الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف من التقاليد الراسخة في المجتمع الجزائري منذ قرون، ونتج عنه ظهور جنسٍ أدبي يُسمّى “المولديات” لغزارة الإنتاج الشعري في مدح الرسول الكريم، خاصة خلال القرن الثامن الهجري في مدينة تلمسان. وقد سجّل المؤرّخ “يحيى بن خلدون” (تونس عام 1332م – تلمسان 1379 م) – وهو شقيق العلاّمة الشهير “عبد الرحمان بن خلدون” – في كتابه “بُغية الروّاد في ذِكر الملوك من بني عبد الواد” أن الشعراء كانوا يتبارون في إنشاد “المولديات” خلال أيام الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف.
تنبّه الدكتور “عبد المالك مرتاض” إلى القيمة التاريخية والأدبية لكتاب “بغية الروّاد” وما يشتمل عليه من إنتاج شعري في مدح الرسول الكريم، فأنجز دراسة قيّمة ركّز فيها على ” حركة الشعر المولدي في تلمسان على عهد أبي حمو الثاني”، فقال: “والذي يعود إلى كتاب (بغية الرواد) لصاحبه (يحيى بن خلدون) يقتنع بأن هذا العصر الشعري كان عصر مولديات، ولم يكُ قِيل الشعرِ في ذلك العهد وَقفا على الشعراء من عرض الناس، أو الشعراء الشعبيين، وإنما كان الملوك والوزراء والأمراء والأطباء وعليّة القوم من رجالات الدولة يعالجونه فيستقيم لهم، ويطول نفَس قصائدهم حتى تبلغ المائة بيت أو أكثر”.
وتناول “مرتاض” خصائص هذا الشعر وكل ما يتعلّق بعادات وطقوس الاحتفال بمناسبة إلقائه، فقال: “فكان الناس يقضون ليلة المولد كلها ساهرين ذاكرين الله، مُصلّين على نبيّه، وكانت الكتاتيب القرآنية تتعطّل أربع مرات رئيسية في السنة، في عيد الفطر، وعيد النحر، وعاشوراء، وعيد المولد. وكانت عطلة المولد تدوم عشرين يوما كعطلتَي العيدين. ويدل هذا على الاحتفاء الذي كان الجزائريون يحيون به هذه الذكرى العظيمة التي ورثوا كثيرا من مظاهرها الاجتماعية والدينية والأدبية من العهد الزياني، ولا سيما عهد (أبي حمو) الذي كان يخصّها بعناية فريدة من نوعها في التاريخ”.
ثم حدّثنا الدكتور “مرتاض” عن توارث الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف عبر العصور وفي مختلف جهات الجزائر، حتى وصل إلى زمن الإمام العلاّمة “عبد الحميد بن باديس”، قال: “كما كانت المدارس العربية تقدّم مسرحيات دينية كثيرة بهذه المناسبة الكريمة، وقد اتخذ هذا الاحتفال شكلا خاصا، واكتسى صبغة فريدة في تاريخ الجزائر خلال سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة وألف للهجرة بقسنطينة، حيث ألفينا “جمعية التربية والتعليم الإسلامية” في قسنطينة تقيم حفلا يحييه النساء القسنطينيات فقط بالجامع الأخضر. وقد جاوز عددهن ألف امرأة، ولم يحضر من الرجال إلا زهاء عشرين كان لا مناص من حضورهم لتنظيم الحفل. كما حضرها الشيخ “ابن باديس” وألقى كلمة بهذه المناسبة”.
يصعب على الذين يثيرون زوابع اللغط حول الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف أن يفهموا مقاصده وأهدافه إذا كانوا ينتمون إلى مجتمعات لا يشتمل تاريخها على تراث عريق، مثل التراث الجزائري، في الاحتفال بهذه الذكرى العظيمة.. ونبيّنا الكريم صلى الله عليه وسلّم أسمى من أن تبلغ أيُّ لغةٍ مقام مدحه، غير أن التباري في مدحه على امتداد حوالي ثلاثة أسابيع متتابعة من كل عام مع ما يُصاحب ذلك من دروس واستخلاص عِبر من سيرته العطرة وسِيَر صحابته الكرام.. من الأمور التي تقوّي الروابط بين أفراد المجتمع الواحد، وترسّخ قيم الوحدة الوطنية، وتُجدّد الإيمان في القلوب، وعندما يكون السلطان ذاته من أهم الشعراء البارزين في المولديات والمشاركين في الاحتفال فإنّ ذلك يُثبّت بوصلته الدينية بحيث لا تنحرف تحت أيّ تأثير أجنبي غريب.
الدراسة التي أنجزها الدكتور “عبد المالك مرتاض” نشرها بالمجلة الجزائرية “الأصالة” في شهر نوفمبر 1975، وتعيد جريدة “الأيام نيوز” نشرها للتأكيد على أن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف هو من صميم التراث الجزائري الذي يمتد لقرون ضاربة في التاريخ، وأيضًا للتنبيه على ضرورة إحياء واستثمار الكتب التي سجّلت خصائص المجتمع الجزائري وأعلامه وعلمائه مثل كتاب “بغير الروّاد” لصاحبه “يحيى بن خلدون” شقيق العلاّمة “عبد الرحمان بن خلدون”. وفيما يلي نترك القارئ يُبحر في عالم المولديات أو القصائد المولدية ويستكشف جانبًا مزهرا من التراث الجزائري الأصيل.
مع الشاعر محمد بن يوسف التلمساني
وإذا كانت قصائد “أبي حمو” المولدية لم تكن تبلغ قمّة البيان، ولا ذروة الفن والجمال، فليس يعود ذلك إلى نضوب في شاعريته، ولكن لانشغاله عن قيل الشعر، بتدبير شؤون الدولة.
ولقد نعلم أن الإنشاء الجيد، والشعر الشاعر، لا يمكن أن يستقيما إلا لمن وقف حياته كلها عليهما. ولذلك نجد القصائد المولدية الأخرى تبلغ مستوى فنيًّا رفيعا، وتفوق قصائد “أبي حمو” في كل شيء.
ومن هذه النماذج المولدية الرائعة التي كان المنشدون يتغنّون بها في ذكريات المولد بتلمسان أمام “أبي حمو”، هذه القصيدة التي قالها “محمد بن يوسف القيسي التلمساني”، والتي يقول في مطلعها:
ذكَر الحمى فتضاعفَت أشجانُه — شوقا، وضاق بسِرِّه كتمانُه
دَنِفٌ تذكَّر من عهود وداده — ما لم يكن من شأنه نسيانه
يهفو لبرق الأبرقَين تَعلُّلا — والقلب منه دائم خفقانه
ويسائل الرُّكبان عن ذاك الحمى — فتثير كامن وجده، رُكبانه
ويروم سلوان الهوى فيجيبه — إن المُحِبّ مُحرّمٌ سلوانه
فهذه القصيدة تختلف كل الاختلاف عن القصيدة التي قالها “أبو حمو”، والتي جئنا بمطلع منها، من حيث المستوى الفني الذي ارتفع وتسامى في هذه، وأسف وتواضع في تلك، حتى إن الباحث ليلحظ هذا الفرق الواضح في القصيدتين من حيث اختيار الوزن الموسيقى، أو البحر الشعري كما كان يحلو للقدماء أن يعبّروا، ومن حيث رصانة الألفاظ وجزالتها وفخامتها هنا، ثم من حيث تدفّق العواطف، وغليان المشاعر، وعمق التجربة، وصدق اللهجة، وحرارة العبارة.
