مع الفيلسوف “روجيه غارودي”.. الفكر الاستعماري والعقيدة الصهيونية.. علاقة لها تاريخ! (الجزء الثالث)

“إنّ الحرب التي وسَّعت رقعة الحضارة على حساب الهمجيّين والوحشيّة كانت أحد العوامل الفعّالة في التقدُّم البشري”، هذه الكلمة للرئيسي الأمريكي “تيودور روزفلت”، وهي تُبرّر حركة الاستعمار الغربي، وتمنح “الشّرعيّة” لقتل وتدمير الشعوب والهيمنة على ثرواتها باسم المدنيّة والحضارة وتحقيق التقدّم البشري، وهي كلمة تختزل فلسفة الهيمنة الغربية منذ انطلاق الحركة الاستعمارية، وما زالت “صالحة” وتُمارس حتى اليوم في فلسطين وفي دول عربية أخرى.. قال “غارودي: “كلّ غزو أو عدوان استعماري هو مشروع باسم المدنيّة، أمّا مقاومة الشعوب المستعمَرة والمضطهَدة والمعرّضة للإبادة فتحمل، وبلا هوادة، اسم الإرهاب”.

يقول “روزفلت” أيضًا: “إنَّ أكثر الحروب عدالة هي الحرب ضدّ المتوحّشين. إنَّ المستوطن الصّلب الفخور الذي يطرد المتوحِّشين من أرضهم يحقُّ له أن يحظى بعرفان جميع المتحضّرين.. لا يمكن للعالم أن يحرز أيّ تقدم دون ترحيل وسحق الشعوب المتوحشة والهمجية بواسطة المستوطنين المسلَّحين، ذلك العنصر الذي يحمل في يديه مصير الأجيال”. بمثل هذه الاستشهادات يقدّم لنا “روجي غارودي” الغربَ الذي لا نريد أن نراه ونفهمه على حقيقته. الغرب الذي “نعتنق” بشغف كبير حضارتّه التي قامت على جماجم أسلافنا وثروات شعوبنا..

حاول “روجي غارودي” أن “يقنع” الشعوب التي لا تنتمي إلى الغرب (أوروبا وأمريكا) بأنَّها كائنات بشرية متوحّشة وهمجيّة في العقيدة الغربيّة الحقيقية، وكل ما يحدث على خارطة العرب والمُسلمين – خاصة – هو تجسيد لتلك العقيدة بكل بساطة، ويسوق لنا أمثلة كثيرة منها هذا المثل الذي قال فيه: “وفي استفتاء أجرته مجلة “فورتون” في ديسمبر/ كانون الأول من عام 1945 كانت ربع الإجابات تتمنَّى لو أنّ الولايات المتحدة استخدمت المزيد من القنابل الذريّة قبل استسلام اليابان..”.

كما يسوق لنا مثلَ كتابه “الأساطير المؤسِّسة للسياسة الإسرائيلية” الذي تُرجم إلى أكثر من ثلاثين لغة، وأثار زوبعة عالميّة، وجلب له المتاعب في القضاء والإعلام.. لأنّه عّرى الغرب أمام مرآة الإنسانية، وكشف بأنّه أسّس تاريخه على الأساطير، وربط بين الصهيونية العالمية وحركة الاستعمار، فهما يشتركان في إباحة قتل “المتوحّشيين الهمجيّين”، من منطلق “شعب الله المختار”.. بل أكّد “غارودي” بأنّ الولايات المتحدة الأمريكية هي “مُستعمَرة إسرائيلية”، والأمر ينطبق على الدول الاستعماريّة الأوروبيّة أيضًا.

تواصل جريدة “الأيام نيوز” إعادة نشر ما كتبه “روجيه غارودي” حول “الاستعمار الثقافي، والصهيونية، والتمسك بالأسطورة بدلاً من سرد الحقائق في تدريس التاريخ”، ونشرته مجلة “الآداب الأجنبية” في أكتوبر 2001، مُترجَمًا من طرف “هشام حداد”.. ونترك القارئ مع المقال..

تضليلٌ غربي يحمل اسم التاريخ

إنّ التّعميد الرسمي لمثل هذه الأساطير التي حلّت محلّ ما يستحق أن يحمل اسم التاريخ، يُعبّر عن تضليل آخر، يجعل من الشعوب والحضارات غير الغربية، ذيولاً لتاريخ الغرب، لا تدخل في “التاريخ” إلَّا إذا كانت من مكتشفاته.

