الدكتور “محمد أركون” (1928 – 2010) مفكر جزائري أثار جدلا واسعًا بنقده للعقل الإسلامي بأدوات ومناهج غربيّة أسّس منها ما سمّاه علم “الإسلاميات التطبيقيّة”. وهو يرى بأنّ أن العقل الإسلامي واقعٌ في حالة الجمود ويعاني من قطيعة مع تراثه وموروثه، كما يعاني من قطيعة مع الحضارة الغربية، وإعادة بعثه و”تشغيله” تستوجب استخدام المناهج الغربية الحديثة في إعادة قراءة التراث الإسلامي، وتحرير ذلك العقل من استغراقه في الافتخار الوجداني بمُنجزات الحضارة العربية الإسلامية قبل قرون، ومن المقولة الجاهزة: “هذا عرفناه قبل 14 قرنًا”، دون تقديم أيّ منجزات تُذكر في الحضارة الإنسانية المعاصرة!
وسواءٌ اتفقنا مع “أركون” أو اختلفنا معه، فيجب أولاً أن نقرأه ونفهم مشروعه الفلسفي القائم على نقد العقل الإسلامي اعتمادًا على علوم “الإنسان والمجتمع”. يقول “أركون” عن مشروعه: “مشروع نقد العقل الإسلامي لا ينحاز لمذهب ضد المذاهب الأخرى ولا يقف مع عقيدة ضد العقائد التي ظهرت أو قد تظهر في التاريخ. إنه مشروع تاريخي وأنثروبولوجي في آن معا، إنه يثير أسئلة أنثروبولوجية في كل مرحلة من مراحل التاريخ. ولا يكتفي بمعلومات التاريخ الراوي المشير إلى أسماء وحوادث وأفكار وآثار دون أن يتساءل عن تاريخ المفهومات الأساسية المؤسسة كالدين والدولة والمجتمع والحقوق والحرام والحلال والمقدس والطبيعة والعقل والمخيال والضمير واللاشعور واللامعقول والمعرفة القصصية (أي الأسطورية) والمعرفة التاريخية والمعرفة العلمية والمعرفة الفلسفية… لا شك في أن مؤرخي الفكر والأدب قد أرّخوا لتلك المفهومات ولكننا لا نزال نفرق بل نرفع جدارات إدارية ومعرفية بين شُعب التاريخ والأدب والفلسفة والأديان والعلوم السياسية والاجتماعية والنفسية والأنثروبولوجية… والجدارات قائمة مرتفعة غليظة في الجامعات العربية التي لا يرجع تاريخ معظمها إلى ما قبل الخمسينيات والستينيات، والأنثروبولوجيا (علم الإنسان وما يرتبط به من علوم) بصفة خاصة لم تزل غائبة في البرامج وعن الأذهان، ناهيك عن تطبيق إشكالياتها في الدراسات الإسلامية”.
هناك من أدان فكر “أركون” انطلاقًا من كون الرجل كان أستاذًا في جامعة “السوربون” (1961 – 1991)، وأستاذًا زائرًا في عدد من الجامعات حول العالم، ومستشارا علميًّا للدراسات الإسلامية في مكتبة الكونجرس في “واشنطن”، وعضوًا في مجلس إدارة معاهد الدراسات الإسلامية في لندن.. ومواقع أخرى ربطت بينه وبين المشاريع الغربية التي تستهدف ضرب الإسلام واللغة العربية، لا سيما جهوده في “جماعة باريس” للبحث (الإسلامي – المسيحي)، يقول “أركون”: “وقد شكّلتُ بالتعاون معه (مع الأب كلود جيفري) ومع فرانسواز سميث فلورنتان وجان لامبير (مجموعة باريس) داخل الجماعة الأوسع للبحث (الإسلامي – المسيحي) التي كانت قد أسِّست من قبل الأب ر. كاسبار. وضمن هذه المجموعة بالذات كنتُ قد حاولت أن أزحزح مسألة الوحي من أرضية الإيمان العقائدي (الأرثوذكسي) والخطاب الطائفي التبجيلي الذي يستبعد (الآخرين) من نعمة النجاة في الدار الآخرة لكي يحتكرها لجماعته فقط. قلتُ حاولت أن أزحزح مسألة الوحي هذه من تلك الأرضية التقليدية المعروفة إلى أرضية التحليل الألسني والسيميائي الدلالي المرتبط هو أيضا بممارسة جديدة لعلم التاريخ ودراسة التاريخ. أقصد بذلك دراسة التاريخ بصفته علم أنثروبولوجيا الماضي وليس بصفته سردا خطّيًا مستقيما للوقائع المنتخبة بطريقة معينة”.
