من أسرار البحر الأبيض المتوسط.. “الإطلانطيس”.. كانت جزيرة جزائرية! (الجزء الثالث)

تمامًا مثلما غرقَت جزيرة “الإطلانطيس” وصارت مدينةً ضائعةً ومُضيّعة بين الأساطير والحقائق، لم ينف وجودَها الفلاسفةُ ولم يؤكّد تاريخَها المتخصّصون في “علم آثار ما تحت المياه”.. كذلك غرقَت أوهام الغرب الأوروبي في تحويل البحر الأبيض المتوسّط إلى بحيرة “رومانيّة” لا حقّ لإفريقيا وآسيا فيها، وغرقت أيضًا أفكارٌ كثيرة منها فكرة تجفيف حوض المتوسط التي أبدعَتها مخيّلةُ المهندس الألماني “هيرمان سورجل” (1885- 1952)، وكانت غاية هذا المهندس أن يجد حلولا للاضطرابات الاقتصادية والسياسية التي اجتاحت أوروبا في أوائل القرن العشرين، ويمنع اندلاع أيّ حرب عالمية.. وذلك بتوحيد قارتَي: أوروبا وإفريقيا في قارة واحدة (أوروإفريقية)، فوضع مُخطّطًا عُرف باسم: “أتلانتروبا”..

من المُجدي أن نعرف كل أسرار البحر الأبيض المتوسط، وخاصة ما يتعلّق بحكاية جزيرة “الإطلانطيس” التي تحدّث عنها الفيلسوف اليوناني “أفلاطون” في كتابه “تیمایوس”، فقال: “حدثت زلازل عنيفة وفيضانات، وفي يوم واحد وليلة من الحظ التّعس، غرق مُحاربوك، واختفت جميع جزيرة الإطلانطيس بصورة مماثلة في أعماق البحر. ولهذا السبب فإنّ البحر في هذه المناطق لا يمكن اجتيازه، ولا اختراقه نظرا لوجود تجمّعات من الطين”. وقد اختلف العلماء في تحديد موقع هذه الجزيرة “فبعضهم وضعها في شمال إفريقيا، أو في القوقاز، أو في جزر الأزور والكناري، أو في جبال الأندلس، والبحر البالطيكي..”.

يُقال: “لا دخّان بلا نار”، وليس من البعث أن يصرف علماء “علم آثار ما تحت المياه” جهودهم لدراسة وهمٍ تناقلته الكُتب من عصر الفيلسوف اليوناني “أفلاطون” (عاش 427 ق.م – 347 ق.م) إلى يومنا هذا! ومن الطريف أن بعض الفلاسفة والعلماء أرادو أن ينسبوا أعراقهم البشرية إلى سكّان جزيرة “الإطلانطيس”، فقد “حاول أحد الفلاسفة من مؤيدي هتلر أن يعيد أصل التفوّق الآري إلى القارة الأطلنطية المجيدة، وحدّد موقعها على مَبعدة أميالٍ من الشاطئ الألماني!”.

ومن الطّرائف أيضًا أن الفلاسفة وعلماء “علم آثار ما تحت المياه” وضعوا احتمالات كثيرة حول المكان الذي قد تكون جزيرة “الإطلانطيس” اختفت فيه، فتحدّثوا عن مناطق في اليونان وإيطاليا وقبرص ومالطة وليبيا وتونس وجبل طارق.. ولم نجد احتمالا واحدًا يذكر مدينة جزائريّة رغم أن الجزائر هي الاحتمال الأكبر، ذلك أن طول الساحل الجزائري يمتد إلى أكثر من 2148 كم (وفق أحدث الدراسات)، إضافة إلى وجود سلسلتَي جبال الأطلس: التلّي والصحراوي في الجزائر، وحسب المؤرّخ اليوناني “هيرودوت” (عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، حوالي 484 ق.م – 425 ق.م) فإنّ سكّان جبال الأطلس كان يُطلق عليهم تسمية: الأطلنطيين.

