من أحاديث “سيغريد هونكه” في الجزائر.. صفحات من تاريخ المرأة العربية (الجزء الأول)

“سيغريد هونكه” مُستشرقةٌ ألمانيَّةٌ وباحثةٌ في تاريخ الأديان المُقارن والحضارات، اشتهرَت بكِتابها “شمس العرب تسطع على الغرب”، كما اشتهرَت بأنَّها “صديقة العرب”. وهي لن تُضيف شيئًا جديدًا عندما تتحدَّثُ عن المرأة العربية في أيّ عصرٍ من عُصورها، غير أنَّ حديثها يكشف الاهتمامَ البالغ للاستشراق بالإسلام وبالتَّاريخ العربي في كلِّ مجالاته، كما يكشف المَدى الذي بلغَته “سيغريد هونكه” في فَهمِ أصدقائها العرب انطلاقًا من لغتهم وتاريخهم وثقافتهم ودينهم.

في هذه المُحاضرة، التي ألقَتها “سيغريد هونكه” في الملتقى الحادي عشر للفكر الإسلامي بمدينة “ورقلة” في الجنوب الجزائري، ونشرَتها مجلة “الأصالة” الجزائريَّة في شهر جوان 1977.. في هذه المُحاضرة، تستعرضُ المُستشرقةُ الألمانيَّةُ جانبًا من تاريخ المرأة العربية، وفي الوقت نفسه تُلقي بعض الضَّوء على المرأة الأوروبيَّة في مُجتمعات اقتدَت “بالنموذج الإسرائيلي المسيحي عن المرأة حوَّاء الخاطئة”. وهي ترى بأنَّ “هناك نقطة مشتركة بين نساء العالم الإسلامي وبيننا نحن الأوروبيات اللاَّتي عانينا لمدَّة ألف عام من النموذج الأجنبي الَمفروض من العهد القديم الإسرائيلي”..

مُحاضرةُ “سيغريد هونكه” في الجزائر، تُمثِّل مادَّةً فكريَّة نادرةً لهذه المُستشرقة الألمانيَّة التي “أنصفَت” العرب والمُسلمين إلى حدٍّ كبيرٍ. وتُعيد جريدة “الأيام نيوز” نشر نصِّ تلك المُحاضرة كاملةً. وفيما يلي، نترك القارئَ مع حديث “هونكه” عن المرأة العربيَّة..

تفسير طبيعة العلاقات بين الذَّكر والأنثى

الطُّرُق التي تؤدِّي إلى اتِّحاد الجنسَين وإلى حياة كاملة ينعم فيها الاثنان عديدة، وليس لأيّ سبيل من هذه السُّبل قِيمة عالمية، ولا الواحدة منها بالتي ترجح أو تفوق الأخرى. وكل واحدةٍ منها – إذا كانت تؤدِّي إلى تحقيق الـ “أنت” والـ “نحن” – تتعلق بإرادة الله، وصالحة لمن يبلغ بها كمال ذاته. فالعلاقات بين الرجل والمرأة جوهرُها الكيان الخاص بكل طرازٍ بشري، وهي وثيقةُ الارتباط بما لهذا الطراز البشري أو ذاك من تجربةٍ أو خبرة عن العالم، والطبيعة، والمصير، والإله.

إنَّ فهمَ مختلف الأنواع البشرية، وشتَّى المجموعات العِرقِيَّة، وعلاقاتها الأساسية بالله، هو وحده الكفيل بتفسير طبيعة العلاقات بين الجنسين (الذكر والأنثى) في كل منها، ووضعِيَّة المرأة في مجتمعاتها. فليس القانون الأساسي الذي ترتكز عليه هذه العلاقات واحدًا لدى البشر كلهم: إذ لا يساعد هذا القانون على بُلوغ النظام وتحقيق الهناء والسعادة إلاَّ أولئك الذين شرَّعوه وسنُّوه ولو فُرِض هذا القانون على الجميع، لكان في ذلك انتهاكٌ لحرِّية الذين قد لا يرتضونه، لأنَّ كل ضَربٍ من ضُروب الحكم المطلق إنَّما هو ضربٌ من جنون الاستعلاء الذي يقود إلى المَجمر أو إلى غرفة الغاز.

في البدء كان الرجل والمرأة

ولقد بسطتُ هذه الأفكار الأساسية عن الرجل والمرأة في كتابي الذي عنوانه: “في البدء كان الرجل والمرأة”، وهو الكتاب الذي أهديتُه إلى مواطني الألمان، عساهم يستطيعون – بعد أن تأسُّوا لمدة ألف عام بالنموذج الإسرائيلي المسيحي عن المرأة حوَّاء الخاطئة – أن يكتشفوا في نهاية الأمر طبيعتَهم الحقيقِيَّة، وأن يكفُّوا عن الانقياد الأعمى إلى النماذج الأجنبية الواردة من الشرق أو من الغرب، من الشمال أو من الجنوب. وكذلك فليس في نيَّتي أن أقدم لكم – أصدقائي العرب – مبدأ أوروبِيًّا عن وضعية المرأة العربية الإسلامية في مجتمعها، ذلك لأنَّه لا يمكن في الواقع لرجال أيّ شعب أو نسائه أن يكونوا سعداءَ إلاَّ إذا عاشوا على مُقتضى القانون الخاص بطبيعتهم.

نقطة مشتركة بين العربِيَّات والأوروبِيَّات

حقًّا إنَّ هناك نقطة مشتركة بين نساء العالم الإسلامي وبيننا نحن الأوروبيات اللاَّتي عانينا لمدَّة ألف عام من النموذج الأجنبي المفروض من العهد القديم الإسرائيلي، وهو النموذج الذي تحرَّرنا منه اليوم من أجل أن نتأسَّى بمُثُلنا القديمة. وفعلاً، فإنَّ النساء في الإسلام قد رضخن كذلك مُدَّة تسعمائة سنة إلى نموذج أجنبي لا يتَّفق أبدًا مع أقوال الرسول محمد (ص) في القرآن، ولا مع تصوُّراته عن وضعِيَّة المرأة العربية في عهده. واسمحوا لي أن أذكِّركم هنا ببعض أقوال الرسول في الرجل والمرأة من جهة، وفي وضعية المرأة، في عهد ما قبل الإسلام، وفي فجر الإسلام من جهة أخرى.

مبدأ المساواة.. الروحي والإنساني

إنَّ كل ما ورَد من أقوال الرسول (ص) في القرآن والحديث، ليُلحّ على مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة، سواءٌ أكان ذلك في المجال الرُّوحي والدِّيني أم في المجال الإنساني والاجتماعي المحض. وقد ألحَّت السُّورة الرابعة من سُوَر القرآن على تساوٍ في الطبيعة بين الرجل والمرأة اللذَين خُلِقَا كلاهما “من نفس واحدة”، ونجد الترابط الأخوي أمرًا مَطلوبًا بين المؤمنين والمؤمنات” في السورة التَّاسعة. وأوصى الرسول في “خطبة الوداع” بحسن معاملة النساء، وتتحدَّث السورة الثلاثون عن “المودَّة والرحمة”، وعن الأمن الذي يجده الرجال لدى النساء. وفي السورة الثالثة تقريرٌ للمساواة بين الرجل والمرأة في أجر العمل. وهناك عدَّةُ سُوَر تُلحُّ على المساواة بين الرجل والمرأة في مسؤولياتهما المتبادلة، بل وثمة شهادات أخرى تثبت المساواةَ بين الجنسين مِمَّا نادى به الرسول، وجرى عليه العمل في صدر الإسلام.

من ذلك أنَّ شخصية النساء قد لعبَت في عهد الرسول دورًا هامًّا وقائمًا بذاته، بدءًا بالتي كانت زوجته الوحيدة لمدة أربع وعشرين سنة، وأعني بها “خديجة” أرملة التاجر الغنِيَّة التي مارسَت تجارة مُستقلَّة، وكانت أوَّل من آمن برسالة “محمد” (ص)، وشجَّعته على القيام بها والاضطلاع بأعبائها، كما كانت له عونًا على مُغالبة ما كان يُراوِد نفسَه من شُكوك.

“مُوضةً” التَّزوُّج بالأجنبِيَّات

لكن حصلَ تغيُّرٌ في وضعِيَّة المرأة تحت تأثيرٍ أجنبي عقب الحدثَين الآتيَين: ففي القرنَين التاسع والعاشر، ساعد التزوُّج بالنساء الفارسِيَّات في قصر الخليفة ببغداد على التسرُّب المُتزايد لنفوذ “الفرس” عن طريق الحِجاب المفروض على المرأة، ووُجود الحريم والخِصيان على غِرار “بيزنطة” المسيحِيَّة. وما كان في البداية مقصورًا على المكانة السامِيَّة لزوجات الخليفة وسيِّدات القصر، سرعان ما أصبح “مُوضةً” في الأندية الأنيقة، وأخيرًا في المُدن والحواضر الإسلامية، بينما ظلَّت النّسوِة في البادية يعشن عِيشةً حُرَّة ومُحترمة.

مُحتَجِباتٌ حتى العينَين..

ولقد كان الخليفة “القادر بالله” المَعروف بتزمُّتِه الشَّديد، والذي يرجع حُكمُه إلى حوالي سنة ألف، هو المُشرِّع لقوانين غاية في الصَّرَامة بشأن ارتداء المرأة ما يسترُ وجهَهَا، وبشأن حَجبِها في الحريم. وبعد سنوات من ذلك، منَع خليفة “مصر” الحاكم منعًا باتًّا كل النساء، مهما كانت مكانتهن، من مُغادرة الحَريم أو بيوتهن إلاَّ إذا كُنَّ مَصحوبات أو مُحتجِبات حتى العينَين.

تلك كانت نتيجة الأرثوذوكسية المُزيَّفَة الورَع التي سادت في ذلك العهد، والتي كانت تحدُوها روحٌ مُعادِيَةٌ للمرأة لا علاقة لها بالعرب إطلاقًا، روحٌ سبَق أن سرَت إلى المسيحية قبل ذلك العهد بألف سنة عن طريق “التوراة”. إنَّما انتشرَ هذا التمييز للمرأة تحت سيطرة الأتراك والمغول، ذلك التَّمييز الذي كان ولا يزال يُفسَّر ـ خطأ – كما لو كان من تقاليد العرب القديمة المُحترمة. وذلك كان – حسب ما أراده الرسول – النموذج العربي الخالص للمرأة ومكانتها في الإسلام إلى أن ذاعَت الأفكار الأجنبية الواردة من “الفرس” و”بيزنطة المسيحية”، والتي كان من نتائجها التَّفسير الضيق للقرآن. واسمحوا لي أن أورِد عليكم بهذا الصَّدد أمثلةً مختلفة مأخوذة من التاريخ العربي.

قصَّةُ الحارث وباحثة..

لقد كُنَّا ما نزال نستمع في البلاط الأموي إلى أقاصيص قديمة مثل القصة التالية: قصَد “الحارث بن عوف”، شيخ قبيلة “بني مُرَّة”، القوِيّ الشَّكيمة بلَد “أوس بن حارثة” الشَّريف والعزيز في قومه، ليخطب إحدى بناتِه الثَّلاث، وقد رفضَت البِنتان الكبريان – وهما دَمِیمتان – التزوُّج من هذا الرجل، لكن “باحثة” صُغراهُنَّ أجابَت قائلة: “أنا ذات حُسن وجمال، وقدٍّ واعتدال، وذات حسَبٍ ونسبٍ، ولي يد صنَّاع، فويلٌ له إذا تجرَّأ على رفضي!”، فقال لها أبوها: بارك الله فيك يا بُنيَّتي!

وأمَر بإقامة العرس، وبنصبِ خيمةٍ كبيرة، ولمَّا تم له ذلك، أمَر بحَملِ العروس إلى زوجها. ولمَّا هَمَّ “الحارث” بالاقتراب من “باحثة”، أشارَت إليه بأن لا يتحرَّك، وقالت: “ماذا! أَأحتفلُ بعرسي هنا عند أبي؟ أبدًا لن يحدث ذلك”. عندئذ أمَر “الحارث” برفع الخيام وحملِها على الجِمال، وكان الرَّحيل. ولمَّا كان المساء، أمَر “الحارث” بحَطِّ الرِّحال ونَصب الخيام، لكنه لمَّا هَمَّ بالاقتراب من زوجته الشابة، أشارَت إليه بأن لا يفعل. وقالت: ماذا! أتريد أن تعاملني كجاريةٍ تُشتَرى، أو كأسيرة حربٍ تُؤخَذ غَصبًا؟ والله لن تضمُّني بين ذراعيك قبل أن يُحتَفل بعرسنا وسط القبيلة، وقبل إقامة وليمةٍ يُدعى إليها أعضاء القبائل العربية كلها.

استأنفوا الرَّحيلَ حتى وصلوا إلى قبيلة “الحارث” فدَعَا هذا الأخير عددًا كبيرًا من الضُّيوف، وأمَر بإبلٍ وأغنامٍ فنُحِرت أو ذُبِحت لإقامة الوليمة، وأقِيمَت الأعراس وفق رغبةِ “باحثة”. وهّمَّ “الحارث” بالاقتراب من عروسه، فأشارت إليه مرَّة أخرى بأن لا يفعل. وقالت: ماذا! أتجِدُ من الوقت ما يكفيك لمُداعبة امرأةٍ، وخارج البيت قبيلتان تتناحران، وذبيان وعبس “قبيلة أمي” في حرب طاحنة؟ اذهَب وعجِّل بالصُّلح بين القبيلتين المُتنازعتَين، ثم عُد إلى زوجتك لتجدها في انتظارك بقلبٍ مِلؤه الحب! أسرع “الحارث” إلى القبيلتَين المتحاربتَين منذ أربعين عامًا. وتوصَّل بعد جُهدٍ جهيد إلى إحلال السلام بينهما. وبعد إحصاء القتلى من الجانبين، تعهَّد بتعويض القبيلة التي مُنِيَت بأكبر الخسائر، وذلك بأن يَهِب لها ثلاثة آلاف ناقة في ظرف ثلاثة أعوام. ولمَّا استتبَّ السلامُ بفضل كرم “الحارث” وسخائه، عاد إلى بيته وعليه هالةٌ من المجد والفَخَار، واستقبلته زوجته بصدرٍ رحبٍ، وأنجبت له عددًا كبيرا من البنين والبنات.

ويصمُتُ القاصُّ، وتصدُر من المُستمعين آهات عميقة، وعبارات “ما شاء الله” لتدلَّ على أنَّ القصة أصابت منهم الوتَرَ الحسَّاس. فالفتاة “باحثة” امرأةٌ على وفق ما يتمَنُّون. وفعلاً، فإنَّ المرأة في القرون الأولى للهجرة لعبَت دورًا كبيرًا في ميادين القتال، وفي الحياة العمومية. وكانت “خديجة” وهي أرملة تاجر غنى، والزوجة الأولى للرسول (ص) التي أنجبت له ستة أطفال، امرأةً تتمتَّع باستقلالها الذاتي كذلك، وتخوض غمار الحياة العمومية. وكان لزوجة الرسول الثانية “عائشة” أثرٌ كبيرٌ في الحفاظ على السُّنة والحديث.

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا