل المجلس في التصويت لصالح القرار، بسبب اليد المرفوعة بالنقض للممثلة الأمريكية “غرينفيلد”، لم يستسلم السفير “بن جامع” ولم يفشل، وإنما ردّ بكل حزم وإصرار؛ “سندفن شهداءنا هذا المساء في رفح، في غزة وفي كل فلسطين، وستعود الجزائر غدا باسم الأمة العربية والإسلامية، وباسم أحرار العالم، لتدق أبواب مجلس الأمن مرة أخرى، وتطالب بوقف حمام الدم.. لن نتوقف حتى يتحمل المجلس مسؤولياته ويفرض وقفا فوريا لإطلاق النار”.. في لغة رفيعة راقية، سترسّخها أدبيات مجلس الأمن، وسيتشهد بها شرفاء الأرض ويسترشد بها الأحرار زمنا طويلا.. لغة مزجت بين جزالة اللفظ وبلاغة البيان، ووفّقت بين صرامة الموقف ولين الكلام، وزاوجت بين طرح الدبلوماسية ومنطق الإنسان.

ليمرّ بعدها إلى استعمال أسلوب أشدّ تأثيرا وأصدق تعبيرا من أي لغة ومن أي لسان، حيث عمل على إحضار ضحايا من جحيم غزّة قلب الحدث، إلى مقر هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي بحصانة دبلوماسية جزائرية، ليكونوا شهداء على فظاعة الجرائم المرتكبة بحق الأرض والسكان، ونظّم لهم لقاءات مباشرة وجها لوجه مع سفراء الدول المعتمدة بمجلس الأمن، ليجد الجميع أنفسهم أمام الأمر الواقع، وقد أخذوا فكرة حيّة عن الوضع المعاش في محرقة القطاع من خلال هيئة ووجوه وألسنة أهلها، وهي الخطوة الذكية الجبارة التي جعلت من المترددين والمستكنين والمتريثين يسارعون إلى استدراك الأمر، بتبني مواقف أكثر جرأة ضد الكيان الصهيوني وممارساته الدنيئة غير الإنسانية ضد الفلسطينيين.

فكان أن صدر القرار أخيرا، ولم تعترض الولايات المتحدة الأمريكية ولم تشهر ورقة حق النقض لصالح الكيان، فيما ساندت كل من فرنسا وبريطانيا القرار، وهي المواقف التي جعلت من غرفة العمليات الإرهابية الصهيونية في “تل أبيب”، بقيادة “النتن-ياهو”، تستشيط غضبا وحنقا ضدّ البيت الأبيض الذي بدأ يستعيد، شيئا فشيئا، علاقته السوية بعقله، بضميره وبأخلاقه الإنسانية المغيبة كلما تعلّق الأمر بالكيان، منذ زمن بعيد.

“خليه يجي الجزائري.. عمّار.. عمّار.. هون.. هون جنبي.. جنبي.. هون عمّار.. جنبي جنبي..”.. يلحّ السفير الفلسطيني “رياض منصور” ويصرّ على ضرورة حضور السفير الجزائري “عمار بن جامع”، ليأخذ له مكانا إلى يمينه أثناء لقائه بالصحافة العالمية عقب تصويت مجلس الأمن بوقف اطلاق النار.. يحضر “عمّار” ويستجيب للطلب بكل عفوية مردّدا؛ “تفضّل.. تفضّل.. أنا دائما وراءك..”.. مفضّلا ترك المكان لرئيس المجلس السفير الياباني “يامازاكي كازويوكي”، بكل لباقة دبلوماسية وكياسة سياسية.

