مع عميد الجغرافيّين الجزائريين الدكتور “عبد القادر حليمي”.. جغرافية مدينة الجزائر عبر التَّاريخ (الجزء الأول)

الدكتور “عبد القادر حليمي” (1932 – 2020) هو عميد الجغرافيّين الجزائريين، وأحد روَّاد المقال العلمي خاصة في تاريخ العلوم عند المسلمين والثَّقافة الجغرافيَّة. أثرى “حليمي” المكتبةَ الجزائرية والمكتبة العربيَّة بعدد من المؤلَّفات منها: جغرافية الجزائر، مدينة الجزائر نشأتها وتطورها قبل 1830، النَّباتات الطبيعيَّة في الجزائر، الفضائل المرويَّة في الأعشاب الطبية، الجغرافية الحضرية وهو ترجمة كتابٍ للعالمة الجغرافية الفرنسية “جاكلين بوجو غارنييه”..

إضافةً إلى بحوثه ودراساته ومحاضراته، نشَر الكثير من المقالات العلميَّة اخترنا منها مقالاً نُشر بمجلة “الأصالة” الجزائريَّة في الأول جانفي 1972، حول أثر التضاريس في تخطيط مدينة الجزائر عبر محطّات تاريخيَّة عديدةٍ.. وإِذ تعيد جريدة “الأيَّام نيوز” نشر هذا المقال، فللتَّأكيد على أهميَّة المقال العلمي وضرورة بعثه في الإعلام الوطني عمومًا والإعلام الثَّقافي على الخصوص. وفيما يلي، نترك القارئ يعيد استكشافَ مدينة الجزائر على ضوء عميد الجغرافيِّين الجزائريين..

مدينةٌ اندثرَت اسمها “إيكوسيم”

إنَّ الموضع الذي بُنيت عليه مدينة الجزائر القديمة.. ينقسم على أساس التَّضاريس إلى منبسط ضيِّق على نحر البحر، وإلى ربوة يزيد ارتفاعها عن المائة متر تشرف على البحر. أمَّا المنبسط فهو الموضوع الأول الذي خطَّط فيه الفينيقيّون الأوَّلون المدينةَ العتيقة أو “إيكوسيم” التي اندثرت وعفَا رسمُها إلى الأبد. وربَّما كانت تمتدُّ “إيكوسيم” الفينيقيَّة حتى الجزر القديمة، ولا ندري عن أنهجها وتخطيطاتها إلاَّ الشيء القليل الذي يزداد غموضًا كلَّما تعمَّقنا في التاريخ.

مدينة الجزائر القديمة.. مثلَّث متساوي الأضلاع

أمَّا الرَّبوة فهي التي بنى فوقها الأتراك، ومن قبلهم العرب، حيّ “القصبة”. وتتألَّف الرَّبوة من تكوينات الشِّيست اللمَّاع (نوع من الصَّخر) كانت تنحدر منها مَسيلات وجداول وشِعاب عديدة نحو شارع “باب عزّون – باب الوادي”.. أو المنبسط، أهمُّها شُعبة تنطلق من قمَة ربوة “القصبة” وتمرُّ بالقرب من نهج “ميدي” لتخرج في “باب عزون”، وبذلك تمثِّل هذه الشُّعبة الحدَّ الطبيعي الغربي والجنوبي للمدينة. ثم شعبة تنطلق من قمَّة “القصبة” أيضًا، لكنها تنحرف إلى الشمال لتمُرَّ بالقرب من نهج “القصبة” لتخرج في “باب الواد”، وبذلك تمثِّل الحدَّ الطبيعي الشمالي للمدينة. والشُّعبتان المذكورتان أعطتا لمدينة الجزائر القديمة شكلَ المثلَّث المتساوي الأضلاع، قاعدته تسير وخطّ الشاطئ، وقمَّته تنطبق على قمَّة “القصبة” أو تنطبق على النقطة التي كانت تنطلق منها الشُّعبتان.

