حاول الاستعمار الفرنسي “خَلق بحرٍ داخلي صحراوي (في الجزائر)، من أجل إحداث تغييرٍ جذري في الظروف الطبيعية، والمناخية، القاسية للصحراء”، وزعَم بأنَّ هذا البحر كان موجودًا في أزمنة ما قبل التَّاريخ، وكان يُسمَّى بحر “تريتون”، وتحدَّث عنه المؤرِّخ اليوناني “هيرودوت” الذي عاش في القرن الخامس قَبل الميلاد (حوالي 484 ق.م – 425 ق.م).
تحدَّث مُؤرِّخون وكُتَّابٌ يونانيون إغريق ورومان عن بحر “تريتون”، مثل: كلاوديوس بطليموس، سترابو، والشاعر أبولونيوس الرُّودسي في ملحمته الشعرية “الأرجوتيون”. و”تريتون”، وفق الأساطير الإغريقية، هو “ابن ربِّ البحر والماء بوسيدون الذي جعله الإغريق ربَّ أوليمبيا” وهو “على شكل عريس البحر، فهو يتكوَّن من جسمٍ مُركَّبٍ، جسده العلوي كجسد الإله (وفق التَّصوُّر الإغريقي)، غير أنَّ جسده السفلي هو عبارةٌ عن ذيل حوتٍ أو وحش بحري”.
وإذًا، فإنَّ الاستعمار الفرنسي وظَّف كل شيءٍ ليُهيمِن على كل الجزائر، مثل الأكاذيب وتنبُّؤات المُنجِّمين وتزييف التَّاريخ.. فلا عجبَ أنَّه وظَّف الأساطير الإغريقية أيضًا و”مزَجَها” بالعلم تحت مُسمَّى الاستكشافات في الصحراء الجزائريَّة. وفي هذه الدّراسة، قام المؤرِّخ الجزائري ” يحيى بوعزيز” بتتبُّع اهتمامات الاستعمار الفرنسي بأعماق صحرائنا الجزائرية، لا سيما منطقة “الهقار”، من خلال كتابات الفرنسيين. وفيما يلي، نَغوصُ – بتصرُّف – مع القارئ في رحلةٍ تاريخيَّة من خلال ما نشرَه مؤرِّخنا “بوعزيز” في مجلة “الأصالة” الجزائرية في الأول من شهر أوت 1979، مُعتمِدًا على دورِيَّاتٍ ونشرِيَّات ومطبوعاتٍ فرنسيَّةٍ.
محاورُ اهتمامِ الاستعمار بالصحراء الجزائرية
يندرجُ اهتمام الفرنسيين بالتَّوارق ومنطقة الهقار، ضِمن اهتمامهم العام بجنوب الجزائر وصحرائها الكبرى، الذي بدأ منذ احتلالهم لمدينة الجزائر عام 1830، ولكن المقاومةَ البطولِيَةَ الصَّامدة، التي واجهوها من طرف الشعب الجزائري في الشمال، عاقَتهم على ذلك قرابة أربعين عاما.
وقد أخذَ الفرنسيون يتطلَّعون إلى جنوب الجزائر، وأقاصي الصحراء، مع نهاية الأمير عبد القادر، والحاج أحمد باي، وتنوَّعَت اهتماماتُهم بذلك إلى ثلاثة محاور رئيسِيَّة وبارزة، ركَّزوا عليها كثيرًا، وهي:
المحور الأول: وهو الهدف الأساسي لهم، ويتمثَّل في التركيز على الاحتلال والتوسع الاستعماري الذي اعتادوا على نعته بالاستكشاف، والتعرُّف على هذا المحيط الواسع والمجهول من الرمال الصفراء بواحاته الخضراء المتناثرة هنا وهناك. واقترن هذا الاحتلال والتوُّسع الاستعماري بمحاولة التعرُّف على إمكانيات الصحراء الاقتصادية والبشرية لاستغلالها واستثمارها، وبمحاولة استكشاف المظاهر الجغرافية الطبيعية: التَّضاريسِيَّة والمناخية، والطوبوغرافية، والطاقة المائية الجَوفية. كما اقترن هذا الاحتلال والتوسع بدراسة المجموعات السُّكانية وعاداتها، وتقاليدها، وتاريخها السياسي، والحضاري وأوضاعها الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية.
المحور الثاني: برَز كنتيجةٍ للاهتمام الأوَّل، ولخدمته، وتدعيمه. ويتمثلُ في محاولة وضعِ شبكة من طرُقُ المواصلات الحديدية، والبرية، وأسلاك الهاتف، وذلك لتسهيل سُبُل التَّنقل في ظروفٍ آمنة، للقوات العسكرية الغازية، والمغامرين، بين مختلف المناطق الصحراوية الدانِيَة والقاصِيَة.
