لم يكن بالسهل على فرنسا التفريط في مصالحها الاقتصادية بالجزائر ولا باللعب على وتر التهجم على الجزائر بتصريحات غير محسوبة للرئيس ماكرون ،فالواضح أن الوافد الجديد القديم لقصر الاليزيه قد استوعب الدرس جيدا بعد فوزه بولاية ثانية واضحى يتودد للرئيس تبون بالتهاني و المكالمات الهاتفية لتهدئة النفوس و تحسين العلاقات المتوترة منذ مدة.
ماكرون الذي استجاب بسرعة لدعوة الرئيس تبون إلى زيارة الجزائر ،عبّر في عيد استقلال الجزائر الستين عن أمله في”تعزيز العلاقات التي وصفها بالقوية أساساً” بين البلدين،
ونقل بيان للرئاسة الفرنسية أنّ إكليلاً من الزهور سيوضع باسم ماكرون على “النُصب التذكاري الوطني لحرب تحرير الجزائر والمعارك في المغرب وتونس” في رصيف برانلي بباريس إحياءً لذكرى الأوروبيين.
وأكد ماكرون حسبما جاء بيان قصر الاليزيه على “التزامه بمواصلة عملية الاعتراف بالحقيقة والمصالحة لذاكرتي الشعبين الجزائري والفرنسي”
ويبدو أن الرئيس الفرنسي أدرك بأنه لم يجنِ شيئا من عدائه المعلن للجزائر فقرر إعادة حساباته وترتيب أولوياته ليجد بأن الجزائر تصنف في المراتب الأولى ضمن أجندة فرنسا الاقتصادية، فالعلاقات السياسية و الدبلوماسية الجزائرية الفرنسية، التي لطالما شهدت مستويات متذبذبة بين التهدئة والتوتر، بسبب طبيعتها المتشابكة خاصة ما تعلق بملفات الذاكرة، والأرشيف الجزائري والتجارب النووية ورفض الجزائر التدخل في شؤونها الداخلية وصلت إلى مستويات متدنية جدا منذ تشرين الأول/أكتوبرالفارط عندما صرّح ماكرون بأنّ الجزائر تأسّست بعد استقلالها على “ريع ذاكرة” يقف خلفه “النظام السياسي العسكري”، ما أثار غضب الجزائر وانجر عنه ما انجر من خسائر لفرنسا وحتى خرجة الرئيس الفرنسي بعدها بيومين فقط بتصريح اعلامي ل”فرانس انتر” يعبر فيه عن أمله في أن يهدأ التوتر الدبلوماسي مع الجزائر وأن يعود الطرفان إلى الحوار لم تُرض الجزائر.
عداء ماكرون واستهدافه الجزائر دفع بالرئيس تبون للرد عليه بقوة ، وأكدّ أنه “لا مساس بتاريخ شعب ولا لشتم الجزائريين”.
وأضاف “ماكرون وقف بذلك في صفّ الذين يبرّرون الاستعمار”، ولفت إلى أن الجزائر وفرنسا لم تعودا “مضطرتيْن للتعاون مع بعضهما”، متهمًا ماكرون بـ”المسّ بكرامة الجزائريين”.
فالخطأ الذي وقع فيه الرئيس ماكرون كلفه نزيفا اقتصاديا حتى أضحى في موضع المتفرج على خروج شركاته النفطية من صحراء الجزائر التي لم تجدد السلطات الجزائرية عقودها وهي التي كانت تحظى بحصة الأسد.
وفي خطوة أخرى تأديبية تفسر غضب الجزائر تم الإعلان عن منع الطائرات العسكرية الفرنسية من عبور الأجواء الجزائرية باتجاه دول الساحل الإفريقي
،وفي يونيو/حزيران الماضي تم الاعلان في مجلس الوزراء الجزائري أن الرئيس عبد المجيد تبون أمر “باعتماد اللغة الإنجليزية بدءا من الطور الابتدائي”.
القرار السيادي الجزائري أثار جدلا كبيرا في الجزائر، واعتبره مراقبون خطوة تهدف إلى الحد من نفوذ اللغة الفرنسية التي تدرّس في المرحلة الابتدائية منذ عشرات السنين
ويرى الأستاذ الجامعي المختص في العلوم الاجتماعية الدكتور بومدين بوزيد أن إدخال الإنجليزية “سيؤدي إلى التحرر من لغة ظلت مهيمنة لستة عقود.. فاللغة الفرنسية من اللغات الحية التي عايشناها بحكم الاستعمار ومع تراث كبار الأدباء والمفكرين الذين كتبوا بها مثل ديكارت وهوغو، وهو تراث لا ينبغي أن يضيع، لكن يجب الخروج من هيمنتها لأنها تحولت من لغة علم إلى جزء من البيروقراطية الإدارية التي يمارسها متحدثوها، وأصبحت الجماعات الفرانكوفونية تريد لها أن تبقى لا كلغة علم، ولكن كأداة تمكنهم من تحقيق مصالحها”
و بعد 60 عامًا من نهاية الاستعمار، لم تندمل الجراح رغم سعي الطرف الفرنسي بسلسلة من المبادرات الرمزية التي لم تصل إلى حدّ تقديم “الاعتذار”، حيث قال رئيس مجلس الأمة الجزائري صالح قوجيل “لا يمكن أن ننسى أو نمحي، بأي إجراء كان، مسؤولية فرنسا الاستعمارية عن الإبادة الإنسانية التي تعرّض لها الشعب الجزائري والإبادة الثقافية وإبادة هويته”.
وفي الظاهر أن الرئيس الفرنسي المنتظر سيعودإلى الجزائر بمهمة تلطيف الأجواء و تحسين مستوى العلاقات المتوترة بعد تسجيل هدوء نسبي في الأشهر الأخيرة بين الجانبين ، فهل ينجح ماكرون في استعادة مصالح بلاده الاقتصادية بالجزائر رغم التاريخ الحافل بجرائم ابادة دامت 132 سنة و التي تبقى عالقة في عقول و قلوب الجزائريين و لا تسقط بالتقادم ؟
.