رأينا في مقال سابق ما كتبه المستعرب الإسباني “ميكال دي إيباليزا” عن الراهب الفرنسسكاني “ريمون لول” (1235م – 1314م) الذي سعى إلى التوحيد بين المسيحية واليهودية والإسلام، وذلك من خلال كتابه “الكافر والحكماء الثلاثة”.. وكانت له مغامرات في بلدان عربية وإسلامية كثيرة منها الجزائر، فقد ناظر بعض علمائها وسجّل ذلك في كتاباته، مثل كتابه “مناظرات بين رايموندو المسيحي وعمر العربي في بوجي (بجاية)” الذي ترجمه إلى اللاتينية عام 1308م، ونُشر في مائتي صفحة بمدينة مدينة “بلنسية” (فالنسيا) عام 1510م.
في هذا المقال، سنقرأ عن “الصوفي النصراني” أو الراهب الفرنسسكاني “ريمون لول” (1235م – 1314م) بقلم كاتب جزائري هو الأستاذ الدكتور “بوعمران الشيخ” (1924 – 2016). المقال نُشر بمجلة “الأصالة” الجزائرية في شهر أفريل 1974 أي قبل شهر من نشر مقال المُستعرب الإسباني في المجلة نفسها عن “ريمون لول”. ونترك للقارئ مهمّة المقارنة بين الرُّؤيتين: الجزائرية والإسبانية حول ذلك “الصوفي النصراني” الذي ناهزَت آثاره المكتوبة باللغة اللاتينية قرابة الستّين مجلّدًا، وآثاره باللغة الكتالانية قرابة العشرين مجلّدًا، إضافة إلى أعماله المُدوّنة باللغة العربية التي لم يُشر إليها المقال الذي نشرته، في شهر جانفي 1969، المجلة الألمانية “فكر وفن” – مجلة نصف سنوية كانت تصدر بالعربية – تحت عنوان “رامون لول والعالم الإسلامي”.
أشار الدكتور “بوعمران الشيخ” قائلا: “اعتمدنا في هذا البحث على حياة (ريمون) التي نقلها عنه كاتبه الخاص، وترجمها وعلّق عليها السيد (لويس صالة مولينس) ونشرها سنة 1967 في باريس مع مقدّمة ومجموعة من النصوص.. وقد أُطلق اسمه قديمًا على أحد شوارع الجزائر العاصمة في (حي القصبة)”. وفيما يلي، نترك القارئ مع مقال “بوعمران الشيخ”..
“بجاية” عاصمة عالمية للثقافة..
كانت “بجاية” عاصمة شهيرة سياسيا وثقافيا وقد انتشرت سمعتها غربا وشرقا وتعددت علاقاتها بالمراكز الثقافية العربية والأوروبية، فتردّد عليها الرحّالة والأدباء والمفكِّرون وأُعجبوا بحضارتها واجتمعوا بعلمائها ومثقفيها.
ومن جملة الشخصيات الأجنبية التي انتقلت إلى بجاية وأقامت بها مدة من الزمن، نخصّ بالذكر الفيلسوف الإسباني “ريمون لول” (1233 – 1316م) الذي كان يُعتَبر من الرجال الملهمين، قد اشتغل بالتّبشير طيلة حياته، محاولا تنصير المسلمين واليهود ولا سيما الذين كانوا يعيشون في “جزر الباليار”. ولهذا الغرض، قام بعدّة رحلات الى إفريقيا وآسيا، وزار خاصة تونس وبجاية قصد إدخالِ الأهالي المسلمين في الدين المسيحي.
ولد “ريمون لول” في جزيرة “مايوركا” سنة 1233م، وكانت أسرته قد قدِمَت من منطقة “كاتالونيا” سنة 1231م. وترعرع الشاب هنالك، واختلط بالسُّكان العرب، وخطّط لنفسه هدفين أساسيين: أولا معارضة فلسفة “ابن رشد” والردّ عليها بعدما انتشرت الرُّشدية في الأوساط المسيحية ولا سيما في جامعة “باريس”، وثانيا تحويل المسلمين عن دينهم إلى النصرانية في إسبانيا وشمال إفريقيا ومصر وسوريا..