فأخذوا يَدرُسون المظاهرَ الطوبوغرافية، والتَّضاريسية، والمناخية، من أجل تحديد المناطق الصالحة لمدِّ تلك الطُّرُق البرية، والحديدية، وتحديد اتجاهاتها، وإبراز المحاسن والفوائد، والصعوبات التي تعترض ذلك، وتقديم الحلول، والاقتراحات اللاَّزمة. فتعدَّدت رحلاتُ المستكشِفين، والدَّارسين المُختصِّين، والمغامرين المُرتزقة. وتعدَّدَت وجهاتُ نظرهم كذلك حول تلك المشاكل، والحلول، والاقتراحات.
المحور الثالث: والأخير، برَز كنتيجةٍ للاهتمامَين: الأول والثاني، ولخدمتهما معًا، كذلك. ويتمثَّل في محاولة خلق بحرٍ داخلي صحراوي، من أجل إحداث تغييرٍ جذري في الظروف الطبيعية، والمناخية، القاسية للصحراء. فاتجهَت أنظارُ الفرنسيين إلى أحواض الجَريد التونسي، وأحواض بسكرة، وواد سوف، في الطَّرف الشمالي لحوض إيغرغر، لاتخاذها نواةً لهذا البحر الداخلي الصحراوي الذي قِيل أنَّه كان موجودًا في الزمن القديم، وأنَّ “هيرودوت” تحدَّث عنه، ويُدعى بحر “تريتون”. وسيربط هذا البحر بخليج “قابس” في شرق تونس، بواسطة قناة تمتدُّ من نهاية شطِّ فجاج الشرقية الذي يعتبر الذراع الشرقي لشط الجَريد الكبير الذي لا يبعد كثيرًا عن البحر والخليج. (نشَر مؤرِّخُنا دراسةً بعنوان: الأمير عبد القادر ومشروع قناة قابس والبحر الإفريقي، في مجلة “الأصالة”، عدد جويلية – أوت 1975).
دوافعُ اهتمامِ الاستعمار بمنطقة الهُقَّار
يرجع سبب اهتمام الفرنسيين، بالواحات الصحراوية الجنوبية، ومنطقة الهقار، إلى تحوُّلها إلى معاقل للثُوَّار والمجاهدين الذين كانوا يفِرُّون من الشمال إليها، للاعتصام بها، والاستعداد مرَّةً ثانيةً للمقاومة. وقد بدأ هذا الاهتمام يطغى على عقولهم، منذ أحداث ثورة سُكَّان واحة “الزَّعاطشة” بمنطقة بسكرة (عام 1849)، وحركة “الشريف محمد بن عبد الله” بواحات: الأغواط، ورقلة، تقرت. وثورة سكان الجنوب الوهراني بزعامة “أولاد سيدي الشيخ”.
واشتدَّ هذا الاهتمامُ أكثرَ في عقدَي: الثمانينيات، والتسعينيات (من القرن 19)، بعد أن استعمروا غرب إفريقيا، وذلك من أجل ربط مستعمراتهم ببعضها البعض في الشمال، والغرب والوسط. وجاء تعرُّض بعض حَملاتهم، وبَعثاتهم العسكرية التَّوسُّعية، الاستكشافية إلى هجمات الجزائريين في أعماق الصحراء، ليقَوِّي عزمَهم، ويحفِّزَهم أكثر إلى التوسُّع والسيطرة على كل الواحات الجنوبية الصحراوية، ومنها منطقة الهقار، ووضع حامِيات عسكرية بها، أو في بعضها، تضمن لهم الأمنَ، والاستغلال بحرية، وتسمح لهم بالتَّصدي لمقاومة ما دَعوه: نشاط اتباع الطريقة السنوسية بليبيا، ومنع سلطان المغرب الأقصى من التوسع إلى بعض الجهات الأخرى، خاصة منطقة “توات”.
وكان حادثُ مَقتلِ الرِّجال التِّسعة لبعثة “فلاتر” الثانية عام 1881، من طرَف فرسان التوارق، بدايةً حقيقيةً لجهود الفرنسيين في التوسُّع بجدٍّ إلى منطقة “الهقار” بأعماق الصحراء، فكلَّفوا الجنرال “طوماسين” بالتَّفاوض مع زعماء “أولاد سيدي الشيخ” الشَّراقة والغرابة معًا، لإقناعهم بالتوقُّف عن العنف، والعودة جميعًا إلى الجزائر، حتى يَضمَنوا لقواتهم الغازية، الأمنَ والسلاح، والرجال المُحاربين، وتمَّ لهم ذلك عام 1883، بعد أن انتهَت أحداثُ “الشيخ بوعمامة” ورفاقه.