عيون الماء.. قبل نشأة السَّواقي

وكانت مياه الأمطار تتبع في جريانها تلك الشِّعاب، وكذلك المَسيلات. على أنَّ نسبةً من الأمطار كانت تتسرَّب خلال الشُّقوق والفوالق إلى صخور الشيست على الربوة قبل وصولها إلى البحر، فتتحوَّل بذلك إلى مجاري باطنيَّة وإلى عروق مائيَّة باطنيَّة، لا تلبث أن تظهر من جديد في شكل عيون عند مجاري البطون الدُّنيا للشِّعاب، أو عند “ساحة الشهداء” بالخصوص، مثل: عين السلطان قرب الجامع الكبير، عين العطش، عين السباط في منخفض نهج البحر الأحمر، عين الشيخ حسين في منخفض نهج الزرافة، العين الجديدة في منخفض نهج ريقار، عين العلج في نهج حيدرة. وهي عيون قد استفاد منها السُّكان القدماء من أهالي وفينيقيين قبل نشأة السَّواقي.

التَّخطيط الشِّطرنجي في العهد الرُّوماني

وقد مرَّت مدينة الجزائر، قبل الاحتلال الفرنسي، بأنواع مختلفة من التَّخطيطات منها التَّخطيط الشِّطرنجي الذي يرجع إلى العهد الرُّوماني، ويتميَّز بشوارعه وأنهُجه المستقيمة والمتَّبِعة في اتِّجاهاتها لخطوط التَّسوية مثل: شارع الكاردو وشارع الديكيمانوس. ويظهر أنَّ الشَّارع الأول أو الشَّارع الرئيسي “كاردو” كان ينطبق في امتداده من الشمال إلى الجنوب على شارع “باب عزون”. أمَّا الشارع الثاني “ديكيمانوس”، فكان يمتدُّ من الشرق إلى الغرب وينطبق تمامًا على نهج “لامارين” الحالي، وتتَّصل بالشارع الأول والشارع الثاني أنهجٌ مستقيمة في كل الاتِّجاهات تنتهي عند الأسوار.

ولقد سنَّ الرُّومان لهذه الأنهج والشوارع قوانينَ صارمة منها معاقبة الذين يرمون الأوساخ بها، وكلَّفوا موظّفين لإصلاحها وترميمها ومنع السكان من نشر الملابس فوق الشبابيك المقابلة لها.

التَّخطيط الاختباطي.. المِعمار القروي والجبلي في المدينة

والتَّخطيط الثاني هو التَّخطيط الاختباطي (العشوائي) الذي حدث للمدينة فيما بعد العهد الروماني فوق الربوة إلى الأعلى من خطّ كنتور “باب عزون – باب الوادي”، فيه تسلَّقت المباني وتدخَّلَت الانحداراتُ في امتداد الأنهج وتصنيف المنازل، واتَّبعت الأنهجُ في امتدادها بطونَ الشِّعاب مرَّة، والأذرع مرَّة أخرى. ذلك أنَّ هذا التَّخطيط الاختباطي لم يكن خاضعًا لبرنامج معيَّن أو لتسطير مسبقٍ، بل إنَّ العشوائيَّة والحاجات الفرديَّة كانت لها اليد العليا في بناء المنازل ومدِّ الأنهج، دون مراعاةٍ للمستقبل وما يفرضه النموُّ العمراني، لذلك ساد التَّشابه في التَّخطيط لهذه الفترة بين القرى الجبلية في جبال الأطلس وبين حيَّ القصبة في مدينة الجزائر، أي أنَّ التَّخطيط كان قرويًّا برِّيًا أو جبليًّا معقًّدًا أكثر منه مدنيًّا وحضاريًّا منظَّمًا، فالأنهج أتَّبعت في سيرها، للمرحلة الأولى، لما بعد العهد الروماني، خطوط الأرداف أولاً، أي أصبحت تتقاطع وخطوط الكنتور بدلاً من سيرها مع خطوط الكنتور.

مدينة الجزائر في المرحلة الثانية..

