“منمنمات الجمر والرماد” للناقد الغزّي “طلعت قديح”.. الكتابة بالنّار من تحت لهيب الحرب في غزّة

لا نخلةً في القلب تبعث على الأمل.. كل شيءٍ حولك في غزّة يدمي روحك.

حتى رايات الاستسلام التي رفعها الأبرياء العُزّل في غزّة لم تسلم من الاستهداف.

هناك مريض يستدعي شفاؤه صورة سيلفي مع أنبوب ماء.

المعنى لا يتّضح إلا عندما ننصهر في الوجع.

لا قيمة للتاريخ الذي يحرق الذكريات والأبرياء.

لا شيء يخفف الآلام ويطبّب الجراح سوى الحب حتى لو كان متخيلًا.

دأب الناقد الفلسطيني الغزيّ “طلعت قديح” على مواصلة الكتابة خلال الحرب الجحيمية المتواصلة على قطاع غزّة، تحت عنوان “منمنمات الجمر والرماد”، يحكي لنا بوجعٍ عميقٍ عن اغتيال الاحتلال ليس لغزة فقط، بل لكل جزءٍ في غزة، حتى حروف غزة اغتيلت! ويقارن الآن بالماضي، وكيف حال الذاكرة الآن؟ وما أخبار ذكريات الماضي؟ ويقصد بالماضي هنا قبل 7 أكتوبر وطوفان الأقصى، ويشرح لنا كيف أن كل شيء يصرخ.. قلوبهم وعقولهم وحتى عظامهم، وبلغةٍ بليغةٍ يصف القذيفة وهي في طريقها إليهم، حيث يقول: “لم يعلم الكثير أن هناك اتفاقًا ضمنيًا من طرفي المغناطيس أن يرهقا برادة الحديد الناعمة المُخاط فمه، عبر تكبيل ألباب تتحلى بطلقة واهمة نحو أمنية على مقاس حلم مستورد يفتعله، كلما جاءت على استحياء قذيفة مخادعة”.

ويكتب: “في كل صحن صدئ يدق الحصى باب الوحل، كأنه يسترق منه تبغ الحداد ورقابة الموتى في سرادق حدادهم، يساقون إلى الأفواه المُتمتمة بذاكرة وطوفان”، حيث يصف بألمٍ كيف أن الشظايا تلتهم الوجه والفم والأذن والصدر والأطراف، وكل شظية تصرخ وتذكّر النفسَ بالطوفان!

المنام لا يعرف الركون للحقيقة

وفي وصف النوم في الحرب يقول: “المنام لا يعرف الركون للحقيقة، هي نَصل فوق خزّان الوقت، لا بدّ لموت بطيء أن يكون شاهد الإثبات لنعشٍ تململ مرارًا في قتل أعمار المنسيّين)، ويقصد هنا أنه لا وقت للنوم، الوقت كله للموت! حتى وإن استرقّوا لحظات للنوم يفكرون بطريقة حتفهم القادمة لا محالة! أو يرون كابوسًا مرعبًا يشعرهم أنهم على مقربةٍ من العالم الآخر! إذ لا معنى للنوم وسط القذائف والصواريخ الماطرة عليهم من السماء، ورائحة الموت المنتشرة في كل مكان على الأرض!

وبكيت حين قرأت: “لا يمكن لأيّ نهرٍ أن يقول للبحر ما طعمك؛ فالأنهار مكائد لا تستطيع المرور على جهاز كشف الكذب، لتقول إنّها بنت البحار!”. شعرت أن أهل غزة ممنوعون أيضًا من معاتبة البحر، وربما الزمن، أو الحكام، أو الشعوب، أهل غزة لا يعتبون على أحد، يعتبون على أنفسهم وينتصرون وحدهم! كما ويعتبر الأستاذ “طلعت”، أنه والبشر هناك، كما الحجر والشجر والبحر والنهر، جميعهم وريثٌ شرعيٌّ للأرض “لذا فالطمأنينة فيه يحملها متكآن موصولان بتجاذب مغناطيسي يكتب معنى أن يكون القبر مآل كل الحروف!” عظيم هذا المعنى!

وعن أهمية الكتابة يتساءل: “هل يمكن أن تخرج كل الحروف كي تكشف ما لم يقله فم من صوت وصورة؟ هل يمكن أن تدق الحروف مرات ومرات كولادة اللون في سماء لم يرش الكون أزرقه على غيمة حبلى!”. وأجيب بخجلٍ كقارئةٍ وشاهدةٍ تفحّم قلبها وقلمها على المشاهد التي تنتحر إلينا من هناك، أن الصورة الدموية والصراخ اللانهائي للوجع، يدوس على كل الحروف! لكن للأسف.. وفي حال السُّبات العربي المُهين، لا نملك نحن المحترقين هنا إلا الحروف كي نرشّ سماء الكون باللون السماوي، بعدما غطّتها الانفجارات والدخان باللون الرمادي!

الرايات الكبيرة لا تصمد كثيرًا

حتى رايات الاستسلام التي رفعها الأبرياء العُزّل في غزّة، لم تسلم من الاستهداف، حيث قال: “الرايات الكبيرة لا تصمد كثيرًا حين تتمزّق أنفاس من أخاطوا نسيجها، هي سنة كونية في التقاط أنفاس عظام من نسجوا”.

ولا يعلم الكاتب لماذا يكتب الآن؟ ربما لأنه يعشق الطيور كما قال، وخاصة الصقور لاقتناص لحظة الحقيقة، وتوثيقها بقساوتها، لعل العالم المتقدّم القارئ يصحو! ويتمرّد على الشبح العبري الذي يسبح في كل ما مكانٍ وعيشٍ آمن، ليعيث به فسادًا! وقد تكون الكتابة في الحرب نوعٌ من الشقاوة، والهروب من كل شيء، أو التلاعب على الوقت كي يمضي، أو الالتهاء عمّا يجري بما نكتبه، لعله يكون حلمًا وينتهي كل شيءٍ كما بدأ، ونستيقظ على الماضي السعيد!

وفي وصفه لحال الماء يقول بما معناه، أن هناك مريضًا يستدعي شفاؤه صورة سيلفي مع أنبوب ماء…! ما أقساه من تعبير!

كل شيءٍ في هذا العالم ينجذب ويعود إلى الأرض بلا شعور، إنها تناقضات كونية بشرية؛ يتمسّكون بالحياة.. وفي الوقت نفسه في انجذابٍ دائمٍ للتراب! يحبّون البحر.. ويحاصرهم كعدوٍ اعتاد التّطبيع، يتوقون لشربة ماء.. ويقتلهم الركض والانتظار نحوها! إنه الانصهار دون أن ندرك المعنى! حيث أن المعنى لا يتضح إلا عندما ننصهر في الوجع!

لا قيمة للتاريخ الذي يحرق الذكريات والأبرياء، فالأبرياء ليسوا خدمًا للتاريخ! ويسأل بقسوة: “هل تكنس حياة ما نمرّ به من لسعات الرصاص الجاثمة على كتاب القدر؟!”.

وهنا كل جوابٍ اشتعالٌ آخر في الروح! وكل حديثٍ غبارٌ تحت العظم! فلا صوت لك في غزة؛ لأن الغبار يغطي الرئتين ويسكن بين الشهيق والزفير!

كل سؤالٍ في الحرب طلقة!

كل سؤالٍ في الحرب طلقة! حيث يعبّر عن ذلك: “النّهارات سريعة الإغماء، خفيفة الارتواء من افتقار اللهاث نحو آخر منحنيات الحنين”، “لا مكان لإذابة شمع اليقظة، وخلف كل شمعة بهتان لانقضاض أمنية الوصول، الرهانات تمسك وشوشة الضد من الضد للمحلق في سماء الفضاء”، “أيكون شيئًا من اللاشيء، أو هو اللاشيء من الشيء؟!)، “الرابحون هم القضاة وموظفو التنظيف وقارعو الجرس وناقلو الأخبار، ومذيعو اللقطات الرتيبة التي لا يتابعها أحد”.

لا نخلةً في القلب تبعث على الأمل، كل شيءٍ حولك في غزّة يُدمي روحك، ويُشعرك أن ما يحصل نهايةٌ للعالم! لا شيء سوى الخواء.. عزلةٌ ووقارٌ ووِحدةٌ وصمتٌ ومتعةٌ مزيفةٌ في الحرب!

ويسأل أخيرًا في الجزء الرابع من (منمنمات الجمر والرماد): “لماذا علينا أن نكون أكثر حدة من صوت المناداة كي نستفيق من تلويحة الماضي؟”، “كيف لي أن أهرب منها وهي ظليلي وظلالي وناثرة السّكر في فم أيّامي، وهي الملح في طهو اللحظات الأكثر التحامًا على صفحة اللّقاء”.  “لماذا عليّ أن أواظب في إشعال شمعةٍ لا نور لي منها؟”، “هل أحب الإيثار، أم أن هناك شمعةٌ لم يأت دورها بعد، أو أنني لا أراها كي يكون لي دورٌ في إشعالها؟”.

وهنا يستفسر من الورق عن قيمة التفاؤل في هذه الظروف المليئة بالرماد! ربما القلم سيجيبه فيما بعد! إن كتب الله له حياةً بعد التحرير ورفع الحصار بالكامل! فلا يجرؤ أيّ قارئ ولا أنا على الإجابة! فالسؤال موجع، والإجابة قاتلةٌ لترف المجيب!

الحب يغسل الروح ويداويها

ويخفف عن نفسه ألم الحرب بالمرأة وبعض الحب.. حيث يقول: “أحب المرأة الكريستالية، المرأة التي تبتسم معها الدنيا؛ إذا ابتسمَت، أحب سماع صوت خلخالها ساعة ارتكاب الوقت فاحشة الغياب، أشدّ بنصل الانتظار ذاكرة لا تسند إلا حين تكون؛ حين يستبد بها سلك مشدود في اتصال الجسد بمرافئ الروح العابثة.. أتذكر أني حين أغطّ في نومي أطيّب المسافات البعيدة، وضحكتها الغائبة عن بياض أحلامي، وأطرد عني الرجولة المصطنعة ذات سراب”.

فلا شيء يخفف الآلام ويطبب الجراح سوى الحب، حتى لو كان مُتخيلًا! الحب يغسل الروح ويداويها من كل المشاهد التي تفوق قدرة العين على تحملها! “هي بنت الخيزران حين ألدغها بما لا يخطر على بال انتظارها، لا نوم إن كنتُ وكانت، إن صرتُ وصارت، إن بتُّ وباتت، حين ذُكرتُ عندها، فهمتُ وهامت!”.

ثم يلتفت الكاتب لعمره قليلًا، ويقول: “خمسون مرَّت من خريف العمر، أفحص مقدار الحزن الذي يلغ نصف قرن من حشو الرماد في روح ذابلة، خمسون ولم يتفتح الورد بكامله إلا أيامًا معدودات، خمسون وأحسني أدور وأدور”، وبهذه العبارة نشعر بحجم المتاهة التي يعيشها الكاتب، وشعوره هذا ليس فرديًا إنما جمعيًّا، يشعر به كل فردٍ من أفراد غزّة، هذه المتاهة التائهة بين الجبر والصبر، بين الخبر والنصر..

هذه المتاهة..

لا نعلم نهايتها

لكنها تعلم نهايتنا!

كل شيءٍ في هذا العالم ينجذب ويعود إلى لأرض بلا شعور، إنها تناقضات كونية بشرية؛ يتمسكون بالحياة.. وفي الوقت نفسه في انجذابٍ دائمٍ للتراب! يحبّون البحر.. ويحاصرهم كعدوٍ اعتاد التطبيع، يتوقون لشربة ماء.. ويقتلهم الركض والانتظار نحوها!

قمر عبد الرحمن - أديبة فلسطينية

قمر عبد الرحمن - أديبة فلسطينية

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
انطلاق أشغال اجتماع وزراء الداخلية لمجموعة الـ7 بمشاركة الجزائر دراسات طبية تحذر.. لماذا لا ينصح بتكرار غلي الماء؟ حج 2025.. انطلاق التسجيلات عبر الموقع الالكتروني والبلديات رسميا.. عون يطلق الصيغة الجديدة لـ “فيات دوبلو” بمصنع وهران إنهاء مهام رئيس المجلس الإسلامي الأعلى الجائزة الكبرى شانطال بييا 2024.. الجزائري إسلام منصوري يفوز بالمرحلة الثالثة المبعوث الأممي دي ميستورا يصل إلى مخيمات اللاجئين الصحراويين غلق مؤقت للطريق السريع شرق اتجاه الجزائر الدار البيضاء منح تراخيص لـ 67 ألف مستثمرة فلاحية منذ 2020 إدراج 3 أسماء لأوّل مرة.. بيتكوفيتش يكشف عن قائمة اللاعبين المعنيين بمواجهتي الطوغو لبنان.. الطيران الصهيوني يشن 17 غارة على الضاحية الجنوبية لبيروت النفط يواصل حصد المكاسب للجلسة الثالثة على التوالي أمطار رعدية غزيرة على 21 ولاية في اليوم الـ363 من العدوان.. شهداء وجرحى في قصف الاحتلال على عدة مناطق في قطاع غزة للتستّر على خسائرها.. "إسرائيل" تمارس خدعة "إخفاء الجثث بالجثث" نائب الرئيس في مواجهة البرلمان.. الأزمة السياسية في كينيا تقترب من الانفجار عمار بن جامع يسأل: لماذا يخشى المغرب الاستفتاء على تقرير مصير الشعب الصحراوي؟ أحد أبرز المرشّحين لقيادة حزب الله.. من هو نعيم قاسم الذي بشّر اللبنانيين بالنصر؟ رسميا.. تنصيب اللجنة الوطنية لمراجعة قانوني البلدية والولاية وسط مخاوف من اتساع رقعة الصراع.. إيران تعلن انتهاء هجماتها الصاروخية ضد الصهاينة