لطالما كان الجانب الديموغرافي سلاحاً مهماً يعتمد عليه الفلسطينيون في صراعهم ضدّ الاحتلال الصهيوني، وكان الفلسطينيون قبل 1948 يرون أن التهديد الديموغرافي لا يقل خطورة عن امتلاك واستيلاء اليهود على الأراضي الفلسطينية، على أساس أن هذا كان أحد وسائل الحركة الصهيونية لاحتلال فلسطين.
لطالما كان الجانب الديموغرافي سلاحاً مهماً يعتمد عليه الفلسطينيون في صراعهم ضدّ الاحتلال الصهيوني، وكان الفلسطينيون قبل 1948 يرون أن التهديد الديموغرافي لا يقل خطورة عن امتلاك واستيلاء اليهود على الأراضي الفلسطينية، على أساس أن هذا كان أحد وسائل الحركة الصهيونية لاحتلال فلسطين.
وعلى هذا الأساس، أرادت منظمة التحرير، فيما بعد، أن تُحوّل الديموغرافيا من تهديد إلى فرصة، ولذلك كثيرا ما كان الراحل ياسر عرفات يتحدّث عن انتصار الرحم الفلسطيني. بالمثل، كانت مسألة الديموغرافيا ذات أهمية مركزية لدى الحركة الصهيونية، فقد أعلنت الحكومات الصهيونية المتعاقبة حرباً على التكاثر الطبيعي لدى فلسطينيي الـ 48، حيث وصل معدل إنجاب المرأة 9 أطفال في ستينيات القرن الماضي، وتوقف عند 2.2 لدى المرأة الصهيونية التي حظيت وعلى مر العقد الأخير بدعم وتشجيع حكومي رسمي لمضاعفة الإنجاب.
وعليه، بات الفلسطينيون يقاومون الاحتلال بأكثر من سلاح، ويخوضون معركة استعادة الأرض وتقرير المصير على جبهات عدة، ومن بين هذه الأسلحة والجبهات “سلاح الخصوبة وجبهة الديموغرافيا”.
صراع الديموغرافيا
وفي تصريح صحفي سابق، قال المدير العام لجمعية الجليل للبحوث الصحية والاجتماعية، أحمد الشيخ، إن العقد الأخير شهد تراجعاً ملحوظاً في معدلات الإنجاب لدى العائلات الفلسطينية، وعزا ذلك في حديثه إلى السياسات العنصرية وحرب الديموغرافيا التي شنتها المؤسسة الصهيونية ضد فلسطينيي 48 وحرمانهم الأرض للبناء والمسكن، للإبقاء على تفوق عدد اليهود داخل الخط الأخضر، حيث يسكن قرابة مليوني فلسطيني مع أهل القدس المحتلة.
تساوي أعداد الفلسطينيين مع مجموع اليهود للمرة الأولى منذ النكبة
وقد أعلن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني نهاية عام 2022، تساوي أعداد الفلسطينيين المقيمين في فلسطين التاريخية، مع مجموع اليهود فيها للمرة الأولى منذ النكبة.
ووصل هذا العدد إلى 7 ملايين نسمة، فيما أشارت تقارير وأبحاث أخرى إلى أن الكفة الديمغرافية سترجح لصالح اليهود ضدّ الفلسطينيين. واستندت هذه الأخيرة في استشرافها على الإحصاءات الرسمية التي تفيد بأن معدلات الخصوبة في أوساط اليهود المتدينين تحديدًا، أعلى بكثير منها في المجتمع الفلسطيني.
معركة الخصوبة
يُدير الاحتلال معركة الخصوبة للتفوق على الفلسطينيين بواسطة سياستين رئيسيتين، الأولى تقوم على تشجيع الولادة في أوساط المتدينين عبر تعزيز المقومات الاجتماعية والاقتصادية للإنجاب. أما السياسة الثانية فهي التضييق على الفلسطينيين وإعاقة تطورهم الاقتصادي وتوسعهم الجغرافي.
ففي الداخل المحتل، الذي كان تعداد الفلسطينيين فيه 180 ألف نسمة بعد النكبة، وتجاوز المليون و800 ألف نسمة اليوم دون السماح بتوسعة تجمعاتهم السكنية، تعمل دولة الاحتلال على توسعة الفجوة التعليمية بين الجنسين لخلق حالة عزوف عن الزواج أو التأخر فيه إلى عمر تكون فيه خصوبة النساء منخفضة لأسباب بيولوجية.
تقييد للفلسطينيين
وفي قطاع غزة المحاصر من المنافذ كافة، يفرض الكيان الصهيوني على الفلسطينيين حمية غذائية، إذ تتحكم بحصة الفرد من الغذاء الذي يصله من المعابر المصرية و”الإسرائيلية”. كما يشن الاحتلال حروبًا وعمليات عسكرية مدمرة بشكل مستمر، تترك خلفها آلاف الشهداء والجرحى والبنى التحتية المدمرة في غزة، الأمر الذي يجعل القطاع مكانًا غير صالح للعيش، حيث هاجر منذ عام 2007 حتى النصف الأول من 2022 أكثر من 10 بالمائة من السكان.