وإذًا، ما دام الفلاسفة الأقدمون والعلماء المعاصرون أسّسوا نظريّاتهم على تخمينات واحتمالات لا يسندها دليل علميٍّ، فمن حقّنا نحن أيضًا أن نبني تخميناتٍ ونعتبرها صحيحة حتى يُثبت العلماء عكس ذلك! ونزعم بأنّ جزيرة “الإطلانطيس” كانت جزائريّة، وقبل غرقها لجأ بعض سكّانها إلى جبال الأطلس في الجزائر ليحتموا بعلّوها الشاهق من مخاوف الغرق التي سيطرَت عليهم. ونعتقد بأن طول الساحل الجزائري، وطبيعة الإنسان الجزائري.. من العناصر التي ترجّح الاحتمال بأن الجزائريين هم ورثة الشعب العظيم لجزيرة “الإطلانطيس”، وإذا كان عقل الفيلسوف المؤيّد لـ “هتلر” سمح له بأن يُرجِع أصل تفوّق الجنس الآري إلى شعب “الإطلانطيس”، فمن باب أولى أن ننسب هذا الشعب إلينا نحن الجزائريون، ونزعم بأن عظمة شعب “الإطلانطيس” هي جزء من عظمة الشعب الجزائري، وإنكار العلماء وتجاهلهم لاحتمال أن تكون “الإطلانطيس” جزيرة غرقت في مياه الجزائر من أقوى الأدلة على صحّة مزاعمنا!

ندعو القارئ إلى اكتشاف بعض أسرار البحر الأبيض المتوسط من خلال مقالة للكاتب السوري الدكتور “هشام الصفدي”، نشرها بمجلّة “الأصالة” في شهر ديسمبر 1977، وسواء اتفق معنا القارئ أو اختلف حول قضية جزيرة “الإطلانطيس”، فعليه ألّا ينحاز “مجّانًا” إلى الآراء الغربية لمجرّد أنها غربية! فهي تبقى مجرّد آراء بلا دليل علمي تماما مثل رأينا. لنترك القارئ مع مقالة “الصفدي”..

إنقاذ البقايا الحضارية التاريخية في حوض المتوسط

إنه لَمستودعُ حضارات عجيب، يندر العثور على مثله فوق سطح الأرض، إذ أن يد الإنسان التي تفوق يد الطبيعة أحيانا، في التشويه والتدمير والإبادة، لم تصل إليه بعد إلا عبر “علم آثار ما تحت المياه” (Archéologie sous-marine) وهو علم حديث ذو منهج دقيق، أسفر رغم حداثة عهده عن نتائج هامة للتاريخ البشرى.

ويكفي هنا أن نستشهد بأول تجربة افتتح بها هذا العلم نشاطه في مضمار إنقاذ البقايا التاريخية من قاع المتوسط، ففي عام 1907 عثر ملّاحو مركب إغريقي لصيد الإسفنج على حطام مركب يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، غرق قرب مدينة “المهدية” من الشاطئ التونسي، واستقر على عمق (…) مترا فقط من سطح المتوسط. وقد تبيّن بعد إنقاذ حمولته الثمينة من: أعمدة معابد وتيجان، وتماثيل برونزية وغيرها من المواد الهامة التي ملأت ستّ غرف في متحف “باردو” (تونس).. تبيّن أن المركب الغارق كان من بين المراكب العديدة التي حمَّلها القائد الروماني “سوللا” (عدوّ “يوغرطة”) غنائمه ومنهوباته من كنوز معابد أولمبيا ودلفي وأبيداوروس والمدن الإغريقية.. إثر حملته المدمّرة إلى الشرق.

وقد ضلّ أحد هذه المراكب طريقه بفعل عاصفةٍ حرّفته عن مساره الأصلي نحو “إيطاليا”، ودفعته نحو الجنوب ليتحطّم قرب الشاطئ الإفريقي. ويمكننا تصوُّر أهمية الوثائق التاريخية التي احتواها هذا المركب، فهي لم تكن من عصر واحد أو بلد واحد، بل كانت مجموعة ثمينة أهداها الإغريق معابدَهم، واحتفظوا بها في بيوتهم. ثم جاء الغازي “سوللا” ليرسلها غنيمة حرب إلى “روما” عاصمة المتوسط الجديدة. ولولا غرق بعضها، لربما ما سمعنا عن هذه الوثائق التاريخية الهامة، ولربما ضاعت كآلافٍ غيرها خلال الحروب وعبر السنين.