إنَّ التاريخ الذي تمّ نقله إلينا عن طريق الكتب المدرسية ليس سوى تاريخ “الغرب” مع ذيوله المتعلقة بشعوب أخرى، دراستها من شأن “أصحاب الاختصاص” في “الكوليج دي فرانس” أو في مدرسة “اللغات الشرقية”. ولدى تلميذ المرحلة الابتدائية أو الثانوية بعض الفصول يمكنه قراءتها حول “ماركو بولو” في “آسيا”، أو “سافورنيان دي برازا” أو “فيدرب” في “إفريقيا”. ولكن لا شيء حول “الصين”، حيث أتت جميع الاكتشافات العلمية التي أتاحت قيام “عصر النهضة” في “أوروبا”، أو حول إمبراطوريات “سونغهاي” التي جعلت من “تومبوكتو” أحد أعظم مراكز البحث في الرياضيات، أو حول حضارة “المايا” حيث أبدع علم الفلك تقويمًا أدقّ من التّقويم الغريغوري، وقبله بقرون عدة.

النزعة العنصرية في الكتب المدرسية الغربية

لقد بلغ الأمر بالنّزعة العنصرية لدى الغرب حدًّا – على سبيل المثال – أدّى بكتبنا المدرسية وموسوعاتنا أن تجعل من “غوتنبرغ” مكتشفًا للطباعة التي كان الصينيون يمارسونها قبل خمسة عشر قرنًا، ومن “هارفي” مكتشفًا للدّورة الدمويّة الصغرى في القرن التاسع عشر، في حين كان “ابن النفيس”، الطبيب العربي المولود في عام (1210)، قبل أربعة قرون من “هارفي”، وقبل ثلاثمائة عام من “ميشيل سيرفيه”، قد أعطى وصفًا واضحًا ورسمًا تخطيطيًا لهذه الدورة الدمويّة من خلال شروحه على أعمال “ابن سينا.”

وهكذا فإنَّ كل غزو أو عدوان استعماري هو مشروع باسم “المدنيّة” أمّا “مقاومة” الشعوب المستعمرة والمضطهدة والمعرضة للإبادة فتحمل، وبلا هوادة، اسم الإرهاب.

“الأساطير المؤسِّسة”.. عبارةٌ غزت العالم

لم يكن دور الأسطورة هذا، الذي حلّ محلّ التاريخ، في أيّ زمن أكثر تشويهًا ممّا كان عليه في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية، وفي الموضع الجغرافي الذي يشكل نقطة الاتصال بين “الشرق” و”الغرب” أي “فلسطين”.

وكُنّا قد أوضحنا ذلك في كتابنا “الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية”، مشيرين إلى ألوان التّزوير المشينة للتاريخ ممّا أثار اهتمامًا عالميًّا، وقد تمَّت ترجمة الكتاب في “اليابان”، و”الصين”، و”روسيا”، وفي أنحاء أوروبا” كافة، من “اليونان” حتى “إنكلترا”، وفي “أمريكا الشمالية”، و”البرازيل”؛ تمّت الترجمة في ثلاثين بلدًا، وانضمّت إلى الأبحاث الحالية للمؤرخين الجدد في “إسرائيل” نفسها، حيث أصبح تعبير “الأساطير المؤسِّسة” شائعًا، ولاسيما بعد الكشف عن وثائق “الدولة” بعد خمسين عامًا من الكتمان.

شعوب ملعونة.. وشعب واحد مُختار!

والواقع، أنَّ الأساطير الصهيونية، التي انتشرت بكثافة في العالم أجمع، جعلت الجرائم النازية غير مفهومة. فهم تارة ينسبونها إلى مجرّد الهوس اللاّسامي لدى “هتلر”، وتارة إلى الجنون الشيطاني للشعب. في الحالة الأولى هم يفترضون وجود شيطان طارئ على التاريخ كأنّه نيزك هابط من السماء؛ وفي الحالة الثانية، ومن أجل إيضاح إمكانية قبول الشعب في أكثريّته هذا الهوس، يجب التَّسليم أنَّ هناك شعوبًا ملعونة، كما يوجد شعب مختار من ربّ منحاز، رمى من السماء قدرًا، سواء أكان لعنة أم اختيارًا لشعب بأكمله. إنّ هذه المقولة الأخيرة هي الأكثر شيوعًا لأنّها النتيجة الطبيعية لادّعاء الاختيار.

وعلى سبيل المثال ما يقوله “جوناه غولدهاغن” من أنّ كل الشعب الألماني وثقافته، كُتِب عليهما الإجرام، وهذا ما ردّده “برنار هنري ليفي” بشأن الشعب الفرنسي.. إنّه منطق الإيمان بشعب مختار، انتزعه “الله” من حُماة الشعوب الأخرى. وهناك اعتقاد آخر ناجم عن الإيمان بالشعب المختار، وهو الطّابع الفريد لـ “مجزرة اليهود”، بمنحها طابعًا خاصًا بها مقدَّسًا، لاهوتيًّا بتسميّتها: “الهولوكوست” (المحرقة).. أمّا كل الضحايا الآخرين على امتداد التاريخ، ومن جملتهم ضحايا شرور الهمجيّة الفاشية، فهي ترهات قديمة: لا تدخل ضمن خُطط الربّ الذي يزعمون أنّه يختار، أو يستبعد!