وفي المرحلة الثانية أو في العهد التُّركي، عندما اشتدَّ نموُّ السُّكان وعاقت الأسوار اتِّساع وانتشار المباني التي زحزحَت الأنهجَ من الأرداف إلى بطون المَسيلات، وأصبحت أَسرة (لعلَّها مصطلح يعني القنوات أو المجاري التي تأسر الماء وغيره) المَسيلات والشِّعاب تصرفُ مياه الأمطار إلى جانب فضلات المنازل، فهي قنوات طبيعيَّة مزدوجة الصَّرف، ثم خزنةُ قنواتٍ لصرف أوساخ المنازل لتنتهي دائمًا في الشّعبات. ولما زاد عدد سكَّان المدينة، ظهرت مشكلة السَكن، فرُفعت لذلك المنازل حتى في بطون الشِّعاب والمسيلات، وعندئذ اضطرَّ السكَّان على إطالة وتمديد قنوات الأوساخ المخزونة، وإنشاء مجاري باطنيَّة للفضلات تسير والانحدار العام للمنطقة، وتتبع اتّجاهاتُها انحناءات الشِّعاب لتصبَّ في البحر. وكذلك الأنهجُ أخذت تلتوي بالتواء الشِّعاب، وهذا ما يفسِّر لنا كثرة الدُّروب والأنهج الملتوية لمدينة الجزائر في العهد التُّركي، وحيُّ “القصبة” في الوقت الحالي، وكذلك حيُّ “باب الجزيرة” قبل الحرب العالمية الثانية، وهي حربٌ خرَّبت هذا الحيّ ثم أعيد بناؤه من جديد لكن على الطِّراز الحديث من شوارع مستقيمة وواسعة، ولم يبق من حيِّ “باب الجزيرة” القديم في الوقت الحالي إلاَّ خرقة صغيرة محصورة ومنعزلة على الشاطئ.

القصبة.. حيّ الأدراج والسَّلاليم

ويلاحَظ على دروب “القصبة” أنَّ الكثير منها واقعٌ فوق قنوات قديمة لصرف الأوساخ، وأنَّها كانت مرصوفة بالحجارة الجيريَّة الزرقاء حتى مطلع الاحتلال الفرنسي، ثم أعيد ترصيفها بالحجارة وبناء الأدراج بها، فيما بعد 1834، وهي الأدراج التي تكثر في دروب “القصبة” في الوقت الحالي، حتى أنَّه يمكن أن نطلق عليها حيّ الأدراج والسَّلاليم.

مدينة الجزائر.. من الفينيقيِّين إلى العرب

وعلى أساس التَّخطيطات المختلفة التي مرَّت بها مدينة الجزائر من العهد الفينيقي إلى سنة 1830، يمكن تحديد اتِّساعها في العصور المختلفة. ومن المسلَّم به أنَّ المدينة أعيد ترميمها وتجديدها وتوسيعها عدَّة مرَّات. فأعاد العرب بناءها أولاً في الموضع الذي اختاره لها الفينيقيُّون والرُّومان من قبلهم، لأسباب: منها أنَّ الموضع توجد به شوارع وأنهجٌ قديمة لا تحتاج إلى تخطيط جديد، بل يكفي استصلاحها وترميمها لتؤدِّي وظيفتها على أكمل وجه، ثم أنَّ الموضع تتوفر به مواد البناء من حجارة كانت لأسوارٍ ومنازل رومانيَّة، فاستعملها العرب في بناء منازلهم ورفع أسوار المدينة من جديد. ومنها أنَّ الموضع جيِّدٌ للتجارة وقريب من البحر، وهو النقطة الأولى للمواصلات بين البر والبحر، تتوفر به مياه الشرب، والخضر من بساتين وحدائق “القصبة”.

التوسُّع العمراني في العهد الإسلامي الأول

ولقد أدَّى ازدهار تجارة “جزائر بني مزغنة” إلى زيادة عدد سكَّانها، وحينئذ أخذ الشعور يزداد نحو توسيعها، وكانت الأسوار العتيقة المحيطة بها تَحول دون ذلك فاتَّجه السكّان أولاً، نحو أعلى الرَّبوة الواقعة إلى الجنوب الغربي من خط کنتور شارع “باب عزون – باب الوادي”، وأخذت المباني والدِّيار تحلُّ محلَّ الحدائق والبساتين.. ويظهر أنَّ أول موضعٍ اتَّجه نحو العمران في العهد الإسلامي الأول هو الموضع الذي يوجد به جامع “سیدي رمضان”، حيث توجد به “عين السباط”، وتقلُّ به الانحدارات، وهو موضع ملائم تمامًا لامتداد العمران ويساعد عليه.