ملتقى الفكر الإسلامي الذي كانت تنظّمه الجزائر سنويًّا خلال سبعينيات القرن الماضي ويستقطب العلماء والمفكّرين من مختلف بلدان العالم، لم يضق بفكر “محمد اركون” ومشروعه الذي ظل وفيًّا له على امتداد أكثر من أربعة عقود.. بل أفسح له المجال واسعًا للتعبير عن أفكاره “الجريئة” بكل حريّة وتفهّم، وهذه من مميزات ملتقى الفكر الإسلامي في الجزائر. وفيما يلي تقدّم جريدة “الأيام نيوز” واحدة من محاضرات “أركون” التي ارتجلها ارتجالاً حول “الدراسات العربية والإسلامية في أوروبا”، ونشرتها مجلة “الأصالة” الجزائرية في شهر أفريل 1977..
الاهتمام العلمي الغربي بالشرق العربي
كان للاتجاه العلمي السائد في القرن 16 أثرٌ في الدراسات العربية والإسلامية، فقد أنشِئ الكرسي الأول لتدريس العربية في “كولاج دو فرانس” عام 1536 واشتغله “غيليوم بوستال” (1510 – 1581) الذي جمع عددا كبيرًا من المخطوطات، أنشِئ كذلك كرسي في “أوكسفورد” عام 1638 واشتغله “إدوارد بولوك”. وفي عام 1680 صدر في النمسا معجم اللغة التركية لـ “فرانز منينسكي”، ولـ “بـ. ديهاربيلوت” (1625 – 1695) كتابٌ ضخم في المكتبة الشرقية، وللهولندي “توماس فان آرب” أول مُؤلَّف في النحو العربي.
وازداد الاهتمام العلمي بالشرق عامة في القرنين 17 و18، وممّا يدلّ على ذلك أنّ الفرنسي “أ. غلاند” أصدر ترجمته لـ “ألف ليلة وليلة” بين (1704 – 1717). واعتنى كثير من الفلاسفة والعلماء باكتشاف جوانب مجهولة من المدنيّة الإسلامية واستخدامها لأغراض ثقافية أو سياسية كما فعل “فولتير” بصفة خاصة، ولا يتّسع لنا المجال لتفصيل أعمال هؤلاء..
ولم تنقطع النزعة الاستخدامية في القرن 19، إذ نجد رجال السياسة القائمين بنشر الاستعمار في البلدان الإسلامية يتوجّهون إلى المتخصصين في الدراسات الشرقية ليتسمدّوا من كُتبهم ما لا بد منه من المعلومات لتدبير شؤون “الأهالي” واستخدام الإدارة الاستعمارية للدراسات الشرقية معروف شائع في الجزائر خاصة.
على أنّ الاهتمام العلمي ما زال يتوسّع ويتعمّق منذ غزو “بونابارت” لمصر، حيث بدأ التفتيش الأثري عن المدنية الفرعونية. وفي النصف الأول من القرن 19 أُسِّست الجمعية الآسيوية بفرنسا (1821) التي تصدر مجلة منذ عام 1823 إلى يومنا هذا، والجمعية الملكية الآسيوية ببريطانية (1834)، والجمعية الشرقية الأمريكية (1842)، والجمعية الشرقية الألمانية (1849)، ولكل منها مجلة.
ونَستبِين هذا التفتّح على الشرق عند المسافرين والأدباء مثل: هوغو، لامارتين، نيرقال، فلوبير، وغيرهم.. وفي هذا العصر ظهرت الدراسات التاريخية المشهورة لكبار المستشرقين الأوروبيين.
وممّا يجدر بالذكر في هذا المضمار أنّ “تاريخ الأدب العربي” للمستشرق “بروكلمان” لا يوجد له نظير بالعربية إلى يومنا هذا، وقد واصل تأليفه العلّامة التركي “فؤاد سيزغين” بالألمانية. ولم يُترجم من تلك المصادر القيّمة للتراث العربي بالمعنى الصحيح إلا 3 مجلدات خفيفة رديئة العرض والتبويب، قليلة الفائدة. ولا أقول هذا استطالةً على الزملاء العرب، وإنّما أقصد سدّ الثّلم واستدراك النقص في إحياء التراث.
وما دمنا نعرض للإنتاج العلمي عند الأوروبيين في القرن 19 والنصف الأول من القرن العشرين، فلا بد من الإشارة إلى “دائرة المعارف الإسلامية” التي تمت الطبعة الأولى منها في 4 مجلدات سنة 1937، وقد صدرت الكرّاسة الأولى سنة 1907، وقد شرع العلماء في إعداد طبعة جديدة مزيدة ومنقحة سنة 1954، وقد صدرت في 3 مجلدات إلى هذا اليوم. ومن يريد أن يدرس اتجاهات علماء الغرب في الدراسات الإسلامية منذ 30 سنة، فإنّما عليه أن يتأمّل هذه الموسوعة المحيطة بجميع جوانب الحياة والمعرفة في المجتمعات الإسلامية في ماضيها وحاضرها. أمّا الإنتاجات في الفنون العلمية المختلفة، فلا يمكن إحصاؤها هنا، وقد استوعب ذكرها “جـ. د. بيرسن” في فهرست بعنوان “دليل الدراسات الإسلامية”.