حَمَلات عسكريةٌ للاستكشاف والاستعلام
وقد كان حظُّ “التوارق” ومنطقة “الهقار” من اهتمامات الفرنسيين هو الاحتلال، والتوسُّع، والاستعمار، والاستغلال، وليس شيئًا آخر. فأكثروا من إرسال الحَملات العسكرية إلى هناك بعنوان: الاستكشاف، والاستعلام. وانكبُّوا على دراسة المنطقة من كل النواحي: السياسية، والعسكرية، والاقتصادية، والطبيعية، والبشرية. وتواردَ على المنطقة عددٌ من المُغامرين والمرتزقة من جنسيات مختلفة، حاول كلٌّ منهم أن يدرس جانبًا معيَّنًا، ويَحوز قصب السَّبق فيه، ويصبح بطلاً. فظهرَت دراساتٌ كثيرةٌ، بعضُها متخصِّصةٌ، والبعض الآخر في إطار الدِّراسة العامة لمنطقة الصحراء ككل.
ومن ضمن هذه البعثات الاستكشافية التي مهَّدَت للاستعمار الفرنسي لمنطقة التوارق والهقار، بعثاتُ: “هنري دوفيري” المُتعدِّدة إلى مناطق “التوارق” و”مزاب”. وبعثة “بیر تاردتانو” إلى جنوب طرابلس وغدامس، وإلى منطقة التوارق أزجيل، وبعثة “إيدين” من جانيت إلى بيلما، وبعثة “إيروین دوباري” إلی: غات، التوارق، أزجير، تاسيلي. وبعثة “دو” إلى عين صالح وتيديكلت. وبعثات “فلاتر” إلى منطقة التوارق. وبعثات “فيرديناند فورو” و”لامي” المُتعدِّدة إلى معظم مناطق الصحراء. وبعثة “فلاماند” إلى عين صالح وتيديكلت. وبعثة “فيلات” لاختراق الصحراء من تيديكلت إلى النيجر عبر الهقار. وبعثات “کورتي” المُتعدِّدة كذلك إلى معظم مناطق الصحراء.
وقد قام “هنري دوفیري” برحلةٍ مبكِّرةٍ إلى منطقة التوارق الشماليين، فدَرَس منطقتهم التي يسكنونها، من حيث التَّضاريس، ومصادر المياه، واستعرض قبائلهم المختلفة، وإنتاجهم الفلاحي، وتاريخهم السياسي، وعاداتهم، ومركز مَملكتهم القديمة. ودامَت رحلته من 1859 إلى 1862. ومنحته الجمعيةُ الجغرافية ميداليةً ذهبِيَّةً على أعماله هذه.
وأورَدَ “بوضربة” تفاصيلَ كثيرةٍ عن منطقة “التوارق” خلال رحلته التي قام بها إلى “غات” أواخر الخمسينيات، وتحدَّث عن الاستكشافات التي أنجزها من “الأغواط” إلى “غات”، وعن نقاط المياه، وحالة الأراضي التي مرَّ بها، من الناحية الاقتصادية. وفعل مثله “إیروین دو باري”، فقام برحلة إلى “غات” ومنطقة “التوارق” خلال عامي 1876 – 1877، وسجَّل أحداث رحلته في جريدة “طريق يومية”، وبحث في التاريخ السياسي للتَّوارق الشماليين، ودرس أوضاع منطقة “تاسيلي”.
واعتَنى “أوقيستان بیرتار”، و”لاكروا”، بدراسة الاحتلال الفرنسي للصحراء منذ حملة الاحتلال الفرنسية عام 1830 إلى مطلع القرن العشرين، فوضعَا دراسةً مُفصَّلةً ومُوسَّعةً، قسَّماهَا إلى سبعة أقسامٍ. وتناولاَ في كل قسمٍ جانبًا معيَّنًا، ومنها الزَّحفُ الاستعماري على منطقة “التوارق” واحتلالها أواخر القرن 19 ومَطلع العشرين، الذي أطلِق عليه عهد المَسح، والتَّقسيم، والاحتلال. وذلك على النَّحو التالي:
1 المحاولات الأولى للاحتلال فيما بين 1830 – 1852
2 عهد الماريشال “راندون” من 1852 إلى 1864
3 عهد الهدوء والسُّكون فيما بين أعوام 1864 – 1879
4 عهد وضع مشاريع المواصلات الصحراوية من 1879 إلى 1881
5 عهد المَسح، والاستكشاف الواسع للصحراء فيما بين 1881 و1890.
6 عهد تقسيم القارة الإفريقية بين الفرنسيين والإنجليز، إلى نهاية القرن.
7 عهد احتلال الواحات الجنوبية الغربية في مطلع القرن الحالي ونتائج ذلك.
واهتمَّ القبطان “بيرنارد” بدراسة أحداث ونتائج رحلة “فلاتر” الأولى.. منطقة “التوارق” منذ إعدادها وتجهيزها بـ “ورقلة” يوم 26 فيفرى 1880 إلى عودتها إلى الأغواط يوم 3 جوان من نفس العام، واستعرض أسباب إخفاقها. وأكَّد أنَّ البعثةَ تقرَّر تحطيمها، وإفشالها منذ البداية، وذلك من خلال المعلومات التي استَقاها من بعض أعضائها الذين شاركوا فيها. كما استعرضَ أسباب إخفاق الحملة الثانية في ديسمبر 880 ومَقتل “فلاتر” نفسه في قلب منطقة “التوارق” أوائل عام 1881.
وكان “فيرديناند فورو” مِن الضُّباط الذين قاموا بعدَّة رحلاتٍ إلى الجنوب، عددُها تسعة. اخترقَ خلالها الصحراء الكُبرى طولاً وعرضًا، مع الضابط “لامي”، ووضَع عدة دراساتٍ عن رحلاته. فاهتم بالتوارق ومنطقة الهقار. وتحدَّث عن الطُّرق الثلاثة التي تعرَّف عليها في منطقة “غدامس” عام 1892، ولم تكن معروفةً ومَطروقة قَبل ذلك، من “عين الطيبة” إلى “حاسي مويلح”، و”مات الله”، و”زاوية تيماسين”، و”حاسی أیمولای”، و”حاسي تويزة”. وتحدَّث عن رحلته إلى منطقة “التوارق أزجير” عام 1894، وإلى: تادمايت، باتن، عين صالح، لقويلي، تاسيلي أزجير، واد مهيرو، عرق إیساوان. وشرَح هزيمتَه أمام السُّكان. وبتكليفٍ من الحاكم العام، قام “فورو” بتخطيط طريق من “القليعة” إلى عين صالح، و”عين القنارا”، و”تاسيلي أزجير”. ودرَس هيئة الأرض، ومقاساتها، والظروف المناخية والفلكية، وذلك خلال عام 1894 و1895.
وقد سجل أحداث رحلته الأولى في دفتر طريقٍ من بسكرة إلى تيماسين، ومنكرور. في تاسيلى أزجير، داخل عِرق إیساوان، والعرق الكبير. وكذلك أحداث رحلته الثانية من بسكرة إلى البَيُّوض. فشرح طبائِع التوارق، وعاداتهم، وتقاليدهم، وتنظيماتهم، واستعرَض هجوم “شعانبة الجرامنة” عليه في البيوض، وأولاد رحمون، مما اضطره الى قطع رحلته.
وفي عامي 1896 1897 قام برحلة طويلة في الهضاب الجزائرية، والتونسية شمال العِرق، وفى داخل العرق الكبير، والهضاب العليا الجزائرية. وسجَّل ما اكتشفه لدى التوارق أزجير، والعِرق من الآثار، والعلوم، وحدَّد المراكز العسكرية الفرنسية المؤقتة التي أقِيمَت في “تيماسين”. وتحدَّث عن دور الضابط “دو “في حمايته وحماية رفاقه خاصة “لامي” و”بان”.
وقام الضَّابط إلى “میري” برحلة إلى “غدامس”، صُحبَة “ميرشير”، و”بولينياك”، اهتَمَّ بها “سيرفان دیسبلاس”. كما قام “میري” برحلات إلى منطقة “التوارق أزجير” من أجل الحصول على حرية المرور للقوافل الفرنسية إلى السُّودان الأوسط. وفعل مثله “بیرنار داتانو”. وكانت نتيجةُ هذه البعثات والحَملات إقناعُ بعض عناصر “التوارق” بالخضوع للسلطات الفرنسية. فحضَر بعضُهم إلى الحاكم العام مرَّتَين: الأولى في 19 نوفمبر 1892، والثانية في العام الموالي. ثم في مطلع القرن العشرين حضَر أمينوكال الهقار “موسى أماستان” إلى “عين صالح”، في جانفي 1904، وكان ذلك بدايةً للهيمنة الاستعمارية على منطقة الهقار والتَّوارق.