صدّرت أوروبا الوهمَ الذي اخترعته بأنّها محور التّاريخ البشري، وأنّ هذا التّاريخ عرَف “فجوة سوداء” من القرن الثامن وحتى القرن الرابع عشر الميلادي، حيث لم يعرف خلالها الإنسان أيّ حضارة. وهذا الوهم ينفي قطعيًّا وجود حضارة عربيّة إسلاميّة في أوروبا على الخصوص (حضارة الأندلس التي كانت على بعد أميال من عصر الظّلام الأوروبي).
لقد أسّست أوروبا تاريخها “الرسمي” على الأساطير، تمامًا كما فعل الكيان الصهيوني في محاولاته لتأسيس تاريخ يستند عليه ليُثبت “شرعية” وجوده. وفي سياق هذه الفكرة، نفهم لماذا قام ويقوم هذا الكيان بالسطو على التراث الفلسطيني ونسبته إليه، وسرقة حتى الحجارة القديمة في “القدس”؟ كما نفهم الإجرام الغربي في تدمير التراث المادي في العراق وسوريا.. وسرقة ما لا يُحصى من القطع الأثريّة التي تؤصّل الوجودَ العربي على جغرافيّته المترابطة من أقصى مشرقه إلى أقصى مغربه.
إنّ إعادة قراءة “روجي غارودي” في الظرفية التاريخية الراهنة التي تمرُّ بها الأمّة العربية ضروري جدًّا، ليعيد العقل العربي صياغة فهمه للأمور انطلاقًا من العلاقة العضوية – التي تتجاوز لعبة المصالح – بين الغرب الأوروبي والكيان الصهيوني، هذه العلاقة التي أوجزها مؤسس الحركة الصهيونية “تيودور هرتزل” عندما كتب منذ قرن، قائلاً: “سنكون المعقل المتقدّم للحضارة الغربية ضدّ همجيّة المشرق”. وأيضًا ليُدرك – العقل العربي – بأنَّ رؤية الغرب إلى العرب والمسلمين بأنّهم “همج” ومتوحّشون” هي رؤية يلقّنها لأطفاله في المدارس، وهي تستند إلى “صناعة الوهم” التي أسّس لها المفكّرون والمؤرّخون وعلماء الاجتماع.. بمعنى أن تلك الرؤية هي “العقيدة” الوحيدة في الحضارة الغربية التي لا تؤمن بالعقائد إطلاقًا.
جديرٌ بالإشارة أنّ الغرب أسّس تاريخه على الأساطير، وصدّر أوهامه إلى العالم – العربي على الخصوص – من خلال الإعلام والدعاية وبرامج الهيمنة على الأفكار والاقتصاد.. بمعنى أنّه ما زال مستمرًّا في تجرّده من أيّ قِيَم أخلاقيّة في حروبه المعلنة وغير المعلنة ضد العرب، بينما يعتمد العرب على الأخلاقيات في التعامل معه، كما يعتمد علماء العرب ومؤرّخوه على الموضوعيّة والحياد العلمي واحترام الحقيقة.. في دراسة تاريخه وتاريخنا على حدّ السواء.. إنّنا أمام صورة حرب “مُستدامة” بين القِيَم التي تتوكّأ على الضّعف و”استصغار الأنا” في مواجهة الكذب الذي يرتكز على القوة و”تأليه الأنا”!
تواصل جريدة “الأيام نيوز” إعادة نشر ما كتبه “روجيه غارودي” حول “الاستعمار الثقافي، والصهيونية، والتمسك بالأسطورة بدلاً من سرد الحقائق في تدريس التاريخ”، ونشرته مجلة “الآداب الأجنبية” في أكتوبر 2001، مُترجَمًا من طرف “هشام حداد”.. ونترك القارئ مع المقال..
التشويه الغربي لتاريخ المُسلمين
كان علينا انتظار الثلث الأخير من القرن العشرين لينكبَّ أحد الهواة الإسبان، “إغتاسيو أولاغويه” على تحليل دقيق للمصادر (التاريخية) ليثبت أنَّ النص الأقرب من الأحداث والأكثر فائدة، هو وقائع “دير مواساك” الذي لعب في هذا الصدّد بالنسبة إلى معركة “بواتييه” الدور نفسه الذي لعبه “هيرودوت” في معركة “ماراتون”.
