من أوراق الدكتور “عبد المالك مرتاض”.. تلمسان عاصمة الشّعر “المولدي” في مدح الرسول الكريم (الجزء الرابع)

الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف من التقاليد الراسخة في المجتمع الجزائري منذ قرون، ونتج عنه ظهور جنسٍ أدبي يُسمّى “المولديات” لغزارة الإنتاج الشعري في مدح الرسول الكريم، خاصة خلال القرن الثامن الهجري في مدينة تلمسان. وقد سجّل المؤرّخ “يحيى بن خلدون” (تونس عام 1332م – تلمسان 1379 م) – وهو شقيق العلاّمة الشهير “عبد الرحمان بن خلدون” – في كتابه “بُغية الروّاد في ذِكر الملوك من بني عبد الواد” أن الشعراء كانوا يتبارون في إنشاد “المولديات” خلال أيام الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف.

تنبّه الدكتور “عبد المالك مرتاض” إلى القيمة التاريخية والأدبية لكتاب “بغية الروّاد” وما يشتمل عليه من إنتاج شعري في مدح الرسول الكريم، فأنجز دراسة قيّمة ركّز فيها على ” حركة الشعر المولدي في تلمسان على عهد أبي حمو الثاني”، فقال: “والذي يعود إلى كتاب (بغية الرواد) لصاحبه (يحيى بن خلدون) يقتنع بأن هذا العصر الشعري كان عصر مولديات، ولم يكُ قِيل الشعرِ في ذلك العهد وَقفا على الشعراء من عرض الناس، أو الشعراء الشعبيين، وإنما كان الملوك والوزراء والأمراء والأطباء وعليّة القوم من رجالات الدولة يعالجونه فيستقيم لهم، ويطول نفَس قصائدهم حتى تبلغ المائة بيت أو أكثر”.

وتناول “مرتاض” خصائص هذا الشعر وكل ما يتعلّق بعادات وطقوس الاحتفال بمناسبة إلقائه، فقال: “فكان الناس يقضون ليلة المولد كلها ساهرين ذاكرين الله، مُصلّين على نبيّه، وكانت الكتاتيب القرآنية تتعطّل أربع مرات رئيسية في السنة، في عيد الفطر، وعيد النحر، وعاشوراء، وعيد المولد. وكانت عطلة المولد تدوم عشرين يوما كعطلتَي العيدين. ويدل هذا على الاحتفاء الذي كان الجزائريون يحيون به هذه الذكرى العظيمة التي ورثوا كثيرا من مظاهرها الاجتماعية والدينية والأدبية من العهد الزياني، ولا سيما عهد (أبي حمو) الذي كان يخصّها بعناية فريدة من نوعها في التاريخ”.

ثم حدّثنا الدكتور “مرتاض” عن توارث الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف عبر العصور وفي مختلف جهات الجزائر، حتى وصل إلى زمن الإمام العلاّمة “عبد الحميد بن باديس”، قال: “كما كانت المدارس العربية تقدّم مسرحيات دينية كثيرة بهذه المناسبة الكريمة، وقد اتخذ هذا الاحتفال شكلا خاصا، واكتسى صبغة فريدة في تاريخ الجزائر خلال سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة وألف للهجرة بقسنطينة، حيث ألفينا “جمعية التربية والتعليم الإسلامية” في قسنطينة تقيم حفلا يحييه النساء القسنطينيات فقط بالجامع الأخضر. وقد جاوز عددهن ألف امرأة، ولم يحضر من الرجال إلا زهاء عشرين كان لا مناص من حضورهم لتنظيم الحفل. كما حضرها الشيخ “ابن باديس” وألقى كلمة بهذه المناسبة”.