فالشاعر ضاقت عليه الأرض بما رحبَت، فتضاعفت أحزانه، واشتدَّت أشجانه وتدفّق شوقه وحنانه، وضاق بسرِّه كتمانُه، فأصبح دنِفًا حرِضًا، يشكو تباريح هذا الحب الذي أصابه برسيسه فأمضَّ جسمه، وأرَّق ليله. فقد ذكر عهدا من الهوى لم يكن من اليسير عليه نسيانه، وماضيا من الزمان يستحيل عليه سلوانه، فأصبح قلب الشاعر دائم الخفقان وهو يسائل الرَّكب المُخبِّين أن كيف تركتم ذلك الحِمى العظيم والمقام الكريم الذي يضم قبر النبي محمد عليه السلام، فيثير الركب بأجوبتهم في نفسه ما كان كامنًا، وينبشون بأحاديثهم ما كان ساكنًا، فيتضاعف الوجد، وتشتد الصَّبابة، ولا يجد سبيلا إلى إطفائهما، لأن أهل الهوى مُحرَّمٌ عليهم الصَّحي من سُكرة الغرام، إنه لعذابٌ ما أمسى فيه الشاعر من هذا الحب النبوي العظيم، فلا هذا الحب يعزف عنه، ولا هو يوجِّه وجهته إلى غير شطره، فيثوب إليه شيء من هدوء النفس وراحة الجسم، واستقرار العاطفة، فقد كان الشاعر يزيد في أشواقه هذا النسيم العليل الندى الطري، الذي كان يهبّ عليه من نحو “طيبة” إذا أصبح وإذا أمسى، فيحرّك منه ما يحرّك:
ويشوقُه مَرُّ النسيم إذا سرى — من نحو طيبة طيّبًا أردانه
وهنا يعزف الشاعر عن الغيبة إلى التكلم، ويُؤثر التَّصريح على التلميح، فبعد أن كان يحكي عن غائبٍ، أصبح يتحدث عن نفسه صراحة، فنراه يتساءل في عنفٍ وألم وشوق وحنان وحب جميعا:
أَتُرى أَرى وادي العقيق ورامة — ويلوح لي رند الحجاز وبانُه؟
وأعاين الحرم الشريف وينجلي — عن قلب صبٍّ مدنفٍ، أشجانُه
فهل الشاعر في زورة كريمة يشاهد فيها وادي العقيق، وما يجاور ذلك العقيق من المقام السعيد، كما يشاهد الحجاز وبانه، وعِراره وأشجاره، فيطفئ غلّته من رسيس هذا الحب النبوي الذي عصف بقلبه فأصبح مُدنفا حرِضا.
وتمضى هذه القصيدة المولديّة رائعة في تصويرها، رقيقة في ألفاظها، دافئة في تعابيرها، كأنها قطعٌ من الشَّهد، أو قطرات من النّدى العذب.
شعراء جزائريون من القرن الثامن الهجري
ويدلُّ هذا على أن مستوى الشعر كان في الجزائر، خلال القرن الثامن الهجري مستوى رفيعا، وأن دولة الأدب كانت في “تلمسان” بخير كثير. ولا عجب في ذلك، فقد عرفت “تلمسان” نفرا من الأدباء والمفكرين خلال هذا القرن، كانوا زينةً للفكر الجزائري، وتاجًا للغرب الإسلامي كله. فقد عرفت في هذا القرن أبا عبد الله بن أحمد بن مرزوق، وأبا عبد الله محمد بن النجار، وأبا عبد الله محمد بن عبد الله ابن عبد النور الندرومي، ومحمد بن إبراهيم الآبلي، وأبا عبد الله محمد ابن أحمد الشريف الحسني، وأبا عبد الله بن خميس، ويحيى بن خلدون صاحب كتاب “بغية الرواد في ذكر الملوك من بني عبد الواد”، وأخاه العلامة الشهير “عبد الرحمن بن خلدون” الذي ما كتب “المقدمة” إلا بعد تأمّلات وقعت له وهو في “العباد” في “تلمسان”، التي غادرها شبه مُغاضب لـ “أبي حمو” الذي أراد أن يستعمله فأبى لما كان يؤثر من التخلّي عن السياسة والانقطاع للعلم، فاضطر إلى التوجه إلى قلعة “ابن سلامة”، حيث انقطع هنالك أربع سنوات قضاها في كتابة مقدمته التي تُعتبر فلتة رائعة من فلسفة الفكر العربي في عمقه وأصالته، ورقيّه وكماله.
