مع المفكّر الجزائري “مالك بن نبي”.. مشكلة الحضارة أم أزمة الحضارة الإسلامية؟ (الجزء الثاني)

ينطلق الفيلسوف الإنكليزي ” برتراند راسل” في كتابه “كيف تكسب السعادة؟” من مُسلَّمة أساسية وهي امتلاك الإنسان لبيتٍ يأوي إليه وعملٍ يُؤمِّن رزقه ويحفظ كرامتَه، وفي غياب هذه المُسلَّمة يصير من العبث الحديث عن السَّعادة. فما هي المُسلَّمة التي ينطلق منها المُفكِّر “مالك بن نبي” في حديثه عن “أزمة الحضارة الإسلاميَّة” إذا كان العالم العربي والإسلامي مُفكَّكًا وليس هناك ما يُجيز الحديث عنه في إطار وحدة أو كتلة حضاريَّة حتى وإن كانت غارقة في الأزمات؟

مُفكِّرنا ليس مؤرِّخًا يعيد إنتاج الماضي، وليس عالم اجتماعٍ أو سياسةٍ يدرسُ ويُحلِّلُ أسباب السقوط.. “مالك بن نبي” مُفكِّرٌ مُستقبليٌّ بنَّاءٌ يجتمع فيه المؤرِّخ والاجتماعي والنَّفساني.. ويستعمل أدواتَهم في دراساته، فهو لا يرى “سقوط” الحضارة الإسلاميَّة، بل يرى “أزمة الحضارة الإسلاميَّة”، بمعنى أنَّ هذه الحضارة موجودةٌ وتعاني من أزمة أو أزمات يجب علاجُها.. وواقع الحال في زمن “مالك بن نبي” قبل رحيله منذ خمسين سنةٍ، أو في راهننا العربي والإسلاميِّ، فإنَّ لكل وطنٍ عربيٍّ وإسلاميٍّ وجهته السياسية والاقتصادية، وليس هناك ما يجمع هذه الأوطان من روابط قويَّة تُجيز لنا أن نتحدَّث عن “الحضارة الإسلاميَّة” قبل أن نتحدَّث عن أزماتها!

فهل الحديث هو عن بعث حضارةٍ “ماتت” أم هو حديثٌ عن حضارةٍ موجودةٍ ولو من خلال مُقوِّماتها؟ الجواب يستدعي أن نواصل إلى الأخير مع المحاضرة التي ألقاها “مالك بن نبي” في المُلتقى الرَّابع للتَّعرُّف على الفكر الإسلامي الذي احتضنته مدينة “قسنطينة” في شهر أوت 1970، وقال فيها: “أتناول دائمًا القضيةَ أو القضايا المُعايشة في العالم الإسلامي، القضايا بجوانبها النفسية والاجتماعية التي يمكن جمعُها في كلمةٍ مُوحَّدة أو عنوان مُوحَّدٍ: أزمة الحضارة الإسلامية”.

موتُ السِّيادة الإسلامية في الهند

جاءت نكبة 1857 في الهند التي حوَّلَت احتلالاً اقتصاديًّا إلى احتلالٍ سياسيٍّ أولاً، وغيَّرَت الدُّستورَ الضمني، لأنَّه لا وجود لدستور في الهند ولكن ضِمنًا. كان يوجد دستورٌ يجعل السّلطة والسّيادة في الهند يُمثِّلها العنصرُ الإسلامي، والتبعِيَّةُ يمثِّلها الهندوك، فلمَّا جاءت ثورةُ “سيبويز” سنة 1857 انقلب الوضعُ رأسًا على عقبٍ، تحوَّلَت شركة الهند إلى احتلال الهند وتَصِيير الهند إلى قطعة، أو جوهرة كما يقولون، جوهرة في تاج الإمبراطورية الإنكليزية تأسَّسَت في ذلك العهد، تأسَّسَت على إثر هذه الأحداث الإمبراطورية الإنكليزية، يعني تأسسَت على موتِ السِّيادة الإسلامية في شبه القارة الهندية.