الغربيّون بشرٌ.. وبقيّة العالم “معرضٌ للوحوش”

باستثناء “الشعب المختار”، ليس الآخرون سوى “معرض للوحوش”، ولكن “هتلر” و”جلاّديه المتطوّعين” يحتلّون بينهم موقعًا متميِّزًا: فاختراع الإنكليز لمعسكرات الاعتقال خلال حرب “البوير” حيث كان العنصريون يقتلون المعذَّبين، والمجازر التي قام بها “المغامرون “الإسبان” بقتل الملايين من الهنود في “أمريكا”، ومشاركة “أوروبا” بأسرها في تجارة العبيد السُّود.. وعزم “هملر” على إبادة ثلاثين مليونًا من السّلاف (كما ورد في كتاب “محاكمة نورمبرغ” لجان مارك فارو)، كل ذلك لا يمكن مقارنته مع تشتيت اليهود وحدهم كما يقول “غولدهاغن” في كتابه.

وبعيدًا عن الشعب المختار، جاءت عبارة “بيغن” بعد المجازر الدامية في “صبرا وشاتيلا” التي خطط لها “أرييل شارون”، كالتالي: “إنّ جماعة من غير اليهود قتلوا جماعة من غير اليهود، فما شأننا في هذا؟”.

أكثر الحروب عدالة هي الحرب ضدّ المتوحّشين!

هناك شعب واحد آخر فقط يتمتّع بالامتياز والنّقاء: إنّه شعب “الولايات المتحدة”، فقد حدّد أحد رؤسائه، “تيودور روزفلت”، دون مواربة، السياسة العنصرية: “إنَّ أكثر الحروب عدالة هي الحرب ضدّ المتوحّشين. إنَّ المستوطن الصّلب الفخور الذي يطرد المتوحِّشين من أرضهم يحقُّ له أن يحظى بعرفان جميع المتحضرين.. لا يمكن للعالم أن يحرز أيّ تقدم دون ترحيل وسحق الشعوب المتوحِّشة والهمجيّة بواسطة المستوطنين المسلَّحين، ذلك العنصر الذي يحمل في يديه مصير الأجيال”، (من كتاب “انتصار الغرب”. ورد ذِكر “تيودور روزفلت” بالثّناء عليه في محكمة “نورمبرغ”، في المجلد الرابع من النسخة الإنكليزية).

ولقد ورد في طبعة عام 1970 من “التَّصريحات” الرئاسية لـ “تيودور روزفلت”، ما يلي: “إنّ الحرب التي وسّعت رقعة الحضارة على حساب الهمجيّين والوحشيّة، كانت أحد العوامل الفعّالة في التقدُّم البشري”..  ومن الجدير بالذِّكر، أنَّ محكمة “نورمبرغ” استشهدت عدّة مرّات بعبارات لـ “هتلر” تحمل الفحوى ذاتها: “إنَّ العنصر المتفوّق.. أخضع العنصر الأدنى.. بناءً على حقّ الأقوى الذي أوجدته الطبيعة، لأنَّه هو القانون المعقول الوحيد، إذ إنّه قائم على العقل.”

في عام 1945، بعد قصف “طوكيو” الذي قتل مائة ألف من المدنيين، (حيث كان يقول الميجر جنرال “كورتيس لوماي”، قائد العملية لقواته: “اسلخوا جلدهم أحرقوهم، أشووهم). لم يصدر أيّ احتجاج عميق لدى الرأي العام الأمريكي، بل إنّ “إليوت روزفلت” ابن الرئيس أضاف أنّه يجب متابعة قصف اليابان “حتى يتمّ تدمير زهاء نصف السكان المدنيين.”

وفي استفتاء أجرته مجلة “فورتون” في ديسمبر/ كانون الأول من عام 1945 كانت رُبع الإجابات تتمنَّى لو أنّ الولايات المتحدة استخدمت المزيد من القنابل الذريّة قبل استسلام اليابان.. ولم تكن “هيروشيما” و “ناغازاكي” كافيتين لهؤلاء المدافعين عن حقوق الإنسان، وكذلك الحال في الإعدام الجائر لثلاثة آلاف أسود بدون محاكمة بين عامي (1880 – 1930)، والآذان المقطوعة للأسرى اليابانيين عام 1945، أو جماجمهم المستخدمة لتزيين السيارات العسكرية، أو عناصر تزيينيّة لصورة فتاة منشورة في مجلة “لايف”.

