على مدى العقدين الماضيين، كرّست (إسرائيل) الجزء الأكبر من مواردها واهتمامها الاستخباراتي لمواجهة حزب الله اللبناني، الذي يُعتبر – ولا يزال – التهديد الأبرز لوجودها. وهذا التركيز أدى إلى إغفال –ولو نسبيا-قدرات حركة حماس في غزة، فقد اعتمدت (إسرائيل) على استراتيجيات احتواء تجاه حماس، مُعتقدة أن الحركة ستكتفي بالحفاظ على سلطتها في غزة بعيدًا عن المواجهة الفعلية مع العدو، إلا أن هذا التقدير الخاطئ أسهم في تطور حماس وتقليل مستوى التأهب لدى الكيان.
ثمة المزيد من الأسباب التي سمحت لـ(إسرائيل)من تحقيق اختراق استخباراتي في لبنان، إذ تمكنت من تنفيذ اغتيالات ضد قياداته. وقد أثارت الأهداف التي أصابتها (إسرائيل) خلال عدوانها على حزب الله -بما في ذلك تدمير مواقع الأسلحة، وتفخيخ أجهزة الاتصالات اللاسلكية، واغتيال أمينها العام حسن نصر الله- تساؤلات ملحة حول قدرة الكيان الصهيوني على اختراق المقاومة في لبنان وفشله في غزة.
يواجه حزب الله اللبناني تحديا هائلا، بعد استشهاد قائده حسن نصر الله، وهو سد الثغرات في صفوفه والتي سمحت للعدو الصهيوني بتدمير مواقع الأسلحة وتفخيخ أجهزة اتصالاته اللاسلكية واغتيال أمينه العام المخضرم الذي ظل مكان وجوده سرا محفوظا بعناية لسنوات.
وقال تقرير لصحيفة وول ستريت جورنال الأميركية إن فشل (إسرائيل) الاستخباراتي بالتصدي لعملية طوفان الأقصى يعود إلى تركيز القيادة الصهيونية مواردها ووقتها على مدى العقدين الماضيين في التحضير لمواجهة محتملة مع حزب الله اللبناني الذي عدّته تهديدا أكبر، ولكن أجهزة التجسس الصهيونية “أعادت إثبات جدارتها” في الهجمات الأخيرة على الحزب.
ويعود فشل جواسيس (إسرائيل) باستباق هجوم حماس، حسب الكاتب روري جونز، إلى أن (إسرائيل) أخطأت تقدير أهدافها، فقد تبنّى رئيس وزراء سلطة الاحتلال الصهيوني بنيامين نتنياهو في السنوات الأخيرة إستراتيجية لا تتعدى احتواء الحركة، معتقدا أن الحركة تفضل التركيز على الحفاظ على الاستقرار في قطاع غزة.
ووفق كاتب التقرير روري جونز، كانت هناك علامات على أن الحركة تخطط لهجوم واسع، بما في ذلك تدريبات عسكرية تمهيدية لعملية طوفان الأقصى، ولكن أجهزة الاستخبارات الصهيونية قللت من أهمية تلك التدريبات، معتبرة إياها مجرد استعراض للقوة العسكرية، وكان الجيش الصهيوني واثقا بالحماية التي يوفرها جدار الفصل الذي أقامته (إسرائيل) لفصل غزة عن أراضيها.
وبينما تجاهلت (إسرائيل) حماس، صبّت تركيزها على حزب الله منذ حربها معه في 2006، وظهر هذا التوجه نتيجة اعتقاد “الجيش” الصهيوني بأنه لم ينجح في إضعاف الحزب بما يكفي خلال الحرب، وفق الكاتب.
وقال المسؤول السابق في الاستخبارات الصهيونية عوزي شايا إن جمع المعلومات الاستخبارية أصبح أكثر صعوبة بعد انسحاب (إسرائيل) من غزة في عام 2005، وأشار إلى أن توظيف الأشخاص المرتبطين بحزب الله في لبنان أو خارجه أسهل.