تشويه رُوّاد الفكر الإسلامي

وانقلب الوضعُ الاجتماعي والسياسي، فصار السيِّدُ مَسودًا، وصار المَسودُ سيِّدًا، ونتجَت عن هذه الاضطرابات، وعن هذه النكبة، تيَّارٌ فكريٌّ معيَّنٌ، يمثّله “أحمد خان”، فقام أمام هذا التيار، وأمام هذا الانقلاب الضِّمني الذي وقع في الهند بالنسبة للمسلمين وللإسلام، وبالنسبة للحضارة الإسلامية التي هي موضوع حديثنا، وقعَ ردُّ فعلٍ عنيفٍ من طرَفِ شابٍّ، تفضَّل قَبلي بالكلام عنه أخي الدكتور “عثمان أمين” – مُفكِّر مصري (1905 – 1987) وأحد رُوَّاد المدرسة الفلسفية الحديثة – وهو “جمال الدين الأفغاني”، دون أن يحدّد منشأه ومولده، لأنَّ هذه الأيام ـ أعني هذه السنوات – بدأت ظاهرةٌ غريبة جديدة، وهي حملةٌ جديدة على رُوَّاد الفكر الإسلامي، من طرفِ أناسٍ طيِّبين أحيانًا، وأخطرُ شيءٍ علينا في الصراع الفكري، هو أن تُستخدَم طيبةٌ إسلامية أو طيبةُ بعض المسلمين في الصِّراع الفكري ضِدَّنا، ضِدَّ المعركة الإسلامية.. وتتلمذ عليه الإمام “عبده”.

الطَّلبة المسلمين في الأحياء اللاّتينيّة الأوروبيّة

وفي الحقيقة كان من واجبي أن أذكُر مع “الجبرتي”، وفي الموجة الفكرية التي اخترنا منها مُمثِّلا “الجبرتي”، أذكُر معه مثلا “رفاعة الطهطاوي” أيضا، وهو من الموجة الفكرية الأولى التي اصطدمت بالحضارة الغربية دون أن تستنتج من ذلك الاصطدام مَنهجا يكون سبيلا للمسلمين وللأمة الإسلامية للخروج من أزمتها، وإنّما “الجبرتي” ما فعل إلاَّ أن ذكَر الأشياء، أمّا “الطهطاوي” فعل أكثر من هذا، “الطهطاوي” و”خير الدين باشا” في تونس، وكانا تعارفَا بباريس، في أول القرن التاسع عشر، فماذا قال باختصار “رفاعة الطهطاوي” في كتابه “تخليص الإبريز في تلخيص باريز (باريس)”؟ لخَّص “باريز” هذا هو الموضوع! لخَّص “باريز” من جوانب مُمكِنٌ إذا لطَّفنا الحُكم نقول: اجتماعية، أنا عبَّرتُ عن هذه الجوانب في كتاب “وجهة العالم الإسلامي”، فقلتُ: إنَّ الطلبة المسلمين عندما يذهبون إلى الأحياء اللاَّتينية مهما تكن في “باريز” أو في “برلين”، أو في “لندرة” (لندن)، لمَّا يذهبون ليتتلمذوا عن الحضارة الغربية، عن أساتذة غربيين غالبا يتَّجهون في اتجاهين: فأمَّا أهل الفضل – والحمد لله ـ عندنا نصيبٌ من أهل الفضل في هذه النُّخُبات (النُّخَب) التي منهم رفاع الطهطاوي، فهذه النخبات فيها جانبٌ سليم يذهب إلى الحي اللاتيني يعيش فيه طيلة دراسته، ليرجع لنا بما اكتسب من علم ومعلومات، والآخر – بكل أسف – تجب الإشارة إليه، الجانب الآخر يذهب مثلاً إلى “بلاس بلانش بلاس دو غال”.. فإنَّني أشرتُ إلى هذا ولا أعود إلى هذا هنا، والتَّطويل والحشوُ لا لزوم لهما.

المغلوب مُولَع أبدا بالاقتداء بالغالب

فـ “الطهطاوي” كان رجلا فاضلا، ذهَبَ إلى الجانب السَّليم في الحي “اللاَّتيني”، ولكن رأى الحضارة الغربية، مُمكِنٌ أن نقول في لونها الكُتُبي (من خلال الكُتب). و”خير الدين باشا” أيضا تقريبًا في كتابه “مسالك التَّعريف بالممالك”، يعني تناول، وإنَّما على خِلاف “الطهطاوي” الجوهري الذي تناول الجانب الاجتماعي.. تناول هذا الجانب السياسي فرأى الحريات، وأنَّ الدستور الفرنسي، وأنَّ الثورة الفرنسية، والقِيَم الديموقراطية التي أتَت بها الثورة الفرنسية.. فكل هذا ربَّما يُنقَل لنا، وبدأ تيَّار النَّقل والتقليد يسري فعلاً في العالم الإسلامي، على القاعدة التي أبرزها “ابن خلدون”، في أنَّ المَغلوب مُولعٌ أبدًا بالاقتداء.. أي يقلِّد الغالبَ، ففعلَت فِعلها عندنا هذه القاعدةُ، أعني في المجتمع الإسلامي منذ عصر “محمد علي باشا”.

استيراد الأشياء والأفكار والمَعارف

غير أنَّنا نلاحظ أن كُتُب: الجبرتي، الطهطاوي، خير الدين باشا، لا نجد فيها – إذا حلَّلناها – النَّزعةَ الثورية، يعني الوازعُ التَّغييري إلاَّ بصيغة استيراد للأشياء، أو للأفكار، أو للمعارف، استيرادها من الخارج، دون نزعةٍ ثورية ترمي إلى تغييرٍ في نطاق المجتمع الإسلامي، وإذا بهذه النَّزعة الثورية التغييرية تأتي في الموجة الفكرية الثانية، التي تظهر مع “جمال الدين الأفغاني”، وفى شخص “جمال الدين الأفغاني”، لأنَّه هو الرجل الثائر، ولو كان لقَصَّاص مسلم أن يقوم بتأليف قصة سياسيةٍ فذَّةٍ، واختار كبطلٍ “جمال الدين الأفغاني”، لوجَدَ الرجل الذي تتمثَّلُ فيه القِيَم الثورية، ولكن القيم الثورية من دون أبعاد أخرى، من دون أبعادها الاجتماعية والثقافية، والتاريخية، والتغييرية حقيقة. أي لو نُحلِّل هذه النزعة الثورية، التي تتمثَّل في شخص “جمال الدين الأفغاني”، نرى لها تقريبًا بُعدًا واحدًا، البعدُ السياسي، يريد “جمال الدين الأفغاني”، وينادي “جمال الدين الأفغاني” بتغيير التنظيمات السياسية والأوضاع الإسلامية، لتحقيق ما يُسمِّيه الجامعة الإسلامية.

سُلطة خفِيّةٌ في يد الصهيونية

ولكنه رجلٌ عند ما ندرسه، وهذا ما قلتُ في شأنه إن لم أخطئ طبعًا في كتاب “وجهـة العــالم الإسلامي”، أنَّه رجلٌ طمَح إلى هدفٍ شريف جليلٍ بالنسبة إليه، وبالنسبة إلى عصره، أن يفكر أنَّ آلةَ التغيير السياسي لم تكن في يده، ولم تكن في يده فعلاً، كانت في يد غيره “شاه” إیران، والسلطان “عبد الحميد وإسماعيل” باشا في مصر، وغيرهم.. السلطةُ كانت مُوزَّعة في أيد مُختلفةٍ، السلطة التي كان يريد ويستهدف توحيدها في الجامعة الإسلامية، وخِلافةٍ إسلامية طبعًا، كانت مُوزَّعة، موزعة على مَن؟ مُوزَّعة في أيدٍ مُتفرِّقة ومُوحَّدة خفِيَّة، في يدٍ من حديد، يد الاستعمار، والصهيونية.

النَّزعةُ الثورِيَّةُ الجمالِيَّة

إذًا لم تكن في يده، الوسيلة لم تكن في يده، ولا يجوز لي أن أترك الفرصةَ تمُرُّ دون أن أقول أنَّه من هذه الناحية، الثَّوري الذي فكَّر في الغايات أو المقاصد دون أن يفكِّر في الوسائل، ولكن الشيءَ الذي يهمُّني ليس هذا الجواب، يهمُّنا كل الجواب، ولكن يهمُّنا أكثر ما اجتنَى المجتمعُ الإسلامي من أثرِ هذا الزَّعيم الثائر، ومن أقواله، ومن جهاده رحمه الله، ورحمهم الله أجمعين، ومن أعماله أظن فيما أعتقد أنَّ النَّزعةَ التَّقليدية التي نشأت على أساس الإعجاب، على أساس الشعور بالإعجاب الذي نقله لنا الطهطاوي وخير الدين، وإلى حدٍّ ما الجبرتي.. على أساس الشعور بالإعجاب نحو الحضارة الغربية، أتَت النَّزعةُ الثورِيَّةُ الجمالِيَّة.. تؤكِّد بطريقة ما، لأنَّ اللغةَ التي استعملها جمال الدين الأفغاني للتغيير أن نستورد السِّلاح – مثلاً – من مصانع الأعداء والخُصوم كي نقلب عليهم الوضعَ، وهذه خُرافة المَسجون الذي يطلب من ساجِنه أن يسلم له مفاتيحَ السِّجن..

الشّيئيّة والتّكديس..

نلخِّص هذا التيَّار بطريقةٍ منهجِيَّةٍ حتى لا نتورَّط، وحتى نختصر في الكلام ولا نتورَّط في التفاصيل، لأنَّه ليس لدينا من الوقت ما يكفي للتفاصيل، فنشأ عن هذا في العالم الإسلامي أمران سمَّيتُهما في “وجهة العالم الإسلامي”: الشَّيئِيَّة، والتَّكديس، يعنى نقرِّرُ ضِمنًا، أو علنًا، أو صراحة، تحضرُ أمامنا مشكلةٌ، أو تواجهنا مشكلة.. نقرِّرُ أنَّنا سنحلُّها بأخذ الوسائل من عالم الأشياء، مثلاً كما كان يرى السيد “جمال الدين الأفغاني”، لو كان عندنا ما يكفي من رشاشات وما يكفي من بنادق، في نظره يكفي هذا حتى أنَّه بالغ في الشيئِيَّة إلى حدٍّ أنَّه قال يومًا أثناء إقامته بالهند للجماهير الهندية والإسلامية طبعًا: “لو كل هندي – أكرمكم الله – بصَق في البحر لأغرقتم جزُر بريطانيا”.

الأمّةُ الإسلامية تدفع ثمن الضُّعف

إذًا، أصبحت الأشياءُ بسيطةً، ولا أريد أن أقارن هذه الكلمة، وأنا أقدَرُ فوق ما يمكن أن أعبُرَ هذا الرجل، نحن ندرس كي مستفيد. أمَّا شعوري نحوه فهو شعورُ من يُدين إلى غيره بالفضل، كمسلمٍ وكانسانٍ، ولكن يجب علينا أن نرى جوانب الضُّعف، لأنَّنا نحن الذين ندفع ثمنَه، الأمَّة الإسلامية تدفع ثمنَ هذا الضعف، ضُعفُ التَّكديس، ضعفُ الشيئِيَّة، ندفع ثمنَه مرَّتَين، لا مرَّة واحدة، ندفع ثمنه لأنَّنا طبعًا نقتني الأشياءَ، ولمَّا أقول أشياءَ أضمِّنُها أيضًا بعض الأفكار التي نستوردها مثل أفكار “لينين”، أو بالأخص “ماركس” العظيم، و”كوهين بنديت” طبعًا لا ننساه.. نحن الذين ندفع ثمنها مرةً، هذه ندفعها من جيوبنا بالبساطة، أيام الابتلاء والبلاء، الأيام التي يريدها الله لعباده حتى يتبيَّن السليمُ من السَّقيم كما حدَث ولا أذكُر الحوادث الكثيرة، والنكبات الكثيرة التي نتجَت عن تكريم الأشياء التي جمدَت في مكانها يوم البلاء، جمَدَت وبقَت في مكانها يوم الكارثة.

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا