تكتسي هذه المحاضرة أهميّة بالغة لأنّ المفكّر الجزائري “مالك بن نبي” صوّب فيها بعض “الأخطاء الشائعة” حول فكره وشخصه. فقد انتشرت كتب “ابن نبي” تحت مسمّى سلسلة “مشكلات الحضارة”، بينما هو يرى أنّ العنوان الأصحّ هو “أزمة الحضارة الإسلامية”.
وهذه المحاضرة، التي نُقدّمها اليوم إلى القارئ، ألقاها “ابن نبي” في الملتقى الرّابع للتَّعرُّف على الفكر الإسلامي الذي احتضنته مدينة “قسنطينة” في شهر أوت 1970، وكانت بعنوان “مُشكلة الحضارة”، فقال مُصوِّبًا في بداية حديثه: “نقفُ أوَّلاً عند تكميلٍ أو تصحيحٍ أراه لازمًا بالنسبة إلى عنوان الحديث المُعلن عليه في برنامج هذا الملتقى: مشكلة الحضارة”، وأضاف قائلاً: “وإنَّما أتناول دائمًا القضيةَ أو القضايا المُعايشة في العالم الإسلامي، القضايا بجوانبها النفسية والاجتماعية التي يمكن جمعُها في كلمةٍ مُوحَّدة أو عنوان مُوحَّدٍ: أزمة الحضارة الإسلامية”.
ومُحاضرةُ “مالك بن نبي” كانت باللُّغَة العربيَّة، ذلك أنَّ المُشرِف على ملتقى الفكر الإسلامي في عام 1970، كان الشيخ “العربي سعدوني (1923 – 1992) قد طلَب من مُفكِّرنا أن يختار لغةَ حديثه: باللغة العربية أو الفرنسيَّة، فترَك مُفكِّرُنا الاختيارَ إلى جمهور الحاضرين الذين كان يغلبُ عليهم طلبةُ الجامعة والثانويات، فاختاروا أن يتحدَّث “ابن نبي” باللغة العربيَّة. بمعنى أنَّ التَّصويب أو ما عبَّر عنه “ابن بني” حرفِيًّا بالقول: “تكميلٍ أو تصحيحٍ أراه لازمًا بالنسبة إلى عنوان الحديث المُعلن عليه في برنامج هذا الملتقى: مشكلة الحضارة”، كان باللغةٍ العربيَّةٍ ولم يكُن مُترجمًا من الفرنسيَّة مثل كثيرٍ من كُتبه، بمعنى أن “ابن نبي” كان يعي ويعني تمامًا التَّصويبَ الذي أعلنَ عنه، ولا مجالَ للتَّأويل فيه لأنَّه كان باللغة العربيَّة.
واستنادًا إلى ما سبَق ذِكرُه، فإنَّ التَّسميَّة التي صارت مُرادفةً لـ “مالك بن نبي” بأنَّه “فيلسوف الحضارة” يجب تصويبها أيضًا، فهو ليس مُنظِّرًا بل مُفكِّرٌ عمليٌّ يسعى إلى معالجة الأزمات لإنتاج الحلول، قال: “وراء كل محاولةٍ تعالِجُ أزمةً حضارِيَّة، محاولةٌ للخروج بحلٍّ إذا أمكنَ الأمرُ لهذه الأزمة”. وقال أيضًا، في تعليقه حول إطلاق “مشكلة الحضارة” حول مُحاضرته، “فلا أريد أن أتركَ السَّبيلَ ليتسرَّب أو ليذهب إلى أذهان بعض إخواننا الطَّلبة، أنَّني أتناولُ هنا قضِيَّة نظريةً، لأنَّ العنوانَ قد يُعلِن بهذا”. وإذًا، فالمُفكِّر “مالك بن نبي” يعلِنُ عن نفسه صاحب فكرٍ عمليٍّ قابلٍ للتَّطبيق، وصاحب مشروعٍ نهضويٍّ بالإنسان وبالحضارة الإسلاميَّة، و”يرفض” تصنيفَه في دائرة التَّنظير التي تجعلُ منه فيلسوفًا..
ولا نعتقدُ أنَّ هذا “الرَّفضَ” – الضِّمنِيَّ طبعًا – يتعلَّق بهذه المُحاضرة فحسب، فقد أكَّد “حرصه الدَّائم” على تناول القضايا المعاشيَّة بكل أبعادها النَّفسية والاجتماعيَّة.. ونعتقد بأنَّ هذه العبارة تختزل كلَّ ما أشرنا إليه، حيث يقول: “إنَّني دائمًا حريصٌ على أن أتناول القضايا المعاشِيَّةِ حقيقةً كما أراها وأدركها الآن، والحقيقةُ معناها نسبيٌّ، قد أخطِئ، وإنَّما أتناول دائمًا القضيةَ أو القضايا المُعايشة في العالم الإسلامي، القضايا بجوانبها النفسية والاجتماعية التي يمكن جمعُها في كلمةٍ مُوحَّدة أو عنوان مُوحَّدٍ: أزمة الحضارة الإسلامية”
ونُلفِتُ انتباه القارئَ، مثلاً إلى هذه العبارة: “رأينا في دراسةٍ نُشِرت بالعربية تحت عنوان (وجهة العالم الإسلامي) أن نُعنوِنها بـ (عصر ما بعد المُوحِّدين)”، فمَقولة “نُشِرت بالعربية” تعني أنَّ العنوان مُترجَمٌ بتأويل من المُترجِم سواءٌ بمشاورة الكاتب أو بدونها، وقد يكون “ابن نبي” أرادَ التَّراجع عن بعض عناوين كُتُبه وإعادة صياغتها وتعديلها.. ثم إنَّ تغيير العنوان بعنوانٍ آخر، هل هو يتعلَّق بهذه المُحاضرة فحسب، أم أنَّ التَّغيير يعني بأنَّ كِتاب (وجهة العالم الإسلامي) كان يجب أن يكون عنوانُه (عصر ما بعد المُوحِّدين) …؟ لقد أشرنا إلى العبارة المفتاحية التي ربَّما تتضمَّن الجواب الكافي: “إنَّني دائمًا حريصٌ…”.
هي تساؤلات أطلقتها جريدةُ “الأيام نيوز” في مقال سابقٍ للمفكِّر “مالك بن نبي”، بضرورة إعادة ترجمة أعماله المكتوبة بالفرنسيَّة في سِياق ما زامَنها من أحداثٍ في العالم وفي حياة الكاتب نفسِه. وأيضًا، بضرورة أن تُوضَع منهجيَّةٌ: كيف نقرأ مالك بن نبي؟ وترتيب أعماله التي يُحيلُ فيها كل عملٍ إلى عملٍ آخر يتلوهُ في تتابع الأفكار ومُعالجة القضايا.. قبل أن نترك القارئَ مع مُحاضرة “مالك بن نبي” التي ألقاها في مدينة “قسنطينة” في صيف 1970، نقول ما قاله مُفكِّرنا: “الحقيقةُ معناها نسبيٌّ. قد أخطِئ”.
أزمةُ الحضارة.. لا مُشكلتها
نقفُ أوَّلاً عند تكميلٍ أو تصحيحٍ أراه لازمًا بالنسبة إلى عنوان الحديث المُعلن عنه في برنامج هذا الملتقى: “مشكلة الحضارة”. فلا أريد أن أتركَ السَّبيلَ ليتسرَّب أو ليذهب إلى أذهان بعض إخواننا الطَّلبة، أنَّني أتناولُ هنا قضِيَّةً نظريةً، لأنَّ العنوانَ قد يُعلِن بهذا. فيجب عليَّ إذًا أن أكمِّل أو أصحِّح هذا العنوانَ بشيء، إنَّني دائمًا حريصٌ على أن أتناول القضايا المعاشِيَّةِ حقيقةً كما أراها وأدركها الآن، والحقيقةُ معناها نسبيٌّ، قد أخطِئ، وإنَّما أتناول دائمًا القضيةَ أو القضايا المُعايشة في العالم الإسلامي، القضايا بجوانبها النفسية والاجتماعية التي يمكن جمعُها في كلمةٍ مُوحَّدة أو عنوان مُوحَّدٍ “أزمة الحضارة الإسلامية”. هذا موضوع حديثي، وطبعًا وراء كل محاولةٍ تعالِجُ أزمةً حضارِيَّة، محاولةٌ للخروج بحلٍّ إذا أمكنَ الأمرُ لهذه الأزمة.
مُحاضرةٌ باللغة العربيَّة
وقد تفضَّل عليَّ سيادة الوزير (العربي سعدوني)، هذه نقطة ثانية أيضًا يجب أن نقف عندها قبل الاستمرار في الحديث، تفضلَّ عليَّ سيادتَه وسألني: هل أتكلَّمُ باللغة الفرنسية أو اللغة العربية، حرصًا منه على أن يستفيد ربَّما بعضُ الطَّلبة المَحرومين من لغتهم، لغة دينهم، ولغة بلادهم ووطنهم، وأمَّهاتهم، ففضَّلتُ – وتركني حُرًّا جزاه الله خيرا – اختبارَ إحدى اللغتَين، فأنا بدوري أتركُ لكم هذا الاختيار نزولاً عند مصلحتكم، وتلبيةً لما يمكن أن نُلبِّيه من الضَّرورة المُلحَّة عند بعضكم الذين يجهلون اللغةَ العربية، فإذًا نترك لإخواننا الحاضرين من الطلبة الاختيار: هل استمرُّ في الحديث باللغة العربية، أم أتناول اللغةَ الأجنبية؟ وأرى أنَّ سيادة الوزير يشارككم في رأيكم، فهتَف على اختياركم. وأنا بدوري أهتفُ لاختياركم، شكركم اللهُ.
أزمةٌ حضارِيَّة في فرنسا..
أشرنا بكلمة وجيزةٍ إلى موضوع الحديث، من زاوية خاصَّةٍ وهي “الأزمة الحضارية”، التي تسيطر على العالم الإسلامي، أو في المجتمع الإسلامي منذ أمدٍ، نحاول أن نحدِّد نقطةَ انطلاقه في الزمن، ولسنا بعِيدي الذِّكرى بأحداث طرأت بفرنسا، في شهر ماي 1968، فعلَّق عليها كل مُعلِّقٍ حسب هواه أو هوايته، حسب نَزعاته السياسية، حسب تطرُّفه أو اعتداله.. لا يهمُّنا هذا، وإنَّما علَّق رجلٌ يهمُّنا نظره في القضايا العامة وهو “مالرو”، لأنَّنا نعرف ما له من نظرةٍ ثاقبةٍ في مثل هذه الأمور، فعلَّق على تلك الأحداث بأنها أزمةٌ حضارية.. وهو يعلم مَدلول المصطلحات، وهو الرَّجلُ الذي يُقدِّر المُفردَةَ بالميليغرام، نعرف ماذا أراد أن يقول للضمير الفرنسي من وراء هذا التَّصريح. كأنه يقول للضمير الفرنسي: إنَّ هذه أزمة خطيرة جدًا، لأنَّها لا تؤول فقط إلى إسقاط حكومةٍ وتغييرها بحكومة أخرى، بل ربَّما تُؤدِّي إلى سقوط حضارة أو إلى انهيار مُجتمع بأكمله. هذا هو المعنى الذي نجده في تصريحه، وكأنَّه أراد بذلك أن يدقَّ جرَس الخطر في الوعي الفرنسي في بلاده، في الضمير الفرنسي كما يقولون، حتى يشعر كلُّ مُواطنٍ بأنَّ الظروفَ ليست الظروفُ التي عاشتها فرنسا في سنة 1934 مثلاً، مع أنها كانت شبه ثورة، ولكن الثورة أسقطَت حكومةً فقط، حكومة “كاميي شوتون” (رئيس مجلس الوزراء الفرنسي عدة مرات خلال الجمهورية الفرنسية الثالثة)، بينما هذه المرَّة يراها “مالرو”، وربَّما يراها غيره، أنَّها أخطرُ من ذلك بكثير، فهي أزمةٌ حضاريةٌ لا أزمة سياسية.
مُلاحظات..
أحداث ماي 1968 في فرنسا، التي أشار إليها “مالك بن نبي”، هي “الاضطرابات المدنِيَّة في جميع أنحاء فرنسا.. استمرَّت نحو سبعة أسابيع، وتخلَّلتها المظاهراتُ والإضرابات العامة واعتصامات الجامعات والمصانع. توقفت حركة الاقتصاد الفرنسي في ذروة الأحداث التي أصبحت معروفةً بأحداث مايو 68. وصلَت الاحتجاجات إلى الدرجة التي أثارَت خوفَ القادة السياسيين من حرب أهلية أو ثورة؛ وتوقفت الحكومةُ الوطنية لفترة قصيرة عن العمل بعد أن فرَّ الرئيس شارل ديغول سرًّا من فرنسا إلى ألمانيا”. (نقلاً عن موقع: غوغل للثقافة والفنون).