أما في الضفة الغربية، فرقعة الاستيطان “الإسرائيلي” آخذة في الاتساع، والحواجز ونقاط التفتيش تأكل القرى والمدن وتقيد الفلسطيني في حركته بالتوازي مع الإفقار التنموي. وفي القدس، يُعيق الاحتلال التطور الديمغرافي الطبيعي للسكان، عبر التهجير وتقنين مصادرة الأملاك، حيث خلص باحثون إلى أنه لولا النكبة، لتجاوز تعداد المقدسيين اليوم مليوني نسمة.
مواجهة مع الاحتلال
وفي هذا السياق، يعتبر الأكاديمي والمستشار الدولي في الدراسات الديمغرافية، يوسف كرباج، أن “موضوع الخصوبة كان أمرًا مبدئيًا لدى الاحتلال، وعمل كثيرًا عليه”. ويذكر كرباج، في حديث صحفي، بأن “أول رئيس للوزراء في الكيان، دافيد بن غوريون، شدّد على ضرورة الاهتمام بالخصوبة اليهودية”، حتى “لا نصبح أقلية”، وفق توصيفه.
ويوضح أن “كل المسؤولين الإسرائيليين شدّدوا على ضرورة الخصوبة وأن يكون عدد اليهود أعلى الفلسطينيين”. ويقول: “أمام هذا الوقع، لم يقف الفلسطينيون مكتوفي الأيدي، حيث قاموا من جهتهم أيضًا باعتماد إستراتيجيات لرفع الخصوبة رغم الصعوبات”.
زخم ديمغرافي
من جهتها، توضح الأكاديمية والخبيرة الدولية في قضايا السكان، حلا نوفل، أن “دولة الاحتلال عملت على رفع عدد اليهود عبر استقطابهم من كل دول العالم”. وتشير نوفل، في حديث صحفي، إلى أن “دولة الاحتلال قائمة على الاستعمار والاستيطان التوسعي، وكل من اختار المجيء كان عليه المساهمة في تزايد عدد السكان”.
وتقول: “مسألة التكاثر مهمة والاحتلال تبنى سياسة منذ البداية لتشجيع الإنجاب وهي عملية تغذت في مستوطنات الضفة الغربية”. وتضيف: “حتى الآن هناك زخم ديمغرافي لدى الفلسطينيين بالتوازي مع زخم قتالي لمواجهة كل سياسات الاحتلال”.
معطيات الديمغرافيا مصدر قلق للكيان
وعلى الرغم من تهجير نحو مليون فلسطيني في عام 1948 وأكثر من 200 ألف فلسطيني بعد حرب جوان 1967، فقد بلغ عدد الفلسطينيين الإجمالي في العالم 14.3 مليون نسمة في نهاية العام 2022، ما يشير إلى تضاعف عدد الفلسطينيين نحو 10 مرات منذ أحداث نكبة 1948″.
وكانت تقارير رسمية صهيونية أشارت في السنوات الأخيرة إلى القلق الرسمي من هذا الاتجاه الديمغرافي فيما حذّرت أوساط أخرى من أن فشل حل الدولتين، فلسطين و”إسرائيلي”، “سيقود في نهاية الأمر إلى دولة ثنائية القومية لجميع سكانها”.
حرب الأرحام
ولهذا، عمدت السياسات الصهيونية لإفقار الفلسطينيين، إذ تشير إحصائيات سابقة لمؤسسة التأمين الوطني الصهيونية إلى أن 50 بالمائة من العائلات العربية تعيش تحت خط الفقر، وحوالي 60 بالمائة من الأطفال والفتية فقراء، في حين تبلغ معدلات البطالة بين القوى العاملة 7 بالمائة، كما أن 13 بالمائة من الأسر العربية تعجز عن توفير احتياجاتها الشهرية، وأخرى لا تنجح بتغطية قسم من هذه الاحتياجات بنسبة 34 بالمائة.
ودفع الوضع الاقتصادي الاجتماعي المنخفض لفلسطينيي 48 المرأة العربية إلى الخروج لسوق العمل لمساعدة زوجها، الأمر الذي ساهم أيضا في انتشار ثقافة تحديد النسل وتقليل الإنجاب لضمان العيش الكريم والمستقبل للأولاد بالتعليم الأكاديمي والسكن.
وفي سياق الحرب الخفية على الأرحام، يقول مراقبون إن الاحتلال حفّز -تحت ذريعة تمكين المرأة- خروج المرأة العربية في الداخل إلى سوق العمل بعيدا عن التجمعات العربية، وأيضا على التعليم والانخراط بالكليات والجامعات منعاً للزواج المكبر وصرفها عن الإنجاب وتشكيل أسرة كبيرة، مثلما كان سائداً حتى تسعينيات القرن الماضي.