مرحلة التعاضد في البحث العلمي
مهما بلغت الدراسات الإسلامية في الغرب من الأهمية من حيث العدد والإلمام بالمعلومات المفصلة، فإنّها بقيت متقيّدة بالمنهاج الفيلولوجي (وهو كما قلنا منهاج ضروري في تحقيق النصوص القديمة) ومقدّمات “التاريخ الرّاوي” الذي يكتفي بسرد الحوادث والأسماء المشهورة على طريقة الحوليّات عند المسلمين. ومعنى ذلك أنّ الأغلبية من الباحثين الأوروبيين عن الإسلاميات ما زالوا منعزلين ومعتزلين في بيئتهم الجامعية، فإنّهم لم يؤثّروا بمؤلّفاتهم على الاتجاهات العلمية السائدة ولم يتأثّروا بالاتجاهات الجديدة التي بدأت تظهر بعد الثلاثينيات (من القرن العشرين) فيما نسمّيه اليوم العلوم الإنسانية للقدماء.
وسأضرب مثلَين لتوضيح المقصود. في سنة 1955 نشر “كلود كاهين”، أستاذ تاريخ الشرق الإسلامي في جامعة “السوربون”، مقالة تُعتبر بيانًا لتطبيق مناهج جديدة وفتح ميادين مجهولة في تاريخ المجتمعات الإسلامية. وفي الحقيقة كان الأستاذ “كاهين” ينتمي إلى مدرسة اشتهرت في فرنسا ثم في جميع العالم، بمدرسة “الحوليّات” التي أبدعها الأستاذان: “لوسيان فيبفر” و”مارك بلوش” في الثلاثينيات، وللمدرسة مجلة مشهورة جدا لم تزل تصدر وتوسّع آفاق البحث التاريخي إلى هذا اليوم، وهي مجلة “الحوليات، اقتصادات، مجتمعات ومدنيات”. ومع أنّ تأثير هذه المدرسة أدّى إلى تحويل “التاريخ الرّاوي” إلى تاريخ شامل تحليلي مثير للمشاكل أكثر مما يستهدف “العِبَر” والتأويل الإيديولوجي للماضي، فإنّ مؤرخي المجتمعات الإسلامية لم يلتزموا إلّا قليلا هذا المذهب المُحرَّر من ميثولوجيات “التاريخ الرّاوي”.
أمّا المثل الثاني، فهو أنّ المؤتمر الأول لسوسيولوجية الإسلام إنما انعقد في “بروكسيل” سنة 1961.. لا يعني هذا أن الأوروبيين لم يطبّقوا المنهاج السوسيولوجي على المجتمعات الإسلامية قبل سنة 1961 فإن دراسات ” لويس ماسينيون” و”ر. مونتانيو” مثلا اعتمدت على المنهاج السوسيولوجي إلى حد ما؛ ولكن مؤتمر “بروكسيل” أبرز الثّلم والتقصير في تفهّم المجتمعات التي لم تُحلّل بعد كمنظومات متماسكة الأجزاء مترابطة العناصر ومُتعدّدة المناحي، خاضعة لقانون التحوّل أي الانحلال والتركّب حتى في العصور الموصوفة بالجمود. وهنا مع الأسف عراقيل تمنع من تعميم هذه الدراسات وتطويرها في المجتمعات الإسلامية المعاصرة، وهي عراقيل ملازمة لمرحلة البناء القومي التي ترتجلها تلك المجتمعات منذ الخمسينيات (من القرن العشرين).
كثيرًا ما يُعبّر طلبتي عن رغبتهم في معالجة موضوع سوسيولوجي أو إيثنولوجي، فيعدلون عن مشروعهم عندما يجابهون صعوبات القيام بالبحث في الأرياف والاتصال بالعوام. وهذا النوع من الاطلاع على الحقائق الأصيلة في المجتمعات ضروري إذا أردنا أن نتجاوز مستوى الوصف السطحي والاعتناء بالجزئيات في بحوثنا.
وهناك اتجاه ثالث في العلوم الإنسانية سأعرض له بالتفصيل.. ألا وهو الاتجاه اللّسني (الألسني)، وإنّما بدأنا نلتمّس بوادر هذا التيار العلمي القوي منذ بضعة سنين في الدراسات العربية. ولا شك أنّ تطبيق القراءة اللّسنية لجميع النصوص العربية سيستتبع تجديدا جذريا في الحياة الفكرية الإسلامية المعاصرة. ومن الملاحظ البيِّن أنّ الفكر الغربي مدينٌ للاتجاهات الجديدة المذكورة بالانتقال من المرحلة الاستخدامية الإيديولوجية للعلوم الإنسانية إلى مرحلة التعاضد في البحث عن الوضع البشري.
نعم إنّ هذا الانتقال لم يزل متفاوت التعمّق والانفصال عن المواقف التقليدية، إلا أنّه لا يزال يتحقّق عند عدد متزايد من الباحثين بحيث أنّ انتقاد المسلمين لمن اتصفوا بـ “بالمستشرقين” منذ القرن 19، يدلّ على عدم اطّلاع المنتقدين على التطورات والتغيرات الحديثة في العلوم الإنسانية أكثر مما ينبّه على أخطاء محققة بصفة عامة..
انقلاب علماء الغرب وتغيير مصطلح “الاستشراق”
وقد يسأل سائلٌ ويقول: ما هي أسباب هذا الانقلاب الذي حدث عند علماء الغرب، بحيث أنهم لم يعودوا يرضون باسم الاستشراق وأقرّوا بتغيير تسمية “المؤتمر الدولي للمستشرقين” إلى “المؤتمر الدولي للعلوم الإنسانية بآسيا وإفريقيا”؟ ثم هل يصحّ القول بأنّ اهتمام الغرب بالدراسات الإسلامية ليس وراءه غرض سياسي أو ديني كما كان الأمر في الماضي؟ (تغيير المؤتمر الدولي.. إنّما أُقِرّ هذا التغيير في مؤتمر باريس الذي انعقد عام 1973، وهذا يدل على أنّ العقليات تتطوّر ببطء. وانتهزُ الفرصة لأقول أنّي لا أوافق الذين أدمجوا إفريقيا الشمالية في آسيا من حيث البحث العلمي).
نعم، هذا سؤال لم يزل وجيهًا في بلد عربي إسلامي. ولا شك أن الدافع السياسي أقوى من الدافع الثقافي للاعتناء المتزايد بالتعرّف على العالم الإسلامي. ولا شك أيضا أن البحث العلمي تستغله الطبقة الحاكمة بالرغم من العلماء المجتهدين بنية عرفانية محضة.
كان مقصدي الأسنى في حديثي كله أن أساهم في خلق جوٍّ جديد يسوده التفاهم والتعاضد بين العلماء المسلمين وعلماء الغرب الذين يبذلون جهودا عجيبة لإحياء التراث الإسلامي، ولبعث المدنية الإسلامية في طرق متأصّلة وجديدة. ولا يخفى أن المجتمعات الإسلامية والمجتمع الجزائري بصفة خاصة، قد اندفعت في مرحلة التصنيع؛ والتصنيع عملية مركبة مثيرة لاضطرابات هائلة في جميع مستويات الحياة الإنسانية. وكما أن المجتمعات الغربية المُصنِّعة لجأت إلى العلوم الإنسانية لتستنبط حلولا ملائمة لمقتضيات أصالتها وأحوالها الجديدة فكذلك المجتمعات الإسلامية، ما دامت تتوق إلى مدنية التّصنيع، لا بد أن تشارك في البحوث عن الإنسان على المستوى الأنثروبولوجي مع الانطلاق من المستوى الإسلامي.
إشارة
أشار الكاتب في ملحقٍ لمقاله إلى أنّ: فرنسا تُعتبر البلد الأوروبي الوحيد الذي يسمح لتلاميذ المدارس الثانوية أن يختاروا العربية كلغة أولى أو ثانية. إلا أنّ تدريس العربية لا يضمن إلا في بعض المدارس في المدن الجامعية مثل: باريس، ستراسبورغ، ليون، مرسيليا، تولوز، بوردو، ليل.. أما الجامعات التي يوجد فيها معهد أو قسم مُخصّص للدراسات العربية والإسلامية فهي الأتية: بعض جامعات باريس، كوليج دو فرانس، المعهد الوطني للغات الشرقية الحية، المدرسة التطبيقية للدراسات العليا، المنظمة الوطنية للعلوم السياسية.. وتوجد في فرنسا: جمعية لتشجيع الدراسات الإسلامية؛ جمعية لتشجيع الدراسات التركية؛ جمعية أساتذة العربية، وقد اتفقت هذه الجمعية الأخيرة على برنامج من البحوث التي أُهملت إلى الآن أو أصبحت ضرورية كالألسنية المُطبّقة لتعليم اللغة للمبتدئين، وتأليف معجم تاريخي للغة العربية، ومعجم للغة الحديثة ومعاجم اصطلاحية (الفلسفة، العلوم، التقنيات..)، توجيه الطلبة المترشحين لدكتورة الدولة نحو موضوعات متفتّحة على الجوانب المهملة من ماضي الإسلام والجوانب العملية الحيّة من حاضر المسلمين.