“ريمون لول” والثقافة العربية الإسلامية
اتصل “ريمون لول” بالثقافة العربية منذ نشأته، وتعلّم اللغة العربية على يد أستاذٍ مسلمٍ بجزيرة “مايوركا”. وكان الغرض من هذا التعلُّم التبشير طبعًا، فأجاد قراءة القرآن الكريم، وتعرَّف على العلوم الإسلامية وعلى الفلسفة العربية، ونقل إلى لغته منطق “الغزالي”، واطّلع على آراء: الكندي، ابن سينا، ابن طفيل، ابن رشد.. ألّف بالعربية بعض كتبه منها: الكافر والحكماء الثلاثة، فن العثور على الحق، كتاب التأمل.. واقترح على حاكم “مايوركا” مشروعا يرمي إلى بناء ديرٍ يتكوّن فيه عدد من المبشرّين ويتعلّمون اللغة العربية، فرحّب الحاكم بالمشروع ووافق عليه البابا أيضا سنة 1276م.
وبعد ذلك، طلب “ريمون” من الكنيسة أن تجعل العربية مادة للتدريس في جامعات أوروبا، فتمّ هذا في: باريس، أوكسفورد، بولونية، روما، سالامنك.. ولكن الفيلسوف لم يُوفّق في مشروع آخر تقدّم به كان يحرّض فيه على تنظيم حملات جديدة من الحروب الصليبية، والسبب في ذلك يعود إلى أنّ هذه الحروب قد انتهت باستيلاء جنود المسلمين على مدينة “عكّا”، سنة 1291م، آخر قلعة من الأراضي الفلسطينية التي احتلّها المسيحيون. وقدّم “ريمون لول” مُلتمسًا إلى البابا غير أنه لم يتلقّ ردًّا عليه.
فغيّر رأيه بعد هذا الفشل، وقرَّر الاعتماد على مساعيه الفردية، وقام برحلات إلى عدّة بلدان قصد تحقيق خطّته التبشيرية، ورأى أن يوحِّد بين اليهودية والإسلام والمسيحية بفضل البراهين الفلسفية فقط. وكان يعتقد أن هذا التّوحيد لا بدّ أن يتمّ في صالح دينه وألّف كتابًا في هذا الموضوع وهو كتاب “الكافر والحكماء الثلاثة”، وجعل النقاش يدور فيه بين كافر وعالم يهودي وعالم مسلم وعالم مسيحي، وتناظر هؤلاء العلماء وحاول كل واحدٍ منهم أن ينتصر لدينه ويفضِّله على غيره.
واعتمد “ريمون لول” على خبرته الفلسفية وحاول أن يفتح الحوار مع العلماء المسلمين خاصة، ولهذا الغرض اتّجه إلى المغرب وأجرى هناك مناظرات حول مسألة التّثليث، ولكن هذه المحاولة باءت بالفشل لأنّ المسلمين لم يتفهّموا التثليث، بل زعموا – على حد قوله – أنّ النصارى يؤمنون بثلاثة آلهة..
“ريمون لول”.. من تونس إلى بجاية
ثم توجّه الفيلسوف إلى تونس سنة 1294م، والتقى فيها ببعض العلماء، ولكنه لم يذكر لنا أسماءهم، وصرّح لهم بأنه مُستعِدٌّ لاعتناق الإسلام إذا استطاعوا إقناعه بالحجّة القاطعة. موضوع المناظرة هي الصّفات الإلهية.. ولم يحصل على أيّ نتيجة، فواجه معارضة شديدة في مشروعه التبشيري، وطالب أحد علماء تونس السلطة بقتله، غير أن “المستنصر بالله” (1284م – 1295 م) لم يوافق على ذلك واكتفى بوضع “ريمون لول” في السجن مدةً ثم أمر بإبعاده. وعند خروجه من السجن، تعرّض الفيلسوف المُبشِّر إلى الشَّتم والضرب من طرف الجمهور في الشارع، فأسرع الى مغادرة تونس على متن مركبٍ كان مُتَّجها نحو “جنوة”.
لم ييأس “ريمون لول” بعد فشله الذريع هذا وعقد العزم على محاولات أخرى للتبشير بدينه لدى المسلمين. فأبحر من جزيرة “مايوركا” قاصدًا مدينة “بجاية” في ربيع سنة 1307م، رغم تقدُّمه في السنّ إذ بلغ 74 عاما. ولعله كان قد زارها سابقا غير أنه لم يشر إلى ذلك فيما لدينا من آثاره. وكان الغرض من رحلته هذه لا يختلف عن غرض رحلته إلى تونس، ولم يتّعظ بما حدَث له ولم يحترم شعور الناس، فتوجّه إلى ساحة في “بجاية”، وتحدّى الجمهور بكيفيّةٍ مُدهشة قائلا بالعربية: “إنّ شريعة المسلمين غير صحيحة، وإنّي مستعدٌّ لأبرهن على ذلك”، كأنّه يريد المبارزة. فكان ردّ الفعل عنيفا، وشتم الجمهورُ هذا الرجل الغريب ونزل عليه بالضرب..
وسمع مفتي المدينة بالحادث، فأمر بعض الأعوان بإنقاذه والإتيان به. وعندما دخل “ريمون”، تعجّب المفتي من تصرّفه، وقال: “ما هذا الحمق الذي أدّى بك إلى التهجُّم على شريعة محمد الحقّة؟ ألا تعلم أنّ من يتجرّأ على مثل هذا يتعرّض للقتل؟”، فأجاب “ريمون” بأنه لا يخشى الخطر في سبيل المسيح. وسأله المفتي: “إذا كنت تعتقد أن شريعة المسيح هي الصحيحة، وأنّ شريعة محمد غير صحيحة، فبيّن لنا ذلك بالأدلة القاطعة”.
فارتضى “ريمون” ذلك واقترح: “لنتفق على نقطة مشتركة (الرحمة الإلهية)، ثم سأقدّم لك الدليل القاطع”. وبعدما وافق المفتي على هذا الاقتراح، تناول “ريمون” الكلمة وحاول أن يبرهن على صحة التثليث، ولكن المفتي لم يرض بهذا الموضوع؟ فرفض المناقشة وأمر بوضع ريمون في السجن؟ وفي طريقه إلى السجن، تعرَّض الفيلسوف إلى شتم العامة التي أهانته. وبقي هناك ستة أشهر إلى أن أمر الملك بالإفراج عنه وطرده فورا. فارتحل “ريمون” إلى “جنوة” غير أنّ مركبه غرق قرب الساحل الإيطالي، فنجا هو وبعض المسافرين، وضاعَت كُتبه.
هكذا انتهت رحلة الفيلسوف الإسباني إلى “بجاية”، ولم يُقتل فيها كما ردَّد ذلك بعض المُؤلِّفين، وما هذا الزعم إلا أسطورة مُختلَقَة. والدليل على عدم وقوع القتل أن “ريمون” عاش تسع سنوات بعد رحلته إلى بجاية، إذ توفى سنة 1316م بجزيرة “مايوركا” ودفن هنالك.
ولم يترك لنا “ريمون لول” أيّ وصفٍ لمدينة “بجاية”، ولم يهتم بازدهارها الحضاري والثقافي، وإنّما اعتنى فقط بالتبشير الذي كان شغله الشاغل، وفشل في كل مساعيه لأنه لم يراع عقائد الناس فتحدّاهم واصطدم بهم سواء في تونس أو في بجاية. ويجدر بالباحثين أن يقارنوا بين رواية “ريمون” هذه التي اختصرناها.. وبيّن ما دوَّنه الرحّالة والمؤرّخون المسلمون في هذا الموضوع ذاته ليمكن التعرّف على مدى صحة هذه الرواية لأننا لا نستطيع حاليا أن نعتبرها صادقة في كل ما ذهب إليه صاحبها.
إشارة..
أشار الكاتب “بوعمران الشيخ” إلى أنّ “ريمون” أطلق “على المفتي – في مدينة بجاية – اسم: الأسقف، ولم يعرِّفنا عليه من سوء الحظ”. غير أنّنا عرفها بأنّ مُفتي “بجاية” هو “عمر العربي”، وذُكر هذا في كتابٍ ألّفه “ريمون” باللغة العربية ثم ترجمه إلى اللاتينية عام 1308م، وعنوان الكتاب: “مناظرات بين رايموندو المسيحي وعمر العربي في بوجي (بجاية)”.