وظلت هذه العقلية تلهم أمثال “غولدشتاين” وناتنياهو” (اللّذين تلقّى كلّ منهما تعليمه في الولايات المتحدة) كما ذكر الصحفي الإسرائيلي “آري شافيت” غداة الجريمة التي ارتكبت ضدّ الإنسانية في “قانا”: “قتلنا 170 شخصًا كان بينهم نساء وشيوخ وفيهم طفلة في عامها الثاني.. لقد حرصنا على إرسال الموت عن بعد.. قتلناهم لأنّ الهوة بين الطّابع المقدّس الذي مازال يزداد اتّساعًا والذي نضفيه على أرواحنا، وبين ذلك الذي يزداد ضيقًا، والذي نقرّ بوجوده لدى الآخرين، أتاحت لنا قتلهم”. (صحيفة “هاآرتس” الإسرائيلية، “نيويورك تايمز سنديكيشن”، مترجمة في صحيفة “ليبراسيون” في 21 ماي 1996).

أمريكا مُستعمَرة “إسرائيلية”

إنَّ فلسفة هذه الرؤية للعالم أجمع هي من صنع “إيلي فيسيل”، الذي يعِدّ نفسه الشاهد الأمثل: “من يرفض تصديقي، فإنّه يقود إلى التضامن مع أولئك الذين ينكرون الهولوكوست (المحرقة)…”. وفي صدد إدانته لأولئك الذين احتجّوا على الغارات التي شنّتها “إسرائيل” على لبنان وبذلك “زرعوا بذور الفوضى”، كتب يقول: “ألم يكن من الأجدى دعم (إسرائيل) غير المشروط بغضّ النّظر عن الآلام التي يعانيها سكان بيروت؟”. (من كتاب: ضد الصمت، نيويورك 1984).. وكتب “نورمان بودوريتر” في “بريكنغ رانكس” (نيويورك) قائلاً: “منذ حرب الأيام الستة أصبحت دولة (إسرائيل) تمثّل ديانة اليهود الأمريكيين”.

هذا التَّحريف للتاريخ، مع النتائج الداميّة الناجمة عنه، سببها العلاقة الوثيقة الاستثنائية (الأميركية – الإسرائيلية)، والتي تمّت منذ بداية الخمسين عامًا التي انقضت، والتي بقلبها لميزان القوى جعلت من الولايات المتحدة، اليوم، مُستعمَرة “إسرائيلية”.

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
توقيع اتفاقيات بين "سكيلس سنتر" والمؤسسات الجزائرية لدعم التحول الرقمي أمن الشلف يضع حداً لشبكة دولية لتهريب مهاجرين عبر البحر أمن بشار يفكك شبكة إجرامية ويضبط 22.56 كيلوغرامًا من المخدرات هذا هو رابط المنصة الجديدة لأساتذة التعليم العالي للحصول على شهادة تدريس عبر الخط سفيان شايب: "الجزائر تضع أبناء الجالية ضمن أولوياتها لتنمية الاقتصاد الوطني" القرض الشعبي الجزائري..نمو ملحوظ في الصيرفة الإسلامية نحو إطلاق 12 مشروعًا رقميًا لحماية التراث الثقافي وحدات حرس السواحل تنفذ عملية إجلاء إنساني لـ 03 بحارين من جنسية بريطانية مزيان يدعو إلى تعزيز مهنية الإعلام لمواجهة حملات التضليل ضد الجزائر رداً على الاستفزازات الفرنسية.. حركة النهضة تدعو إلى رفع التجميد عن قانون تعميم استعمال اللغة العربية بداري يُشرف على توقيع 21 اتفاقية توأمة بين جامعات ومراكز بحثية وزارة الصناعة تُوقّع على مذكرة تفاهم مع شركة رائدة في صناعة السيارات لمناقشة ملفات هامة.. وزير الخارجية التركي في زيارة رسمية إلى الجزائر حرب الظل تبلغ ذروتها في روما.. تسريبات ولقاءات خفية تعيد ترتيب أوراق النووي الإيراني الخارجية الفلسطينية تُحذّر من مُخطّط خطير يستهدف الأقصى شنقريحة يُنصّب القائد الجديد للدرك الوطني أيام إعلامية حول الشمول المالي عبر ولايات الوطن قارّة الشرور.. كيف أنتجت أوروبا كل طغاة القرن العشرين؟ إصابة 12 شخصاً في انقلاب حافلة بالجزائر العاصمة جولة جديدة من المحادثات النووية بين طهران وواشنطن