أمَّا “مالرو” الذي أشار إليه “مالك بن نبي” فهو “الفيلسوف والرِّوائي والناقد الأدبي والسياسي الفرنسي “أندريه مالرو” (1901 – 1976). “تُؤرِّخ حياتُه – بمعنى من المعاني – لكل أحداث القرن العشرين. صاحبُ رؤية موسوعِيَّةٍ، ويمتلك مَعارِفَ دقيقةٍ في الآثار وتاريخ الفنون والإنتروبوجيا. عُيِّن وزيرًا للثقافة الفرنسية، تجنح أعماله إلى السريالية والسخرية والغرائبية، منها: “أقمار على الورق”، “الأمل”، “قيود يجب أن تتكسر”، “اللاواقعية”، “عابر سبيل”، “الإنسان المزعزع والأدب” و”لا مذكرات”. (نقلاً عن موقع: غوغل للثقافة والفنون).
ابن خلدون.. “لسان الكون يُنادي”
ومنذُ قرونٍ، أرادَ عملاقٌ من عمالقة الفكر الإسلامي أن يُطلِق في الضمير الإسلامي والوعي الإسلامي صرخةَ الخطرِ، أن يطلق أبواقَ النَّذير والنَّفير، وهو “ابن خلدون”، لِمَا كان يشاهد حوله مِن اضطراباتٍ سياسِيَّةٍ، طبعًا عاشها هو نفسُه كرجلِ ديوانٍ في مَملكاتٍ مختلفة تحت سلاطين مختلفين، “أبو فراس” وغيرهم. ورأى بوجهٍ خاصٍ التَّدهورَ الاجتماعيَّ، والأشياء التي تنذر بأنَّ الخطرَ ليس بخطرٍ يُهدِّد الكيانَ السياسيَّ، ولكن يهدِّد الكيانَ الاجتماعيَّ، الكيانَ الحضاريَّ نفسَه، فبَعدَ أن رسَم بريشةٍ بارعةٍ لوحةً زيتِيَّةَ، يصوِّر لنا فيها بألوان قاتمةٍ مُحزِنةٍ، صورةَ المجتمع الذي كان يُعايشه، بعد ذلك يقول: “وكأنِّي – وكان يكتبُ هذا في قلعة بني سلاَّم، ليس ببعيد من قسنطينة – بالمشرق قد نزَل به مثل ما نزَل بالمغرب، ولكن على نسبةِ ومقدارِ عمرانه، وكأنَّما لسانُ الكون ينادي في العالم بالانقباض والتقلُّص، شيءٌ كذا، فأجاب”. هذه الكلمات أخطر بكثيرٍ مِمَّا قاله “مالرو”، وأوضحَ بكثيرٍ مِمَّا أفصحَ به “مالرو”، وتُعبِّر عن شعورٍ أدقَّ، وتصوُّرٍ أوضَحَ للظُّروف التي كان يمرُّ بها المجتمع الإسلامي في وقته، وكأنَّه أراد أن يُسمِع معاصريه صوتَ لسان الكونِ “لسان الكون ينادي” فلم يستمع إليه أحدٌ، وصدقَت رؤياه المتشائمة التي صوَّرها لنا في لوحة زيتِيَّة.
الأمَّةُ الإسلامية تغُطُّ في نومٍ طويلٍ
ومرَّت القرونُ، وغطَّت الأمَّةُ الإسلامية في نومٍ طويل، في تلك العصور التي رأينا في دراسةٍ نُشِرت بالعربية تحت عنوان “وجهة العالم الإسلامي” أن نعنونها بـ “عصر ما بعد المُوحِّدين”، ذلك العصرُ الذي تولَّدَت فيه في هذا العالم الإسلامي تلك الأمراض التي كانت تنادي من بعيد إلى الاستعمار، وإنَّني لآسفُ جدًّا لأنَّني لم أحتفظ بوثيقةٍ كانت لديَّ في دراسة تاريخية، في كتاب خرَج من يدي، فكان ملكُ إسبانيا “فيليب الثاني” أرسل ـ وهذا يعني في نهاية القرن السادس عشر – سفيرًا له بالمغرب، بمراكش، ليراقب الأحوالَ، لينظر في الأشياء، فوافاهُ سفيرُه بما نُسمِّيه اليومَ “تقريرًا”، يقول له هذه الجملة الغريبة، بعد ملاحظته ومُعايشته، ومعاشرته، وممارسته للأشياء التي كان يراها، أو يسمعها لأنَّه سفير، يقول له: “وكأنَّ العنايةَ الإلهِيَّةَ تهيِّءُ الأشياءَ لسيِّدي”، فكأنه يقول بلغة عصرنا: إنَّ الأشياءَ كانت تمهِّدُ السَّبيلَ لمجِيء الاستعمار، وهذا التكهُّنُ ليس بتكهُّنٍ عبقريٍّ أو غريبٍ، ما هو إلاَّ تفسيرٌ واقعيٌّ للأشياء كما كان يراها عقلُ “المُعتمد” – آخر ملوك بني عبَّاد في الأندلس، حكَم إشبيليَّة وغرناطة في عصر ملوك الطَّوائف – مِثل العبقري “ابن خلدون” الذي سبَقه، والذي كتَب سُطوره وأطلق صرختَه قرنًا قبل سقوط “غرناطة”، وخروج المسلمين من الأندلس، وبعد قرنٍ من سقوط عاصمة الخلافة (بغداد) تحت حوافر خيول “هولاكو”، وفى الوقت الذي كان قُدِّرَ له وهو لا يعلم، وهو يكتُب هنا في ضواحي “قسنطينة” مقدمتَه، لم يكن يعلم أنه سيكون تقريبًا سفيرًا لمدينة “دمشق”، سفيرًا يُدلونه من أسوار المدينة كي يذهب مُطالِبًا بالعفو عليهم من الطَّاغية كما يقول هو ” تيمورلنك”.
من “ابن خلدون إلى “الجَبَرتِي”.. فجوةٌ كبيرةٌ من التاريخ
وغطَّ العالم الإسلامي في نومِه قرونًا حتى جاءت كارثةٌ، ورُبَّ كارثةٍ تجُرُّ خيرًا إذا أراد الله، جاءت حملةُ “نابليون” بعد قيام الثورة بفرنسا، جاءت حملةُ “نابليون” إلى مصر، إلى القاهرة، ولم يتغيَّر وضعُ العالم الإسلامي بذلك، وإنَّما طبعًا الغيرةُ الإسلامية، والشَّهامة العربية، والشعور بالمحافظة على الكيان على الوجود، هذه أشياءُ طبيعِيَّةٌ.. هذه الدَّوافعُ كلُّها تحرَّكت طبعًا في وجه الاستعمار كما نقول اليوم، وقام شابٌ مسلمٌ من “حلب” كان يدرس في “الأزهر الشريف”، فقتَل المُحتلَّ الذي خلَّفَه “نابليون” بعد عودته إلى فرنسا، لأنَّ طموح “نابليون” كان أكثر من احتلال “مصر” طبعًا، فقتل الجنرالَ “جان بابتيست كليبر”، ولكن لم ينطلق فقط سيفٌ من أسياف الجهاد الإسلامي في وجه الاستعمار، ولكن انطلق قلمٌ بسيطٌ، يكتب تقريبًا بلغة الشَّعب، وليست له أغراضٌ سياسيةٌ حسب ما أرى، كتَب “الجبرتي” تاريخ هذه الأيام بلغة الشعب، ولكن نحن الذين نتلقَّى هذا الكتاب اليوم، نرى أنَّه أول صدى صدَر من الضمير الإسلامي في صورةٍ فكرِيَّةٍ، في صورة يكتبها القلمُ، بعد “ابن خلدون”. یعني بعد فجوة كبيرة من التاريخ، تحرُّكُ قلمٍ معناه تحرُّكُ فكرٍ، بكل بساطة ومن دون طموح سياسي فيما أعتقد، هو صفاءُ الأيامِ بلغةِ الشَّارع تقريبًا، وبدأ الاستعمار يدخل في مرحلته الاستقرارِيَّة، يستقرُّ، بتوسُّعٍ..
(عبد الرحمن الجبرتي – (1754- 1825م) – أحد كبار المُؤرِّخين في التاريخ العربي والإسلامي، عاصَر الحَملة الفرنسية على مصر، ودَوَّن وقائعها في كتابه الشهير “عجائب الآثار في التراجم والأخبار”، والذي يُعدُّ أحدَ أهمِّ المراجع التاريخية لتلك الفترة) نقلاً عن موقع مؤسَّسة هنداوي.