يصعب على الذين يثيرون زوابع اللغط حول الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف أن يفهموا مقاصده وأهدافه إذا كانوا ينتمون إلى مجتمعات لا يشتمل تاريخها على تراث عريق، مثل التراث الجزائري، في الاحتفال بهذه الذكرى العظيمة.. ونبيّنا الكريم صلى الله عليه وسلّم أسمى من أن تبلغ أيُّ لغةٍ مقام مدحه، غير أن التباري في مدحه على امتداد حوالي ثلاثة أسابيع متتابعة من كل عام مع ما يُصاحب ذلك من دروس واستخلاص عِبر من سيرته العطرة وسِيَر صحابته الكرام.. من الأمور التي تقوّي الروابط بين أفراد المجتمع الواحد، وترسّخ قيم الوحدة الوطنية، وتُجدّد الإيمان في القلوب، وعندما يكون السلطان ذاته من أهم الشعراء البارزين في المولديات والمشاركين في الاحتفال فإنّ ذلك يُثبّت بوصلته الدينية بحيث لا تنحرف تحت أيّ تأثير أجنبي غريب.

الدراسة التي أنجزها الدكتور “عبد المالك مرتاض” نشرها بالمجلة الجزائرية “الأصالة” في شهر نوفمبر 1975، وتعيد جريدة “الأيام نيوز” نشرها للتأكيد على أن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف هو من صميم التراث الجزائري الذي يمتد لقرون ضاربة في التاريخ، وأيضًا للتنبيه على ضرورة إحياء واستثمار الكتب التي سجّلت خصائص المجتمع الجزائري وأعلامه وعلمائه مثل كتاب “بغير الروّاد” لصاحبه “يحيى بن خلدون” شقيق العلاّمة “عبد الرحمان بن خلدون”. وفيما يلي نترك القارئ يُبحر في عالم المولديات أو القصائد المولدية ويستكشف جانبًا مزهرا من التراث الجزائري الأصيل.

اصطناع البديع في القصيدة المولدية

هذه الخاصية لازمة من لوازم القصيدة المولدية خلال القرن الثامن الهجري، بل هي خاصية عامة تصدق على الأدب العربي خلال هذا القرن، شعره ونثره. وهي امتداد لما كان أصاب الأدب العربي من قيود أثقلته حتى وقَّفته عن المسير، وعَقلته حتى لم يعد قادرا على التطوّر والتبنّك في حدائق من الخلق الخلّاق، والخيال المبدع.

وبالرغم من أن ألوان البديع كانت مبتدأ ظهورها في الأدب العربي مقبولة بل لطيفة خفيفة، ترشّ الشعر والنثر بقطرات من العطر، فتجعلهما يضوعان بألوان من الشّذى، فإن هذا البديع لم يلبث أن أمسى قيدا ثقيلا رتيبا لا يقدّم إلى الصور الأدبية – شعرية كانت أم نثرية – غناءً يُذكر.

وقد عُدنا إلى المولديات التي قيلت في عهد “أبي حمو” وما قار به فألفيناها تُعنى بظاهرتَي الجِناس والطِّباق بوجه خاص. ويبدو ذلك جليًّا في معظم النماذج الشعرية التي استشهدنا بها في بعض هذا البحث. فـ “محمد بن يوسف القيسي” نجده يطابق في إحدى مولدياته الرائعة بين الذِّكر والنسيان، في قوله:

دَنِفٌ تذكَّر من عهود وداده — ما لم يكن مِن شأنه نسيانه

وبين المقدم والأخير في قوله:

هو خاتم الرُّسل المكين مكانه — وهو المقدم والأخير زمانه

وبين السماء والأرض، والإنس والجان، في قوله:

لولاه ما وجد الوجود سماؤه — أو أرضه أو إنسه أو جانه

ولم تخل مولديات “أبي حمو” من بعض الطبّاق حيث نجده يطابق بين: يموت ويحيا: الميت والحي، في قوله:

وقل ذلك المُضنّى المعذّب بالهوى — يموت ويحيا فارثِ للميت الحي

وبين القرب والنأي، أو الشوق الذي هو مطية لطلب القُرب والنأي، في قوله:

فربِّي أرجو أن يمنّ بقربه قريبا — وشوقي لا يُقابل بالنأي

ونجد “ابن خلدون” يطابق أيضا في كثير من أبيات مولدياته، كقوله:

يا سائق الأظعان يعتسف الفلا — ويواصل الأسآد بالتّأويب

تتجاذب النّفحات فضل ردائه — في ملتقاها من صَبا وجنوب

إن هام من ظمإ الصّبابة صحبه — نهلوا بمورد دمعه المسكوب

ففي هذه الأبيات مطابقة واضحة بين الأسآد والتّأويب، والصَّبا والجنوب، والظمأ والمورد، أو الظمأ والنّهل.

بيد أن ظاهرة الطِّباق لم تَشع في هذه المولديات شيوعا يجعلها تبلغ مبلغ وجودها في أشعار “أبي تمام” مثلا، وإنما الظاهرة البديعيّة التي استأثرت باهتمام أصحاب المولديات خلال تلك الحقبة من تاريخ أدبنا، هي الجناس الذي طغى على هذه الأشعار بصورة واضحة، حتى أنك لا تكاد تقرأ البيت الواحد دون أن تجده خاليا منه، خذ لذلك مثلا مولدية من مولديات “ابن خلدون”، تجده يُطعّم أبياته بالجناس تطعيمًا مُستمرًا، كما يلاحظ الباحث ذلك، في قوله:

وأبين يوم البين وقفة ساعة — لوداعٍ مشفوف الفؤاد كئيب

غربت ركائبهم ودمعي سافح — فشرقت بعدهم بماء غروب

يا ناقعا بالعتب غلة شوقهم — رحماك في عدلي وفي تأنيبي

تبلى معاهدها وإن عهودها — ليجدها وصفي، وحسن نسيبي

فقد جنّس الشاعر بين “أبين” و”يوم البين”، كما جنّس بين “غربت” و”شرقت”، بالرغم من أن المعنى يأبى ذلك، لأن المراد باللفظ هنا الشرق على وزن الفرح – لا الشروق: شروق الشمس.

كما حاول الشاعر أن يجانس بين العتب والتأنيب، لأن مَعنَيَيهما متقاربان. وما حمل الشاعر على العدول عن ردّ العجز على الصدر ردًّا تاما إلا ضرورة القافية في قوله:

يا ناقعا بالعتب غلّة شوقهم — رحماك في عذلي وفي تأنيبي

لأن القافية أرادت أن يكون لفظ الروي هو “تأنيبي”، بالرغم من أن الشاعر كان يطلب “العتب”.

ونجد “أبا حمو” يلحّ في طلب الجناس ليُحلّي به شعره، وكأنه كان يؤمن بقول “الحريري” على لسان بطل مقاماته: “إني مولع من أنواع البلاغة بالتجنيس، وأراه لها كالرئيس”. خذ لذلك مثلا قصيدته اليائِيّة، تجد معظم أبياتها مشتملة على شيء منه:

قِفا بين أرجاء القباب وبالحي — وحيّ ديارا للحبيب بها، حيّ

وعرّج على نجد وسلع ورامة — وسائل، فدتك النفس، في الحي عن مي

تحلّيتُ في أهل الهوى بهواهم – فما لي سوى زي المحبة من زي

فيا أهل نجد أنجدوني على الهوى — فإني في بحر من الشوق لجي

وبالرغم من أن هذه الأبيات التي استشهدنا بها في هذا المقام، لم نأخذها مُرتّبة حسب ورودها في القصيدة، فإننا نستطيع أن نثبت بأن كثيرا من أبياتها اشتملت على ألوان من الجناس مختلفة، وهذا يؤكد لنا أن ذلك لم يكن يرد عفوا، ولا يفيض على القريحة اتفاقا، وإنما كان الشاعر يعتسفه اعتسافا، ويكرهه إكراها. أما “محمد بن يوسف القيسي” فقد وجدناه مؤثرا للجناس، حفِيًّا به، باحثا عنه، كقوله في مولدِيَّتِه التي التزم فيها لزوم ما لا يلزم:

يهفو لبرق الأبرقين تعلُّلا — والقلب منه دائم خفقانه

ويسائل الركبان عن ذاك الحِمى — فتثير كامن وجده ركبانه

ويشوقه مرّ النسيم إذا سرى — من نحو طيبة طيبا أردانه

أترى أرى وادي العقيق ورامة — ويلوح لي رند الحجاز وبانه

هو خاتم الرّسل المكين مكانه — وهو المقدم والأخير زمانه

فجميع ما في الكون كان لأجله — شرف الوجود بان فيه كيانه

عجز النظَّام عن الوفاء بمدحه — إذ لا يصحّ لناظم إمكانه

فأعد على المشتاق ذِكر محمد — یزدد به إيمانه وأمانه

إلى أن يقول رابطًا مدح النبي صلى الله عليه وسلم بمدح “موسى بن يوسف الثاني”:

موسى بن يوسف لا نظير لمجده — مجد يزين حسنه إحسانه

من آل زيّان الألى زانـوا العلى — فالملك إرثهم وهُم تيجانه

لا زال مولانا أبو حمو حِمـى — للمُلك، دام مُؤيّدًا سلطانه

فبإلقاء نظرة على هذه الأبيات نجدها مُشتملة على ألوان كثيرة من الجناس. ولعل وضوحها يشفع لنا في عدم التدليل عليها، والإسهاب في ذِكرها. فهي ظاهرة في كل بيت. خذ لذلك مثلا الأبيات الثلاثة الأخيرة، تجد الشاعر جانس بين الحسن والإحسان، وزيّان وزانوا، وحمو وحمى.

ولعل في هذه الأمثلة التي جئنا بها ما يدفعنا إلى أن نقرر بأن ظاهرة البديع كانت شائعة في القصائد المولديات ذائعة، وأن الطِّباق كان مما يطلبه الشعراء فلا يظفرون به إلّا لِمامًا لصعوبة المقابلة بين الأضداد في كل حال. على حين أن الجناس

كان يُيسّر عليهم أن يكثروا منه في أشعارهم لغنى اللغة العربية بالأجراس الموسيقية، ولكثرة الألفاظ المتشابهة الحروف، المتقاربة المخارج. ولم يفتهم أثناء ذلك اصطناع ألوان أخرى من البديع كالمقابلة، وردّ العجز على الصدر كقول “محمد بن يوسف القيسي”:

ويسائل الركبان عن ذاك الحِمى — فتثير كامن وجده، ركبانه

ويروم سلوان الهوى فيجيبه — أن المُحبّ مُحرّمٌ سلوانه

عنوان طرس الأنبياء ختامه — والطرس يكمل حسنه عنوانه

فقد ردّ الشاعر هنا أعجاز الأبيات على صدورها، أي أنه ربط بين صدور المصاريع الأولى، وأعجازها، وهذا من البديع الخالص.

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
سوناطراك تُعزّز قدرات مستشفى الحروق الكبرى بمعدات حديثة إجراءات مشددة لدخول مكة هذا الموسم..تعرف عليها وزير الداخلية يأمر باستكمال مشاريع الحماية المدنية قبل موسم الاصطياف مشروع التصفية الكبرى في غزة.. هل يسكت العالم على نكبة القرن؟ وكالة "عدل" تُفنّد اتهامات والي وهران محادثات في جدة حول أوكرانيا.. "دبلوماسية الفنادق" تفرض إيقاعها آفاق جديدة للتعاون الجزائري الإثيوبي في قطاعات حيوية نداء أممي لرفع الحصار عن غزة وإدخال المساعدات فورًا ديوان الحج والعمرة يعلن فتح بوابة برمجة رحلات الحج بالتعاون مع اليونسكو.. توثيق رقمي ثلاثي الأبعاد لموقع تيمقاد الأثري نهاية مسلسل الاختراق.. "إسرائيل" تزحف داخل المغرب الحكومة الفرنسية تعتبر إشادة تبون بماكرون خطوة نحو تجاوز الخلافات وزير الثقافة: "السينما الجزائرية تشهد ديناميكية حقيقية" بينما الأمم المتحدة تتفرج.. الاحتلال المغربي يستمر في قمع الصحراويين تحذيرات جوية.. عواصف رعدية وأمطار غزيرة بهذه الولايات في ظل تحديات إقليمية ودولية.. قرارات رئاسية حاسمة العلاقات الجزائرية الفرنسية.. الرئيس تبون يضع النقاط ويحدّد المسار الجوية الجزائرية تعلن عن تخفيضات استثنائية للجالية الوطنية بالخارج بالتنسيق مع وزارة الدفاع.. إجراءات استباقية لمواجهة أسراب الجراد رئيس الجمهورية يوافق على إدماج أكثر من 82 ألف أستاذ متعاقد في قطاع التعليم