وفي كتابه “الثورة الإسلامية في إسبانيا”، الذي تمّ تشويهه في ترجمة فرنسية مزعومة حذفت منه مراجع أساسية، يحلّل “أولاغويه” كيف وُلِدت الأسطورة، وكيف أعيدت صياغتها بعد بضعة قرون من الحدث إبّان غزوات حقيقية في هذه المرّة قام بها “المرابطون” و”الموحدون” الذين حدّدوا مراحل تقهقر “الإسلام” في “إسبانيا”. ولقد قام الملوك الكاثوليك بتطوير الرواية التي استمرّت على قيد الحياة حتى نهاية القرن العشرين.
أمّا “شارل مارتل”، فقد اتّضح دوره كمنقذ لـ “الغرب” لدى إدراجه في محيط العصر الذي عاش فيه:
1 – بعد انتصاره على الحملة العربية بقيادة “عبد الرحمن”، عام (732)، تابع هذا المنقذ لـ “فرنسا” و”الغرب” غزواتَه ضد المسلمين “البدائيين” بدءًا بمنطقة “إكيتانيا” و “وبورغونيا”، ثم “البروفانس” التي كانت حتى ذلك الوقت رومانية. (عبد الرحمان الغافقي قائد معركة “بلاط الشهداء” التي وقعت على بعد حوالي 70 كيلومترًا من مدينة باريس).
2 – لم يتمّ القضاء نهائيًّا على المشرقيّين، إذ أنّ العرب ظلوا بضعة قرون بعد ذلك في “تاربون”، وكانوا هم السّادة في “البروفانس” بواسطة قاعدتهم الرئيسة في “فريجوس”، فقد ساروا إلى أعالي وادي “الرون” كما تشهد على ذلك كاتدرائية “لوبوي” المنقوش على واجهتها عبارات بالخط الكوفي.
مركز “قرطبة الثقافي” يوقظ أوروبا من سُباتها
وفيما يتعلق باليقظة، من الجدير بالذِّكر على سبيل المثال، أنّه بعد “بواتييه” بعدة قرون، أيقظ مركز “قرطبة الثقافي” أوروبا من سباتها الفكري العميق، ولم يكن ذلك مقتصرًا على نقل التراث الصيني والهندي والفارسي، بل بنقل التراث الأوروبي بالذات، كالتراث اليوناني على سبيل المثال. ومن خلال شروح “ابن رشد” على أعمال “أرسطو” وإثارة الجدل حولها، طوّر كل من القديسَين: “ألبير الأكبر” و”توما الأكويني” بحثهما، كما تمّ تطوير مذهب “ابن رشد” باللاتينية في جامعة “باريس” مع “سيغر دي برابان”، وكذلك في “أوكسفورد”، وفي “إيطاليا” في القرن الخامس عشر بواسطة “بيك ديلا ميراندوله”.
وتمكَّنت خرائط “الإدريسي”، وهو من مدينة “سبتة” والذي تابع دراسته في “قرطبة”، من أن تبتكر لصالح “روجيه الثاني” ملك “صقلية”، وسائل الإسقاط بنقل الخرائط من كرويّة الأرض إلى جعل تلك الخرائط مسطّحة، وكانت هذه الوسائل مشابهة لتلك التي صنعها “مركاتور” بعد أربعة قرون والتي أتاحت الاكتشافات الكبرى.
واعتُبِرت دراسات “أبي القاسم الزهراوي”، المولود في “الزهراء” قرب “قرطبة”، في القرن العاشر، حجّة خلال خمسة قرون في سائر كليّات الطب في “الغرب”، في “مونبلييه” كما في “بالرمو” أو في “باريس” أو “لندن”.
وقد عمد “روجيه بيكون” (1561 – 1697)، الذي يُعدّ في “أوروبا” رائد العلم التجريبي، في الجزء الخامس من كتابه “المؤلَّف “الكبير” إلى الانتحال، وأحيانًا إلى الترجمة عن كتاب “الضوء” للعالم البصري “ابن الهيثم”، واعترف هو باستعاراته وقال: “إنَّ الفلسفة مأخوذة عن اللغة العربية ولا يمكن لأيّ لاتيني أن يفهم الحكمة والفلسفة كما ينبغي إذا لم يعرف اللغات التي تُرجِمت عنها”.
“فلسفة الفعل” في الثقافة الإسلامية
إنَّ فكرة التَّوحيد هذه، سيطرت على كل العلوم التي برع فيها العلماء العرب في: الطبيعة والفلك وعلم الأحياء والطب.
إنَّ حجر الزاوية في الثقافة الإسلامية، في كل مجالات علوم الدين والفلسفة والعلوم والفنون، هو فكرة التوحيد. ولا تقتصر فكرة التوحيد هذه على التأكيد على وحدانية الله.. لا يُعبِّر التوحيد عن الواقع الموجود بل عن التصرّف فيما هو موجود، ولم يعتمد على فلسفة الوجود، كما هو الأمر لدى “اليونان”، بل على العكس، “فلسفة الفعل”.. وهذا ما أتاح تجديد العلوم كافة.
في حال التخلّي عن وهم اعتبار “أوروبا” محور التاريخ بأسره، يجب الاعتراف أنّ التاريخ لم يشهد منذ القرن الثامن وحتى القرن الرابع عشر فجوة سوداء، بل على العكس كانت خلال هذه الفترة، تزدهر حضارة عربية إسلامية من أكثر الحضارات إشراقًا في التاريخ.
ولقد عمل ابن عربي” من “مرسية” في “الأندلس”، والذي عاش من عام (1165-1241)، على إنجاز “فلسفة الفعل” هذه مقابل الفلسفات اليونانية: (الأفلاطونية، الأرسططاليسية) المتعلقة بالوجود.
لا شيء ينطلق من واقع تمّ حدوثه، سواء أكان مُدرَكًا بالعقل أم بالحواس؛ ولكن بالفعل الخلاّق المتواصل لله.. وتكمن المشكلة الأساسية في كيفية إثبات أنه يمكن للإنسان المشاركة في عملية الخلق هذه، في عالم مازال في طور الولادة.
العمل الخلاّق جوهر النظرية الإسلامية في المعرفة
إنّ الرؤية الفعّالة للعالم، في “القرآن”، ناتجة عن ذلك الفعل المتواصل الخلاّق لله فهو: الحيّ، العليم، “لا تأخذه سنة ولا نوم” – وهذا خلاف ما جاء في سفر التكوين – وهو يبدأ الخلق ثم يعيده… لم تتم استعادة النظرية الإسلامية في المعرفة التي تنطلق من العمل الخلاّق إلا بعد بضعة قرون في الفلسفة الغربية، ولاسيما من قِبل “أوغست كونت” (1798-1857) في كتابه “الخيال الاستعلائي”، وأيضًا من قِبل “غاستون باشلار”، الذي بحث في تاريخها.
لم تقتصر مساهمة العلوم الإسلامية على الأسلوب التجريبي ومقدار الاكتشافات التي لا يُستهان بها، بل على مقدرتها على الربط بين العلم والحكمة والإيمان.
الحكمة مُتبصِّرة والعلم أعمى
بعيدًا عن تحديد تأثير العلم الذي يتطوّر من سبب إلى سبب، فإنَّ الحكمة ترتقي من غاية إلى غاية، من غايات فرعية إلى غايات أرقى، كي لا يُستخدم العلم من أجل دمار البشر أو تشويههم، بل من أجل ازدهارهم بتحديد غايات إنسانية؛ ذلك العلم التجريبي والرياضي لا يزوّدنا بغايات هذا التأثير الفعّال. والحكمة، بتبصُّرها في الغايات، تمثل استخدامًا آخر للعقل. ذلك هو الذي أهمله الغرب وتركه يضمر؛ ولم تعد الفلسفة ولا الدين يلعبان هذا الدور المتمِّم للعلم الذي يتيح الوسائل، مع الحكمة التي تبحث عن الغايات.
العقل الغربي يقود العالم نحو الدَّمار
إنّ اقتصار العقل الغربي، من خلال بحثه على اعتبار الوسائل غايات في حدّ ذاتها، يقود العالم نحو الدمار من خلال التلاّعب البعيد عن الحكمة، بالذرّة، والصاروخ، والمورِّثات.
إنَّ الإيمان هو البعد الثالث للعقل التام: فلا العلم في بحثه عن العلل والأسباب، ولا الحكمة في سعيها نحو الغايات، يمكنهما الوصول أبداً إلى العلة الأولى ولا إلى الغاية الأخيرة.
يبدأ الإيمان بإدراك واضح لحدود العقل والحكمة، إنَّه الأمر البديهي والضروري لالتحامهما واتّحادهما.. ليس الإيمان حاجزاً يقف في وجه العقل أو خصمًا له. إنَّ الإيمان هو عقل بلا حدود.
وخلاصة الأمر: إنَّ دور التاريخ في التربية، يجب أن يتغيَّر جذريًّا. يجب أن يحلّ البحث عن المصادر محلّ نقل الأساطير.
من “عالم المستعمرات” إلى “العالم الثالث”..
إن ما اصطلح على تسميته عالم المستعمرات حتى منتصف القرن العشرين، ثم “العالم الثالث” زمن مواجهة الكتلتين الشرقية والغربية، وباستمرار الدول المتخلفة (حسب المعايير الغربية للنمو) لم يكن ليظهر في الكتب المدرسية ولا في الصحافة إلّا من خلال تهديداته لأمن الغزاة، سواء أكانوا من رجال الغرب الأمريكيين حيث لا يجوز لـ “الهنود الحمر” أن يكونوا إلّا أمواتًا أو عملاء، وحين لا يجد الفلسطينيون، الذين طُردوا من أرضهم المسلوبة، أو سقطوا برصاص الاحتلال، سلاحًا سوى الحجارة العتيقة لأرض أجدادهم. وهنا أيضًا، وكما حدث في عهد الاستعمار والهتلرية، أطلقوا على مقاومة المحتلّ اسم “الإرهاب”.. و”إسرائيل” تطالب بأمنها بينما هي تهدِّد أمن جيرانها باحتلال أراضيهم الحدودية (على الرغم من أيّ قانون دولي، وإدانات الأمم المتحدة الأفلاطونية) وبتطوير برنامج لتفتيت كل الدول المجاورة من “الفرات” إلى “النيل”.
وها هنا مسيرة استعمارية نموذجية. ذلك أنَّ مؤسس الحركة الصهيونية “تيودور هرتزل” كتّب منذ قرن ما يلي: “سنكون المعقل المتقدّم للحضارة الغربية ضدّ همجيّة المشرق”. وحدث الأمر ذاته” مع “هنتنغتون”، العقل المفكر للبيت الأبيض، بعد قرن من المفكّر الصهيوني، وذلك في كتابه “صدام الحضارات”، إذ وضع الحضارة (اليهودية – المسيحية) في مواجهة الحضارة (الإسلامية – الكونفوشيوسية).
صيَّادو البشر يكتبون التاريخ
إنَّ المخطّط الأسطوري هو ذاته، وكذلك الصّيغتان التوأمتان تتّحدان في إبعاد وإبادة “الهنود الحمر” من جانب الولايات المتحدة، وإبعاد وإبادة الفلسطينيين من جانب صهاينة “إسرائيل” التي تمارس في سياستها سياسة الفصل العنصري (الأبارتايد) نفسها والتوسَّع الاستعماري مثل حاميتها الأمريكية.
إنَّ رفض الآخر، ورفض الحوار المثمر بين الثقافات والحضارات هو الذي يلهم منذ قرون، من “يشوع بن نون” حتى “يوليوس قيصر”، ومن “بيزارو” حتى “ناتنياهو”.. صيادي البشر الأسطوريين أو (التاريخيين) كل أصحاب الحملات الصليبية، وكل المستعمرين وكل المحتلّين وكل الحروب. والتاريخ، الذي يكتبه المنتصرون دائمًا، يُطلق عليه على الدّوام “انتصار الحضارة والحق”، إنّه انتصار الأقوى.