تدرك السلطات الفرنسية أن ملف الذاكرة المشتركة بين الجزائر وفرنسا يختلف كثيرا عن ملفات الذاكرة بين المستعمرة السابقة وبقية المستعمرات الأخرى، ومع ذلك تصر على تبني نفس المقاربة في معالجة هذه القضية على قدم المساواة مع جيران الجزائر في المغرب العربي.
وبمناسبة مرور ستين عامًا على اتفاقيات إيفيان التي أنهت الحرب في الجزائر بانهزام فرنسا واعترافها بالاستقلال تشهد فرنسا حراكا غير مسبوق تحضيرا لذكرى وقف إطلاق النار الموافق لـ 19 مارس المقبل، فيما يحاول كل معسكر ترويج نسخته من الذاكرة من منطلق رؤيته لوقف الحرب ولمصير المستعمرة السابقة، أو حلم الجزائر الفرنسية التي ضاعت من غلاة ما يعرف اليوم باليمين المتطرف والعصب المؤيدة له والمتحالفة معه.
يومية واست فرانس واستعدادا لهذه الذكرى نشرت أمس ملفا تحت عنوان ” فرنسا والجزائر: فهم التاريخ وتهدئة الذاكرة” استعرض التاريخ المشترك لفرنسا والجزائر وكذا المبادرات الهادفة إلى إرضاء الذكر لذاكرات على جانبي البحر الأبيض المتوسط.
وتضمن هذا الملف حوارا مع المؤرخ بنجامين ستورا المتخصص في تاريخ الجزائر، وهو أيضا صاحب التقرير الذي قدم في يناير 2021 إلى الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، حول مسائل الذاكرة المتعلقة بالاستعمار الفرنسي للجزائر.
هذا الحوار تضمن كلاما نادرا ما يذكره الفرنسيون لما فيه من حقائق تدين الدولة الفرنسية وتكشف بشاعة وجهها الاستعماري في الجزائر، ومما جاء فيه أن: “الجزائر لم تكن بالفعل مستعمرة فرنسية مثل باقي المستعمرات. على عكس المغرب أو تونس أو السنغال أو الهند الصينية، كانت هذه الدول عبارة عن مقاطعات فرنسية، وجزء من التراب الفرنسي”.
ويضيف: “شعرت بأن نهاية الجزائر الفرنسية وكأنها اقتطاع جزء من فرنسا ، وهذا أثر كثيرا على الفرنسيين وفتح المجال أمام بروز أزمة القومية الفرنسية.. كان لدينا وهم العيش في فرنسا الصغيرة المعاد تكوينها ، ولكن مع مشكلة مركزية. المسلمون الفرنسيون ، كانوا لا يتمتعون بنفس الحقوق التي يتمتع بها المواطنون الفرنسيون. عشنا في نوع من المسرح.. من الخيال”.
ويعترف ستورا بأن “الجزائريين عاشوا مع الفرنسيين في نفس المكان ولكن في ظل تمايز اجتماعي صارخ. علاوة على ذلك لم يكن المواطنون الفرنسيون بنفس الحقوق وكان الجزائريون مسلوبي الحرية والحقوق”.
الأكثر من هذا وهو ما لم يقله ستورا، وهو أن سلطات الاحتلال الفرنسي، حاولت إحلال شعب مكان شعب آخر بلغة الحديد والنار، عبر القتل والتشريد وطمس الهوية، ومثل هذه الأفعال هي في توصيف القانون الدولي جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية تستوجب اعتذارا لا مناص منه .وتعويضا عن الأرواح والثروات المنهوبة .
ولأن وضعية الجزائر في الذاكرة الجمعية والسياسية الفرنسية مختلفة عن بقية المستعمرات، فقد بات السياسيون رهينة عصب متنفذة في دواليب الدولة العميقة في فرنسا، بشكل حالت دون التعاطي مع هذا الملف بالكيفية التي يُمليها التاريخ والعقل والمنطق ومعها الاعتبارات المتعلقة بالرغبة في بناء علاقات نِدّية بين دولتين يربطهما تاريخ مشترك حافل بالمآسي والبربرية.
يحاول الفرنسيون وبالضبط الرئيس المنتهية ولايته، اليوم عشية الذكرى الستين لإعلان وقف ‘طلاق النار الوصول إلى وفاق مع الداخل الفرنسي المشحون بالعداوة المتولدة من ضياع حلم الجزائر الفرنسية، والمعادي لكل ما هو جزائري، من جهة، ومن جهة أخرى يبحث عن إرضاء المطالب الجزائرية المبررة، وهي المعادلة التي فشل ماكرون في إيجاد مجاهيلها، وقد يلعب مصيره إذا لم يعرف كيف يفكك هذا الفخ، ولا سيما إذا تمكن الطرف الجزائري من أن يوظف ورقة جاليته التي تعد بالملايين في الانتخابات الرئاسية الفرنسية المرتقبة شهر أفريل المقبل.