فإن كان السفير “رياض منصور” قد عبّر عن تقديره الكبير واحترامه المطلق للسفير “عمار بن جامع”، انطلاقا من قناعته الراسخة بأنّ لولا استماتة الجزائر وتشبّثها بخيار الدفاع عن مسعى وقف إطلاق النار بغزّة، ما كان للقرار الأممي أن يُستصدر.. فإنّ السفير الجزائري، قد آثر بأن تسلّط الأضواء على القضية الفلسطينية، وتوجّه الأنظار إلى السفير الفلسطيني بدل استئثاره بنشوة الانتصار.. إلا أنّ الصحافة العالمية لم تترك اللحظات العفوية هذه لتمر هكذا من دون تعقيب، لتتلقف ردّ “بن جامع”، وتُعَلِّقَ عليه بالقول أنّ السفير الجزائري يكون قد لخّص موقف بلده التاريخي المقدّس، في حركة عفوية عابرة وجملة هامشية مقتضبة؛ “..أنا وراءك دائما..”.. متداولة الصورة على أوسع نطاق، مُرْفِقَةً إياها بقراءات وتعاليق، لم تخرج في مجملها عن سياق الانبهار الحاصل والمتواصل بالمواقف الجزائرية الصارمة الثابتة حيال القضية الفلسطينية، وتجاه كل القضايا العادلة في العالم.

السفير “عمار بن جامع” الممثل الدائم للجزائر لدى الأمم المتحدة، مهندس القرار وأحد أشرس المدافعين عنه، يصرّح بعد هذا الانتصار؛ “أخيرا يرتقي مجلس الأمن لحجم المسؤوليات التي تقع عليه، باعتباره المسؤول الأول عن حفظ السلم والأمن الدوليين، ويستجيب لمطالب الشعوب والمجموعة الدولية..”، موجّها شكره الخالص لجميع أعضاء المجلس، على المرونة التي أظهروها في التعاطي مع مشروع القرار وفي العمل البناء الذي مكّنهم بالنهاية من اعتماد قرار إنساني أكثر منه شيئا آخر، طال انتظاره لفرض وقف فوري لإطلاق النار في “غزّة”، مستطردا بقوله؛ “من أجل وضع حدّ للمجازر التي لا تزال، للأسف، مستمرة منذ أكثر من خمسة أشهر، ذاق خلالها الشعب الفلسطيني كل أشكال العذاب والمعاناة..”.

وأضاف في ذات السياق؛ “لقد استمر حمام الدم طويلا وبأشكال بشعة، وأصبح من الواجب وضع حدّ له قبل فوات الأوان..”، مسهبا؛ “وعدنا بأننا لن نكلّ ولن نملّ حتى يتحمّل مجلس الأمن مسؤولياته كاملة غير منقوصة، ووعدنا بأننا سنعود لنقرع مجددا أبواب مجلس الأمن، وها قد عدنا اليوم مع جميع الدول المنتخبة بالمجلس في رسالة واضحة للشعب الفلسطيني، مفادها أنّ المجموعة الدولية بمختلف أطيافها تشعر بألمكم ولن تتخلى عنكم”، مؤكّدا بأنّ؛ “اعتماد قرار وقف إطلاق النار اليوم، ما هو إلا بداية نحو تحقيق آمال الشعب الفلسطيني.. نتطلع إلى التزام المحتل الإسرائيلي بهذا القرار، وأن يتوقف القتل فورا ومن دون شروط، وتُرفع المعاناة عن الشعب الفلسطيني”.

وأمام إلزامية إنفاذ قرار وقف إطلاق النار في القطاع، لا يزال جيش الكيان الصهيوني يمارس جرائمه بكل صلف وغطرسة، مراهنا على تراخي المجتمع الدولي وتغاضيه عن واجب حمله على الانصياع للإرادة الأممية. لكن الجزائر لم ولن تصمت، فقد وعد السفير “بن جامع” باسم بلده، بأنه سيعود قريبا لمخاطبة مجلس الأمن مرة أخرى، مرافعا من أجل أن تكون دولة فلسطين في مكانها الطبيعي؛ عضوا كامل الكيان كباقي أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة.

مصطفى بن مرابط - الجزائر

مصطفى بن مرابط - الجزائر

كاتب في الأيام نيوز

اقرأ أيضا