الأندلسيُّون في القصبة

وفي أواخر القرن الخامس عشر للميلاد، زادت هجرة الأندلسيِّين من إسبانيا نحو “جزائر بني مزغنة”، وبذلك زادت ضرورة التوسُّع العمراني مرَّة أخرى، وزادت حاجة الحضر إلى المساكن، واختار الأندلسيُّون المواضع العالية من “القصبة” التي يظهر منها البحر جيِّدًا. وبذلك اشتدَّ ازدحام المباني فوق الأرداف ومُتون الرَّوابي وبطون المَسيلات، ورُفعت المنازل فوق السُّفوح وفي مواضع الحدائق. ولا شك أنَّ منازل مُتون الرَّوابي ظلَّت تحتلُّ الميزةَ المطلوبة، والقيمة المرتفعة لدى السكَّان، نظرًا لموقعها المشمِس والجميل، إذ من شبابيكها المطلَّة على البحر يمكن الإشراف على مساحة واسعة من البحر والبرِّ ورؤية القادمين من بعيد.

أفواجٌ من المهاجرين في المدينة

بعد سنة 1516، بدأت الجزائر تستقبل أفواجًا من المهاجرين زيادةً عن أفواج الأندلسيِّين، إذ جاءها هذه المرَّة “عرّوج” ومعه عدد من الأتراك وعدد آخر من سكَّان شرق الجزائر الذين آزروه وناصروه في شرق البلاد، ومنهم سكَّان قبيلة “تكسانا” من “جيجل” الذين أوكل إليهم الأتراك تموين الإنكشاريَّة طيلة العهد التركي بالجزائر. أمَّا الأندلسيُّون، فقد بلغ عدد منازلهم سنة 1609 حوالي 300 منزلاً. ونتج عن هذه الهجرات الضغط السكَّاني مرَّة أخرى على المباني الواقعة داخل أسوار المدينة، وهي أسوار كانت ضروريَّة لحماية المدينة من حقد العدو المسيحي الذي هاجت عصبيَّته في هذه الفترة بالذَّات. وحينئذ تعارضت مصلحة الحماية، ومصلحة التوسُّع لمدينة الجزائر التي انتقل عدد سكَّانها من 20 ألف نسمة سنة 1450 إلى 30 ألف نسمة سنة 1518، ثم 60 ألف سنة 1580، ثم 100 ألف سنة 1634، ثم إلى أكثر من مائة ألف نسمة سنة 1755.

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
توقيع اتفاقيات بين "سكيلس سنتر" والمؤسسات الجزائرية لدعم التحول الرقمي أمن الشلف يضع حداً لشبكة دولية لتهريب مهاجرين عبر البحر أمن بشار يفكك شبكة إجرامية ويضبط 22.56 كيلوغرامًا من المخدرات هذا هو رابط المنصة الجديدة لأساتذة التعليم العالي للحصول على شهادة تدريس عبر الخط سفيان شايب: "الجزائر تضع أبناء الجالية ضمن أولوياتها لتنمية الاقتصاد الوطني" القرض الشعبي الجزائري..نمو ملحوظ في الصيرفة الإسلامية نحو إطلاق 12 مشروعًا رقميًا لحماية التراث الثقافي وحدات حرس السواحل تنفذ عملية إجلاء إنساني لـ 03 بحارين من جنسية بريطانية مزيان يدعو إلى تعزيز مهنية الإعلام لمواجهة حملات التضليل ضد الجزائر رداً على الاستفزازات الفرنسية.. حركة النهضة تدعو إلى رفع التجميد عن قانون تعميم استعمال اللغة العربية بداري يُشرف على توقيع 21 اتفاقية توأمة بين جامعات ومراكز بحثية وزارة الصناعة تُوقّع على مذكرة تفاهم مع شركة رائدة في صناعة السيارات لمناقشة ملفات هامة.. وزير الخارجية التركي في زيارة رسمية إلى الجزائر حرب الظل تبلغ ذروتها في روما.. تسريبات ولقاءات خفية تعيد ترتيب أوراق النووي الإيراني الخارجية الفلسطينية تُحذّر من مُخطّط خطير يستهدف الأقصى شنقريحة يُنصّب القائد الجديد للدرك الوطني أيام إعلامية حول الشمول المالي عبر ولايات الوطن إصابة 12 شخصاً في انقلاب حافلة بالجزائر العاصمة جولة جديدة من المحادثات النووية بين طهران وواشنطن صور ودموع زائفة.. منظمة "حمايتك" تُحذّر من ظاهرة تسوّل جديدة