هناك حطام سفينة أخرى عُثر عليه عام 1958 قرب الشواطئ الجنوبية الغربية التركية عند رأس “جِليدونيا” ويطلق العلماء اليوم هذا الاسم على المركب وحمولته، أما المركب فهو من عهد أبكر يعود إلى حوالي 1200 قبل الميلاد، وكان يحمل حوالي الطنّ من المعادن التي تتألف من 43 سبيكة كبيرة من النحاس، وسبائك أخرى صغيرة، وبقايا من سبائك من الزنك.. وقد اختلط بهذا الحطام مئات الأدوات البرونزية التي نُقلت للمتاجرة بها في صناعة الخشب ونحت الحجارة. وتوحي هذه اللُّقى وغيرها بأن السفينة كانت سورية، ملأت حمولتها من جزيرة “قبرص” الغنية بالمعادن، ثم انطلقت باتجاه الغرب حيث فاجأتها العاصفة وأغرقتها. مثل هذه السفينة تساعد إلى حدٍّ كبير على إلقاء الضوء على الدور الهام الذي لعبته تجارة المواد الخام، في سياسة واقتصاد دول المنطقة. مثلما توضّح آثارها على التطور الحضاري والصناعي في عالم البحر المتوسط القديم.

أمّا المركب الذي عثر عليه علماء جامعة “بنسلفانيا” قرب شواطئ مدينة “تارنت” – جنوبي إيطاليا – فقد ساعد العلماء في بحثهم حول تجارة الرومان بمواد مثل: أحجار الرخام والغرانيت والبورفير، إذ عُثر ضمن حطام المركب على 22 تابوتا من الرخام لم ينته صنعها بعد. ثم عثر عام 1964 على حطام مركب آخر يضم 18 تابوتا و23 كتلة حجرية أعِدَّت للنحت. وتمكّن علماء “آثار ما تحت المياه” من انتشال هذه اللُّقى بالإضافة إلى أجزاء خشبية من ألواح المركب، وأواني فخارية وقطع نقود… ساعدت جميعها على تأريخ عهد المركب وحمولته في أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث للميلاد.

يتبيّن من الأمثلة المُتقدّم ذكرها أنّ قاع البحر المتوسط يحتوي شواهد على درجة كبيرة من الأهمية، ويقدّم للباحثين في التاريخ السياسي والحضاري والاقتصادي مفاتيح لمشاكل كانت تُعتبر إلى وقت قريب ألغازًا مُحيِّرة. هنا يجدر بنا أن نتساءل: تُرى هل يقدّم البحر المتوسط بالمثل مفتاحا لأكبر وأغمض لغز عرفه التاريخ البشري، وهو مصير وموقع الجزيرة المفقودة المُسمّاة: الإطلانطيس؟

لغز مملكة الإطلانطيس المفقودة وعلاقته بشمال إفريقيا

نشر الفيلسوف الإغريقي “أفلاطون” (427 ق. م.) لأول مرة أخبار مملكة “الإطلانطيس” أو الجزيرة الضائعة، وذلك في كتاباته المُسمّاة “قريطياس” و”تیحايوس”. واستند في ذلك على معلومات ومرويات قديمة جدًّا يُقال بأنّ كاهنًا نقلها إلى جَدِّ “قريطياس” تلميذ “سقراط” وعبر هذا الأخير إلى تلميذه “أفلاطون”، ومفادها أن جزيرة “الإطلانطيس” كانت تقع غربي أعمدة “هرقل” (جبل طارق)، وكانت تحتوي معبدا للآلهة “أثیناتریتونیس”. ويقول “أفلاطون” في كتابه “تیمایوس”: “حدثت زلازل عنيفة وفيضانات، وفي يوم واحد وليلة من الحظ التعس، غرق مُحاربوك، واختفت جميع جزيرة الإطلانطيس بصورة مماثلة في أعماق البحر. ولهذا السبب فإنّ البحر في هذه المناطق لا يمكن اجتيازه، ولا اختراقه نظرا لوجود تجمّعات من الطين”.

منذ أن كتَب “أفلاطون” هذه الكلمات، وعبر القرون التالية، ما فتئ الناس والعلماء في أرجاء الأرض يبحثون عن سرّ الجزيرة الضائعة، ويحاولون تحديد مكانها. وقد حُرِّر حول هذا الموضوع آلاف الكتب والمقالات، وانطلقت بعثات عديدة وضعَت نصب أعينها العثور على الجزيرة العتيدة، وكان من أشهرها بعثة ترأسها الكولونيل “فوسيت” الإنجليزي. غير أن البعثة التي توجهّت إلى غابات الأمازون ضاع أثرها هناك.

