من أوراق الدكتور “عبد المالك مرتاض”.. تلمسان عاصمة الشّعر “المولدي” في مدح الرسول الكريم (الجزء الخامس والأخير)

الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف من التقاليد الراسخة في المجتمع الجزائري منذ قرون، ونتج عنه ظهور جنسٍ أدبي يُسمّى “المولديات” لغزارة الإنتاج الشعري في مدح الرسول الكريم، خاصة خلال القرن الثامن الهجري في مدينة تلمسان. وقد سجّل المؤرّخ “يحيى بن خلدون” (تونس عام 1332م – تلمسان 1379 م) – وهو شقيق العلاّمة الشهير “عبد الرحمان بن خلدون” – في كتابه “بُغية الروّاد في ذِكر الملوك من بني عبد الواد” أن الشعراء كانوا يتبارون في إنشاد “المولديات” خلال أيام الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف.

تنبّه الدكتور “عبد المالك مرتاض” إلى القيمة التاريخية والأدبية لكتاب “بغية الروّاد” وما يشتمل عليه من إنتاج شعري في مدح الرسول الكريم، فأنجز دراسة قيّمة ركّز فيها على ” حركة الشعر المولدي في تلمسان على عهد أبي حمو الثاني”، فقال: “والذي يعود إلى كتاب (بغية الرواد) لصاحبه (يحيى بن خلدون) يقتنع بأن هذا العصر الشعري كان عصر مولديات، ولم يكُ قِيل الشعرِ في ذلك العهد وَقفا على الشعراء من عرض الناس، أو الشعراء الشعبيين، وإنما كان الملوك والوزراء والأمراء والأطباء وعليّة القوم من رجالات الدولة يعالجونه فيستقيم لهم، ويطول نفَس قصائدهم حتى تبلغ المائة بيت أو أكثر”.

وتناول “مرتاض” خصائص هذا الشعر وكل ما يتعلّق بعادات وطقوس الاحتفال بمناسبة إلقائه، فقال: “فكان الناس يقضون ليلة المولد كلها ساهرين ذاكرين الله، مُصلّين على نبيّه، وكانت الكتاتيب القرآنية تتعطّل أربع مرات رئيسية في السنة، في عيد الفطر، وعيد النحر، وعاشوراء، وعيد المولد. وكانت عطلة المولد تدوم عشرين يوما كعطلتَي العيدين. ويدل هذا على الاحتفاء الذي كان الجزائريون يحيون به هذه الذكرى العظيمة التي ورثوا كثيرا من مظاهرها الاجتماعية والدينية والأدبية من العهد الزياني، ولا سيما عهد (أبي حمو) الذي كان يخصّها بعناية فريدة من نوعها في التاريخ”.

ثم حدّثنا الدكتور “مرتاض” عن توارث الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف عبر العصور وفي مختلف جهات الجزائر، حتى وصل إلى زمن الإمام العلاّمة “عبد الحميد بن باديس”، قال: “كما كانت المدارس العربية تقدّم مسرحيات دينية كثيرة بهذه المناسبة الكريمة، وقد اتخذ هذا الاحتفال شكلا خاصا، واكتسى صبغة فريدة في تاريخ الجزائر خلال سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة وألف للهجرة بقسنطينة، حيث ألفينا “جمعية التربية والتعليم الإسلامية” في قسنطينة تقيم حفلا يحييه النساء القسنطينيات فقط بالجامع الأخضر. وقد جاوز عددهن ألف امرأة، ولم يحضر من الرجال إلا زهاء عشرين كان لا مناص من حضورهم لتنظيم الحفل. كما حضرها الشيخ “ابن باديس” وألقى كلمة بهذه المناسبة”.

يصعب على الذين يثيرون زوابع اللغط حول الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف أن يفهموا مقاصده وأهدافه إذا كانوا ينتمون إلى مجتمعات لا يشتمل تاريخها على تراث عريق، مثل التراث الجزائري، في الاحتفال بهذه الذكرى العظيمة.. ونبيّنا الكريم صلى الله عليه وسلّم أسمى من أن تبلغ أيُّ لغةٍ مقام مدحه، غير أن التباري في مدحه على امتداد حوالي ثلاثة أسابيع متتابعة من كل عام مع ما يُصاحب ذلك من دروس واستخلاص عِبر من سيرته العطرة وسِيَر صحابته الكرام.. من الأمور التي تقوّي الروابط بين أفراد المجتمع الواحد، وترسّخ قيم الوحدة الوطنية، وتُجدّد الإيمان في القلوب، وعندما يكون السلطان ذاته من أهم الشعراء البارزين في المولديات والمشاركين في الاحتفال فإنّ ذلك يُثبّت بوصلته الدينية بحيث لا تنحرف تحت أيّ تأثير أجنبي غريب.

الدراسة التي أنجزها الدكتور “عبد المالك مرتاض” نشرها بالمجلة الجزائرية “الأصالة” في شهر نوفمبر 1975، وتعيد جريدة “الأيام نيوز” نشرها للتأكيد على أن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف هو من صميم التراث الجزائري الذي يمتد لقرون ضاربة في التاريخ، وأيضًا للتنبيه على ضرورة إحياء واستثمار الكتب التي سجّلت خصائص المجتمع الجزائري وأعلامه وعلمائه مثل كتاب “بغير الروّاد” لصاحبه “يحيى بن خلدون” شقيق العلاّمة “عبد الرحمان بن خلدون”. وفيما يلي نترك القارئ يُبحر في عالم المولديات أو القصائد المولدية ويستكشف جانبًا مزهرا من التراث الجزائري الأصيل.

جمال الصياغة الشعرية

تدلّ جزالة اللفظ في الكلام، من حيث هو، على التمكّن من مفردات اللغة، والتضلّع في ألفاظها. وتدلّ العناية بانتقاء الألفاظ واختيارها على جمال الذوق ورقّته ولطافته وسلامته. والشعر خاصة إذا جزَلَت ألفاظه، وفحَلَت معانيه، ورَقّت عباراته، كان آية في الجمال.

وقد عدنا إلى طائفة من هذه الأشعار التي قيلت على عهد “أبي حمو” في “تلمسان”، وما يتّصل بها من مدن المغرب الإسلامي، فوجدناها مشتملة على ما رَقّ من الألفاظ وجزَل من المفردات.

خذ لذلك مثلا أبياتا لـ “ابن خلدون” افتتح بها قصيدة مولدية:

أسرفن في هجري وفي تعذيبي — وأطلن موقف عبرتي ونحيبي

لله عهد الظاعنين وغادروا — قلبي رهين صبابة ووجيب

غربت ركائبهم ودمعي سافح — فشرقت بعدهم بماء غروب

يا ناقعا بالعتب غلة شوقهم — رحماك في عذلي وفي تأنيبي

ما هاجني طرب ولا اعتاد الجوى — لولا تذكُّر منزل وحبيب

فهذه الألفاظ التي اصطنعها “ابن خلدون” في هذه القصيدة بلغت في الرقة مبلغا كبيرا. إنها تذكّرنا ببعض الألفاظ التي كانت تُستخدم لدى كبار الشعراء الغزليين في القرن الأول الهجري، حيث ازدهر هذا الفن وبلغ أقصى غايته في الأدب العربي على أيدي: العرجي، ابن أبي ربيعة، جميل، كُثيِّر، وبعض هؤلاء الذين كان يقال لهم المجانين.

فالهجر والتعذيب، والعَبرة والنحيب، والصَّبابة والوجيب، والدمع السافح، والماء الغَروب، ونقع غلّة الشوق بالعتب، وطلب الرُّحمى في العذل والتأنيب، والجوى والمنزل، والحبيب.. من الألفاظ الرقيقة التي ما وقعَت في شعرٍ إلّا جمَّلت صياغته، وحسَّنت ديباجته، وجعلته كالماء الرقراق الذي يتفجّر من ينبوع صخري، أو كالشذى العابق الذي يضوع من الزهر الناضر، أو الورد الفاخر.

ولدى الوقوف على قصيدة “محمد بن يوسف القيسي” وقفة تأمّل، يتبيّن للباحث أن الشاعر كان ينتقي ألفاظه، وكان يلتمّس الرقّة المُذابة في هذا الانتقاء:

ذكر الحِمى فتضاعفت أشجانُه — شوقا وضاق بسرِّه كِتمانُه

دَنِفٌ تذكَّر من عهود وداده — ما لم يكن من شأنه نسيانه

يهفو لبرق الأبرقين تعلُّلا — والقلب منه دائمٌ خفقانُه

ويروم سلوان الهوى فيجيبه — أنّ المُحِبَّ مُحرّمٌ سلوانُه

ويشوقه مرّ النسيم إذا سرى — من نحو طِيبة طيّبًا أردانُه

فالحِمى، والأشجان، والشوق، والسر، وتذكّر العهود، والوداد، والنسيان، والبرق، والتعلّل، والقلب، وديمومة خفقانه، وسلوان الهوى، ومرّ النسيم حين يسرى، والأردان… ألفاظ تُعتبر في حدِّ ذاتها شعرًا قائما بنفسه قبل أن تُركّب، لأنّ كل لفظ منها له أبعاد من المعاني الرقيقة، وظلال من المدلولات الأنيقة التي تطرب وتعجب، وتثير في النفس ألوانا من المعاني والذكريات.

ونلاحظ أن شعراء هذه الفترة كانوا يميلون أيضا إلى الجزالة والفخامة، وهي ظاهرة فنية لازمت الشعر العربي في المغرب العربي زمنا طويلا من لدن “ابن زيدون”، و”ابن هانئ”، إلى “ابن خميس”، و”ابن حمديس”، إلى الشعراء الآخرين الذين لم يبلغوا شهرة هؤلاء، ولكن كانت لهم مشاركة كبيرة في إخصاب الحركة الشعرية في المغرب الإسلامي طوال عهود الازدهار الأدبي فيه. ويمتد هذا الازدهار، في رأينا، إلى أواخر القرن الثامن للهجرة.

ولو تقصَّينا باقي الأشعار المولدية، وغير المولدية التي قيلت على عهد “أبي حمو” وما قاربه من عهود، لوجدناها لا تختلف اختلافا كبيرا في هذه الخاصية الفنية، لأن الشعراء كانوا حِراصا على أن يكون شعرهم ذا ديباجية ورُواء.

والذي يلاحظ أثناء ذلك أن معظم المعاني الشعرية نجدها مُكرّرة معروفة، أو مبتذلة متداولة منذ القِدم، لأن دولة الشعر العربي كان الهدم قد بدأ يدبّ إليها ليقوّض أركانها، ويهدم بنيانها.

وقد بدا لنا خلال هذه الرحلة الجميلة التي قمنا بها بين رياض القصائد المولدية، أنها كانت طويلة النفس. فما من قصيدة رسمية كانت تُقال إلا ونجد أبياتها تُجاوز الأربعين، وربما الخمسين أو الستين بيتا. أما القصائد التي كانت تقال في المديح أو الاستصراخ فإنها كانت تبلغ المائة بيت، وتُجاوز هذا العدد في كثير من الأطوار كقصيدة “ابن الخطيب” التي أنشأها حين استشعر الخوف من المرينيّين، والتي مطلعها:

أطلعن في سدف الظلام شموسا — ضحك الظلام لها وكان عبوسا

فإنها بلغت زهاء عشرة أبيات ومائة. أما قصيدته الميميّة التي استصرخ فيها “موسى أبا حمو الثاني” فإنها بلغت ثلاثة وعشرين بيتا ومائة، وهي من عيون قصائد “ابن الخطيب”.

كما بدا لنا أن الشعراء كانوا حريصين على اصطناع البحور الطويلة مثل: الكامل، الوافر، البسيط، الطويل، المديد. بيد أن وُرود البحر الطويل كان أكثر.

نخرج من كل هذا البحث المتواضع أن الشعر العربي في “تلمسان”، عرف تطوُّرًا وازدهارا على عهد “أبي حمو الثاني”، وأن المولديات بوجه خاص ازدهرت وأصبح لها شعراء معروفون. وقد كانت هذه المولديات في مستوى الشعر الراقي الجميل لفظا ومعنى، ويدلّ هذا على أن الجزائر لعبت في القرن الثامن الهجري دورا خطيرا في مجالَي الفكر والأدب، حيث عرفت أكبر المفكرين والأدباء في تاريخ المغرب الإسلامي ورعتهم وظاهرتهم على تفتيق عبقرياتهم، وإخصاب قرائحهم.

يا مَن يجيب نِدا المُضطر

هذه القصيدة أنموذج عن الشعر المولدي في تلمسان، نظمها “أبو حمو” بمناسبة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف عام 766 هجرية. وقد أوردها المؤرخ “يحيى بن خلدون” في كتابه “بغية الروّاد في ذكر الملوك من بني عبد الواد”.

يا من يُجيب نِدا المُضطرّ في الدِّيَج — ويكشف الضُّر عند الضيق والهَوَج

ولُطف رحمتِه يأتي على قنطٍ — إذا القنوطُ دعا: يا أزمة انفرجي

ومَن إذا حلَّ خطبٌ واعتَرَت نُوَبٌ — أبدى من اللّطف ما لم يَجرِ في المُهَج

إنّي دعوتك جُنحَ الليلِ يا أملي — دُعاء مُبتهلٍ بالعفوٍ مُنتهِج

يا كاشف الضرّ عن أيّوب حين دعا – قد مسَّنِي الضرّ فاكشف كرب كلّ شَجِي

أنت المُنجي لِنُوح في سفينته — ومُخرِج يُونس من ظُلمة اللُّجَج

يا مَن وَقى يوسف الصدِّيق كلّ أذى — رَموه بِجُبٍّ ضيقٍ حَرِج

أجاب يعقوبَ لمّا أن بكى وشَكَا — وجاءه منه لُطفٌ لم يَخله يَجِي

وعاد بعدُ بصيرًا حين هبَّ له — نسيمُ نشرِ القميص الطيِّب الأرَج

أنجى من النار إبراهيم حين رُمِي — فيها وعادت سلاما دون ما وَهَج

يا مَن تكفَّل موسى وهو مُنتبَذٌ — باليمِّ في جوف تابوتٍ على لُجَج

وأمُّه من أَلِيم الشّوق وَالِهة — فُؤادها فارغٌ من شدّة الوَهَج

يا مَن أعاد لها مِن بعدما يَئِست — موسى وقرَّبه في المرسلين نَجي

يا مَن كفى المصطفى كيد الأولى كفروا — إذ جاءهم بكتابٍ غير ذي عَرَج

يا من وقاه الرّدى في الغار إذ نَسجَت — بِبابه عنكبوتٌ خيرَ مُنتَسَج

وكلّما حاولوا مكرًا به انقلبوا — بالرّعب ما بين مَكبوتٍ ومُنزعِج

مَن قد أتى رحمةً للعالمين وقد — أحيا القلوب بوحي واضحِ الحُجَج

مَن عطَّر الكون طيبًا عند مولده — وأشرق الأفقُ مِن دورٍ له بَهِج

من أُنزِلت فيه آياتٌ مُطهّرة — أنوارُها كصباحٍ لاح مُنبَلِج

يَبلى الجديدان أخلاقًا وجِدُّتها — مع الجديدين في نورٍ وفي بَهَج

في طيِّها كلّ علمٍ ظلَّ مُندرِجا — وأيّ علمٍ لديها غير مُندرج

وكم له معجزات ما لها عدد — جَلَت عن الحصر مِن فردٍ ومُزدوج

عمَّت شفاعته للخلق كلّهم — وبالوسيلةِ يَرقى أرفع الدُّرج

محمدٌ خير خلق الله قاطبة — نور الهدى وإمام الرُّسل والسُّرج

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
في ظل تحديات إقليمية ودولية.. قرارات رئاسية حاسمة العلاقات الجزائرية الفرنسية.. الرئيس تبون يضع النقاط ويحدّد المسار الجوية الجزائرية تعلن عن تخفيضات استثنائية للجالية الوطنية بالخارج بالتنسيق مع وزارة الدفاع.. إجراءات استباقية لمواجهة أسراب الجراد رئيس الجمهورية يوافق على إدماج أكثر من 82 ألف أستاذ متعاقد في قطاع التعليم تحذيرات من خطر تمدّد الاختراق الصهيوني للنسيج الاجتماعي في المغرب "كناص" يُطلق خدمات رقمية جديدة عبر منصة "فضاء الهناء" نحو تعزيز التعاون الجزائري الإثيوبي في مجالات المحروقات والطاقات المتجددة استجابة لمطالب النقابات.. هذا موعد انطلاق ورشات تعديل القانون الأساسي للتربية رسائل الرئيس تبون إلى فرنسا.. قراءة في أبعاد الخطاب وملامح المرحلة القادمة كاكاو مقلّد في الأسواق.. وهذه علاماته! جمارك.. إحباط تهريب سلع معتبرة بميناء بجاية زيتوني: "إطلاق تطبيق رقمي لمتابعة مداومة التجار خلال عيد الفطر" تعديلات قانون الأحزاب في الجزائر.. نحو ديناميكية سياسية أقوى مجلس الوزراء يدرس ملف إدماج الأساتذة المتعاقدين إحباط محاولة تهريب كمية ضخمة من المهلوسات بورقلة رئيس الجمهورية يكشف عن مشروع لاستثمار كفاءات الجزائريين في الداخل والخارج رسميًا.. تشكيل لجنة برلمانية لصياغة مقترح قانون تجريم الاستعمار لحظة النهاية تقترب.. "إسرائيل" تلتهم نفسها بنيران الانتقام "الوشق المصري" الذي يخشى البشر يُرعب جنود الاحتلال.. ما القصة؟