العلاّمة “ابن خلدون” شاعرا
وقد وجدنا “ابن خلدون” نفسه يقرض قصائد كثيرة حول المولد النبوي منها قصيدة بائِيَّة “ليلة المولد النبوي من سنة اثنتين وستين وسبعمائة”، يقول في مطلعها:
أسرفنَ في هجري وفي تعذيبي — وأطلن موقف عبرتي ونحيبي
وأبين يوم البين وقفة ساعة — لوداع مشغوف الفؤاد كتيب
لله عهد الظاعنين وغادروا — قلبي رهين صبابة ووجيب
غربت ركائبهم ودمعى سافح — فشرقت بعدهم بماء غروب
يا ناقعا بالعتب غلة شوقهم — رحماك في عذلي وفي تأنيبي!
وهذه القطعة التي أثبتناها في هذا المقام تدلّ على شاعرية ممتازة، ولا التفات إلى ما ذهب إليه “ابن خلدون” في نفسه، فقد زعم بأنه حين أخذ نفسه بالشعر انثالت عليه “منه بحور، توسّطت بين الإجادة والقصور”، فهو تواضع العلماء، كما يقال. بيد أن “ابن خلدون” لم يُعرف بالشعر، وإنما عُرف بالنثر، ولم يُعرف بخصب الخيال، وإنما عُرف بعمق التفكير وعبقريته، فلم يلتفت الناس إلى شعره كثيرا، لأن نثره طغى على هذا الشعر القليل الذي لا نكاد نجد منه إلا نُتفا ذكرها المؤلف حين تحدّث عن نفسه.
وإنما جئنا بهذه القطعة لـ “ابن خلدون”، لأنه عايش السلطان “أبا حمو”، وقطن “تلمسان” زمنا، وعايش أهلها وخالطهم، ولا بد أن تكون هذه المدينة قد تركت آثارها في تفكير هذا العلّامة الكبير. ثم جئنا بها لنستدل على أن قرض القصائد المولدية كان ظاهرة شائعة في ذلك العصر بحيث كانت ليالي المولد النبوي تمرّ ساهرة سعيدة صاخبة بالأشعار والمدائح والأذكار، ومُدارسة السيرة النبوية، وقد انتقلت هذه الظاهرة من المغرب العربي إلى الأندلس كما يصرح بذلك “ابن خلدون”.
الشعراء يتبارون في مدح النبي الكريم
وقد عدنا إلى الجزء الثاني من كتاب “بغية الروّاد..” فبدا لنا أن العناية بالمولديات كانت عناية فائقة، وأن اهتمام الشعراء كان مصبوبًا على هذه الليالي بكثرة ظاهرة في “تلمسان” بوجه خاص، وفي عصر “أبي حمو الثاني” بوجه أخصّ، حيث أجمعت المصادر التاريخية على أنه كان شديد الاحتفاء بذكريات المولد، وكان يحلو له أن يعمل قصائد ليتغنّى بها المُنشدون وهو حاضر. كما كان يحبّ إلقاء هذه القصائد بنفسه. فكان الشعراء يتبارون في إبداء ما لديهم من قدرة على قرض الشعر وزخرف القول حول هذه الليلة الكريمة التي كان القول ينصبّ فيها على مدح النبي الكريم وإظهار الشوق إلى زيارة قبره والتبرّك بتلك البقاع المقدسة، والأماكن المُعظّمة المُشرّفة. ولما جئنا نبحث في أمر هذه المولديات وقعنا في كتاب “البغية” وحده، على ما لا يقلّ عن خمس وعشرين قصيدة، وكل قصيدة بلغت من الطول مبلغا كبيرا.