ومع ذلك لم يفقد الناس الأمل، وخاصة بعد أن كتَب “شلايمان” قصّته المثيرة عام 1912 بعنوان: “كيف اكتشفتُ جزيرة الإطلانطيس نبع كافة الحضارات”. والناس ما زالوا بين مُصدِّق ومُكذِّبٍ للأسطورة شأن ما لقيته أسطورة مدينة “طروادة”، وشخصية الشاعر “هوميروس”، أو “شكسبير”، من جدل عنيف طويل في الأوساط الأكاديمية والشعبية.

اختلف الناس حول تحديد موقع جزيرة “الإطلانطيس”، فبعضهم وضعها في شمال إفريقيا أو في القوقاز، أو في جزر الأزور والكناري، أو في جبال الأندلس، والبحر البالطيكي.. كما نسب بعض خبراء الأعراق البشرية العرقَين الإسباني والإيطالي إلى جزيرة الإطلانطيس، وبالمثل حاول أحد الفلاسفة من مُؤيّدي “هتلر” أن يعيد أصل التفوّق الآري إلى القارة الأطلنطية المجيدة، وحدّد موقعها على مَبعدة أميالٍ من الشاطئ الألماني!

ويحلوا لكثيرٍ من الخبراء أن يحدّدوا موقع الجزيرة في وسط المحيط الأطلسي فتكون جسرا بين العالم القديم والجديد، يساعد على تفسير التشابهات المثيرة القائمة بين الثقافتين: المصرية والهندية – الأميركية، ويستندون في ذلك على ولع كلا الحضارتين بالأبنية الهرمية الشكل. رغم أنهم يتناسون الفاصل الزمني الكبير، والاختلاف الوظيفي بين أوابدها. (تعود أهم المدافن الفرعونية المُسمّاة بالأهرامات إلى عصر الملكية القديمة وخاصة بين 2650 – 2190 قبل الميلاد، أما أهرامات الهنود الأميركيين “الآزتيك” فكانت معابد، يُقدّر عهدها اعتبارا من 1200 ميلادية).

وفي أوائل القرن العشرين، قام العالم الألماني “بورشاردت” بتحديد موقع الجزيرة قرب مدينة “قابس” في الأراضي التونسية، عند مَصبّ نهر “تریتونیس” (شطّ الجريد) الذي كان مُتّصلا بالبحر عند خليج “السيرت” الصغير. وأيّده في ذلك الرأي فيما بعد العالم “هرمان” الذي توصّل إلى أن منطقة تونس كانت تمارس صلة وثيقة مع سكان جزيرة “كريت” ومع الإغريق الذين استوطنوا مناطق إفريقيا الشمالية. أمّا المؤرخ “جوليان” فيستخلص بأن: “شهرة ما رواه أفلاطون في كتابه تیمایوس معروفة، فمملكة جزر الإطلانطيس تكون حسب هذه الرواية بسطت نفوذها على ليبيا، وحاولت غزو مصر وبلاد اليونان، ولكن المياه غمرتها في آخر الأمر”. وبالمقابل يحذّر المؤرخ الألماني “أ. ماير” بشدة تجاه كل محاولات تحديد موقع جزيرة “الإطلانطيس”، ويقول بأنها مجرد قصة لا تثبتها مستندات تاريخية ولا طبيعية. ويماثله المؤرخ “ألبريتيني” في الرأي، بأن هذه القصة الفلسفية التي أثارت الكثير من التعاليق الغريبة، أشد اتصالا بميدان علم الأمراض العقلية. ومع ذلك يحاول علماء آخرون نقض هذا الادّعاء وتكذيبه.

في الحقيقة، تسمح النتائج الإيجابية التي أسفرت عنها جهود باحث صبورٍ مُحبٍّ للتاريخ هو “هانريش سليمان” في الكشف عن مدينة “طروادة” التي اعتبرها الكثيرون مجرد أسطورة.. تسمح للباحثين بأن لا يقطعوا الأمل في ظهور حقيقة الجزيرة المفقودة. وقد لاحت هذه البارقة وبشكل ملموس إثر أبحاث علمية مماثلة، وإن من بين ما يدفعنا للاهتمام بموضوع “الإطلانطيس” الصلة التي تربطها بتاريخ شمال إفريقيا الباكر، أي في الألف الثاني قبل الميلاد، وهي فترة هامة ما زالت فصول من التاريخ المغاربي تسبح خلالها في ظلام، هذا بالإضافة إلى التشابه الوثيق بين الجزيرة واسم سلسلة جبال الأطلس المغاربية.

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا