معركة “عنابة” التي أذهلت الحلف الأطلسي.. 90 جنديًّا من جيش التحرير الجزائري يهزمون 23 ألف جندي فرنسي (الجزء الثالث والأخير)

في يوم 24 جوان سنة 1959، حدثَت المعجزة في “معركة عنّابة”، مُعجزةٌ بالمنطلق الغربي وعلومه العسكرية والتجريبية والبحتة، وأمّا بالمنطلق الجزائري فليس هناك معجزة ولا مستحيل، لأنّ “صناعة” المعجزة ذاتها هي فنّ الممكن الجزائري، وما أكثر معارك ثورة التحرير الوطني التي تماثل “معركة عنّابة”.. تسعون جنديًّا جزائريًّا من جيش التحرير الوطني بأسلحة خفيفة يُذِلّون ثلاثة وعشرين ألف جندي من جيش الاستعمار الفرنسي مُدجّجين بأعتى الأسلحة: دبّابات ومدفعية ومُصفّحات وأسلحة أخرى متنوّعة، إضافة إلى أنواع مختلفة من الطائرات الحربية الفرنسية والأمريكية والإنجليزية..

من المُجدي استعادة “معركة عنّابة” ومثيلاتها من معارك ثورة التحرير الوطني لقراءة البطولات التي تُحقّقها المقاومة الفلسطينيّة في “غزّة” ضدّ الكيان الصهيوني المدعوم من طرف الدول ذاتها التي كانت تدعم الاستعمار الفرنسي ضد الجزائر وثورتها العظيمة، فما أكثر المشكّكين من “الأعراب” خاصة الذين سيطرَت عليهم الانهزاميّة إلى الحدّ الذي ألغوا فيه سلاح الإيمان من معادلة الحرب، وسلّموا بأنّ هذه الحرب يحسمها “تحالف” القوى العسكرية التي تمتلك الأسلحة التكنولوجية الفتّاكة.. وها هي “معركة عنّابة” تُحرق أوهام المُشكّكين والواهمين، وتؤكّد بأنّ الإيمان بالله والوطن والقضية العادلة.. هو أعظم سلاح مهما كان جبروت العدو وتغوُّل الدول الداعمة له.

من الذين أرّخوا لهذه المعركة البطولية الخالدة، الأديب المؤرّخ المجاهد “محمد الصالح الصديق”، بطريقة متميّزة حيث اعتمد على شهادات من شاركوا فيها إضافة إلى مصادر أخرى، بلغة أدبية راقية تتوجّه إلى مختلف المستويات الفكرية، وفيها قراءةٌ لنتائجها وعِبَرها.. وقد نشر ذلك في مقالة بمجلة “الأصالة” الجزائرية، في شهر جويلية 1976. وتعيد جريدة “الأيام نيوز” نشر المقالة لاعتبارات عديدة منها أهميّة هذا النّوع من الكتابة، التي تجمع بين التأريخ والأدب، في بناء شخصية الأجيال وتعميق انتسابهم إلى جيل البطولات الذي لم يعرف المستحيل من أجل عزّة الجزائر وسيادتها. فالمقالة جديرة بأن تكون في كُتب القراءة المدرسية، وأيضًا هي جديرة بأن تكون مثالا لإعادة كتابة معارك ثورتنا المجيدة بهذه الطريقة “الشيّقة”، إضافة إلى أنّ قراءة “معركة عنابة” بكل أبعادها يُمكن إسقاطها على معارك المقاومة الفلسطينية في “غزّة”.. وكيف يُمكن لفئة قليلة أن تنتصر على قوّة جبّارة مُدجّجة بأعتى الأسلحة المتطوّرة ومدعومة بالقوى الغربية العالمية. ولنترك القارئ مع المقالة..

معركة عنّابة أحرقَت أكاذيب الاستعمار وأوهامه

إنّ برنامج “شال” الشّهير الذي علّقت عليه القيادة الفرنسية آمالها الفِساح وجنّدت كل إمكانياتها لإنجاحه والدعاية له حتى أنّ معظم الصحف الفرنسية لا حديث لها إلّا عنه، والذي كان من المُقدّر أن ينتهي في أكتوبر سنة 1959 بالقضاء النهائي على جيش التحرير الوطني.. هذا البرنامج لم يكد يُطبّق في مختلف أنحاء الجزائر حتى أخذ الفشل يسري في صفوف الجيش الفرنسي، وأصبحت معنوياته تتدهور بصفة مريعة، ذلك لأنّ الانتصار المزعوم الذي كان يحلم به الجنرال “شال” من وراء هذا البرنامج، اتّضح، بعد التطبيق، أنه سراب لا يعدو أن يكون في واقعه محاولة وهمية لتموين أجهزة الإعلام الفرنسية، وتضليل الرأي العام، ومخادعة الشعب الفرنسي أيضا.

فبعد تطبيق البرنامج القاضي بخنق الثورة في كامل أنحاء القطر الجزائري، اشتدَّت المعارك وتوالت الهجومات بعنف على المراكز العسكرية الفرنسية وخاصة القريبة من خطّ “شال”، وازداد الشعب تماسكًا وتلاحمًا وراء جبهته وجيشه وصار يبرهن يوما بعد يوم على أنه شعبٌ لا يُقهر، وأنّ روحه النضاليّة الخلّاقة لا تعرف الضعف والفتور مهما تكالب العدو وتعدَّدت مشاريعه الجهنميّة.

من صيف 1956 إلى صيف 1957، اتّجهت القيادة الفرنسية إلى وضع الأسلاك الشائكة على طول الحدود الجزائرية التونسية والجزائرية المغربية، أملًا منها أن تكون هذه الخطوط المُكهربة مانعًا يحول دون تسرّب السلاح حتى يسهل (القضاء على الثورة). ولكن المجاهدين كانوا يقطعون هذه الأسلاك باستمرار ويهاجمون بانتظام “مركز الونزة الاقتصادي” والمراكز الواقعة على طول الحدود، فيجمِّدون بذلك فِرقًا ضخمة من الجيش الفرنسي ويجبرونها على ملازمة الخطّ المُكهرب. وأبطال “معركة عنابة” قاتلوا بأسلحة دخلوا بها من تونس في وقت تؤكد فيه القيادة الفرنسية بأنه لا أحد يقدر على الدخول من الشرق إلى الجزائر بقطعةٍ من سلاح!

كانت “معركة عنّابة” دليلًا حيًّا قاطعًا على أنّ مشروع قسنطينة، ومعامل عنابة، وكل البرامج التي خطّطها الاستعمار في نطاق مشروع قسنطينة.. هباءٌ في الهواء، وخيال في أذهان أصحابها ما بقيت الحرب تدور رحاها في الجزائر، وأنّ جيش التحرير الوطني، الذي يبرهن على قوته في كل وقت وخاصة في تلك الظروف، هو القوة الوحيدة التي يجب أن يُقرأ لها الحساب في الجزائر، وأنّ سياسةً فرنسيةً تقوم على تجاهل هذه القوة، لن يكون مآلها إلّا الفشل الذّريع.

وهذه الحقيقة هي التي خرج بها الرأي العام العالمي من “معركة عنابة”، ولاحظتها الصحافة في مختلف العواصم العالمية وخاصة الأوروبية منها، في الوقت الذي كان فيه الجنرال “ديغول” يطلب من “رؤوس الأموال الإيطالية أن تساهم في معامل عنابة”.

العِبرة من معركة عنّابة

قد يقف البعض على أخبار “معركة عنّابة” ووصفِ أحداثها ثم لا يُعير لها أيّة لفتةٍ جديّة، بل يمرّ عليها كما يمرّ على الأحداث اليومية التي تطالعه بها نشرة الأخبار من يوم لآخر، فيُرهف أذنه لأهمّها لحظة سماعها ثم ينساها وتختفي إلى الأبد، ولا يعود يذكرها.. إنّ “معركة عنابة” – وما أكثر مثيلاتها في الجزائر – أعظم من حدثٍ عابر، وأكثر من قصة تُروى ثم تُنسى!

ليس سهلًا، ولا مُسلّمًا علميًّا، ولا مقبولا منطقيًّا، أن يقف تسعون مجاهدا أمام ثلاثة وعشرين ألف جندي بطائراتهم المختلفة، ودبّاباتهم ومُصفّحاتهم وأسلحتهم المختلفة.. ثم يُلحقوا بهم هزيمةً نكراء، وينشروا في صفوفهم فشلا ذريعًا، وتصدُّعًا ماحقا حتى يلجؤوا إلى الغازات الحانقة. وهل من المقبول علميًّا أن تتغلّب فئة قليلة من البسطاء الذين لم يتلقّوا درسًا في النُّظم الحربية، بل هم فلاحون ورُعاة غنم وبقر.. على جيش مُنظّم تخرّج من مدارس وكليات حربية فى العواصم الأوروبية الشهيرة؟ هل يتحوّل العلم أحيانًا إلى جهل، والقوة إلى ضعف، والإيجاب إلى سلبٍ، ويتحوّل الجهل إلى علم، والضعف إلى قوة، والسلب إلى إيجاب؟

من ذا الذي يسمع هذا ولا تملكه الدّهشةُ، ولا يستبدُّ به العجب؟ فئة قليلة من المجاهدين يَقدِمون من تونس مشيًا على الأقدام، يحملون أسلحة على أكتافهم وبعضها ثقيلٌ مرهق، ويتجشّمون في الطريق مشاقّ ومخاطر ومهالك.. ويعانون من الجوع والعطش والتّعب المُنهِك ما يعانون، ثم يجدون في مدينة “عنابة” حيث كانوا ينتظرون أن ينالوا قسطا من الراحة بالقرب منها.. يجدون معركة رهيبة تنتظرهم وتلاقيهم بالحِمَم والقذائف والدّمار.. ثم يقفون بالرغم من المفاجأة، وبالرغم من الجوع والعطش والتّعب، وبالرغم من السهر المُضني.. يقفون سدًّا من البسالة النادرة والصبر الخارق، ويَثبُتون ثبات الأسود الذائدة عن عرائنها!

إنّ المجاهدين يملكون العناصر الأساسية للنصر – وإن فقدوا الطعام والشراب والنوم والراحة – وهي الإيمان بالله والاعتماد عليه، وشدة الكراهية للعدو، وشدّة الحب للوطن الذي يحاربون عنه. ويملكون عنصرا آخر ما تزال هناك أفهامٌ تعجز عن إدراكه واستساغته وهو الرغبة في الشهادة التي هي جواز السفر إلى جنة الجلد رأسا.

وهم لم يدرسوا المذاهب المتطرِّفة، والفلسفات المُجنّحة، ولم يجلسوا يوما إلى “أستاذ” حتى يصابوا بتلوّث العقل الذي يعتزّ به أنصاف العلماء، بل هم على فطرتهم النقيّة التي لم تلوّثها خيالاتٌ، ولم تزعزعها شطحاتٌ، ولم تنل منها أصنام الكفر والباطل، ولم تنزلق في مهاوي الآثام وبؤر الأوهام.

لقد رغب هؤلاء في الشهادة فاستشهد معظمهم فى هذه المعركة، واختلطَت دماؤهم وارتوت بها أرض الجزائر المسلمة. وما مات رجالٌ حرّروا وطنًا، ولا أُهدِرت دماءٌ أحيَت أمَةً.

ذهبوا عنّا تاركين وراءهم أولادا وأزواجا وأصدقاء، في سبيل ماذا كل هذا؟ في سبيل أن تستقل الجزائر وتنال حريتها وسيادتها، وتبني مستقبلها، وفى سبيل أن أعيش أنا وأنت وهم وهنّ في هذا العهد الباسم الزاهر، مرفوعي الرؤوس، موفوري الكرامة، في نفوسنا حمِيّة الاسلام، وفى قلوبنا نشوة الأمل، وفي أيدينا سيوف النصر، وأسلحة التعمير.