ومن ثم عمل الجيش الصهيوني على بناء صورة دقيقة عن الحزب وإضعاف الدعم العسكري والمالي الإيراني له، وتابع من كثب تطور ترسانته وعتاده طوال السنين الماضية، وأفضى ذلك إلى عمليات (إسرائيل) الاستخباراتية والعسكرية المكثفة ضده في الأسابيع الماضية، ومن ذلك اغتيال قادة مهمين من الحزب. وبالإضافة إلى ذلك يمكن ذكر أسباب أخرى أدت إل فشل (إسرائيل) مع حماس وتحقيقها بعض النجاح مع حزب الله:
1. احتفاظ حماس بطابعها كحركة مقاومة بينما أصبح حزب الله يقترب من نموذج دولة تقليدية:
رغم التحديات الكبيرة التي تواجهها، تظل حماس ملتزمة بمسار المقاومة ضد الاحتلال الصهيوني، مما يشكل جزءًا أساسيًا من هويتها كحركة مقاومة. تروج حماس لخطاب يعكس الحقوق الفلسطينية ورفض الاحتلال، وتسعى من خلال نشاطاتها العسكرية والسياسية إلى تعزيز روح المقاومة والانتماء الوطني لدى الشعب الفلسطيني.
تساهم المقاومة المسلحة لحماس في زيادة شعبيتها في غزة، حيث يُنظر إليها باعتبارها قوة تدافع عن حقوق الفلسطينيين وتتصدى للاحتلال. وعلى الرغم من الصراعات الداخلية والضغوط الإقليمية، لا تزال حماس متمسكة بفلسفتها القائمة على المقاومة.
في المقابل، تحول حزب الله نحو نموذج الدولة التقليدية، حيث أصبح يتبنى ممارسات مشابهة لتلك التي تتبعها الدول القومية. تزايد دور حزب الله في السياسة اللبنانية، بما في ذلك مشاركته في الحكومة والبرلمان، يعكس تحوله من حركة مقاومة إلى فاعل سياسي رئيسي. هذا التحول يُظهر استراتيجيات الحزب في بناء مؤسسات قوية وتعزيز سيطرته على السلطة.
2. استقلال غزة الكامل عن سلطة محمود عباس:
يُعتبر استقلال غزة الكامل عن سلطة محمود عباس مؤشراً على أن الحركة ترفض الاندماج في وضع مؤسساتي يجعلها عرضة للاختراق، لهذا أصبحت قادرة على إدارة الأمور بنفسها، أما حزب الله فإنه مندمج على نحو ما مع الدولة اللبنانية التي لها مصالح مع الخارج.
3. غياب الاختلافات الإثنية والمذهبية في غزة:
إن غياب الاختلافات الإثنية والمذهبية في غزة يمثل عاملاً مؤثراً في طبيعة الصراع والتوترات السياسية. فحركة حماس، التي تعتبر الحركة الرئيسية في غزة، تتمتع بتأييد واسع من الفصائل الفلسطينية الأخرى، ما يمنحها استقراراً نسبياً في المنطقة. بالمقارنة مع حزب الله في لبنان، الذي ينشط ضمن شبكة من الاختلافات العرقية والدينية والمذهبية.
4. تركيز الموارد على حزب الله:
على مدار العقدين الماضيين، خصصت (إسرائيل) معظم مواردها واهتمامها الاستخباراتي لمواجهة حزب الله، معتبرة إياه تهديدًا أكبر، مما أدى إلى تهميش الأوضاع في غزة وحركة حماس.
5. تقديرات خاطئة بشأن حماس:
اعتمدت (إسرائيل) على استراتيجيات احتواء حماس، حيث اعتقدت أن الحركة ستركز على الحفاظ على الاستقرار في غزة. هذا التقدير الخاطئ ساهم في تقليل مستوى التأهب لمهاجماتها المحتملة.
6. إغفال علامات التحذير:
كانت هناك إشارات على استعداد حماس لشن هجمات، بما في ذلك تدريبات عسكرية تمهيدية، لكن الاستخبارات الصهيونية تجاهلتها، معتبرة إياها استعراضات قوة وليست مؤشرات فعلية لنية الهجوم.
7. تحولات الأهداف الاستراتيجية:
تغيرت استراتيجية (إسرائيل) عقب حرب 2006، ما جعلها تعتمد بشكل أكبر على الهجمات الوقائية ضد حزب الله، بينما لم يتم تحديث استراتيجيتها تجاه حماس بنفس الدرجة.
8. اختلاف هيكلي:
يختلف تنظيم حماس في هيكله وطبيعته عن حزب الله، حيث تتمتع حماس بمرونة أكبر في أساليبها القتالية وعلاقاتها الإقليمية، مما يزيد من تعقيد مهمة الاستخبارات الصهيونية في رصد تحركاتها.