أمّا الحقيقة التي يجب أن ينقشها على قلبه كل جزائري وجزائرية، حتى لا تعزب عنه لحظة قيمة الشهيد الذي حرّره ومنحه العزّة والكرامة، فهي أنّ من الصّعب والعسير جدًّا أن يموت شخصٌ ويفارق أولاده وأهله ووطنه من أجل أن يعيش شخص آخر ويحيا بين أولاده وذويه أيًّا كان هذا الشخص!

ولكن الشهداء ماتوا بكل شجاعة، وبكل رضى من أجل أن نحيا أحرارا وأسيادا.. فليعيشوا في كلِّ خفقة من خفقات قلوبنا… وفي كل بسمة من بسمامتنا، وليعيشوا ومضات هادية مع الشّفق الباكي عند الغروب ومع الشفق الضاحك عند الطلوع، ولتكن هذه الكلمة تحية من أعماق القلب أقدّمها لذكراهم، وباقة من الإعجاب ببطولتهم، والتقدير الخالص لوفائهم، أنثرها على قبورهم.

ملاحظة: أشار الكاتب إلى المراجع التي اعتمدها في كتابة مقاله، منها شهادة مجاهدين هما: “إغيل علي بوجمعة” من أبطال المعركة، العقيد “اعزورن” وهو خال قائد “معركة عنابة”. إضافة إلى العدد 46 من صحيفة “المجاهد” الصادرة بتاريخ: 13 جويلية 1959، وكتاب “الجزائريين الماضي والحاضر” لكاتب المقال نفسه: محمد الصالح الصديق.

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
عطاف يشارك بالقاهرة في اجتماع اللجنة الوزارية العربية المُصغرة نفذها الاحتلال جنوب غزة.. 40 شهيدا وعشرات المصابين في مجزرة جديدة أمطار رعدية على 9 ولايات هل سيحسم عمالقة التكنولوجيا نتائج السباق نحو البيت الأبيض؟.. مستقبل أمريكا في متاهة "السيليكون فالي" فشل ثلاثي الأبعاد.. المخزن يتخبط في مستنقع الإخفاقات انتقادات واسعة.. أداء سلطة الانتخابات في مرمى المترشّحين الثلاثة جهود التدخّل والإغاثة مستمرة.. إجراءات فورية للتعامل مع أضرار فيضانات ولاية بشار عائلته تستقبل التعازي في "بيت فرح وتهنئة".. الشهيد "ماهر الجازي" هدية الأردن لفلسطين وغزة العهدة الثانية للرئيس تبون.. أمريكا تسعى إلى ترقية التعاون الثنائي اختتام الألعاب البارالمبية في باريس.. الجزائر الأولى عربيا وإفريقيا وزارة التعليم الفلسطينية.. فتح مدارس افتراضية لأول مرة في غزة تعليم عالي.. استلام 19 إقامة جامعية جديدة بتكليف من رئيس الجمهورية.. عطاف في القاهرة ولقاءات مرتقبة مع نظرائه العرب الرئيس الصحراوي يوجه رسالة تهنئة إلى الرئيس تبون بعد فوزه بالعهدة الثانية.. اليامين زروال يهنئ عبد المجيد تبون جبهة البوليساريو تدين السياسة الإجرامية للاحتلال المغربي ضد الصحراويين أكد تمسكه بالعلاقة الاستثنائية بين البلدين.. ماكرون يهنئ تبون على إعادة انتخابه إجراءات عاجلة للتكفل بمخلفات الأمطار بولاية بشار وزارة التربية.. هذا هو موعد فتح المنصة الرقمية للتعاقد أسعار النفط ترتفع بأكثر من 1%.. وخام برنت يتداول قرب 72 دولارًا