الشيخ العلّامة “أحمد حماني” (1915 – 1998) من أبرز العلماء الرّاسخين في العلم الذين أنجبتهم الجزائر في العصر الحديث، عاش حياةً حافلة بالجهاد في مجالات التعليم والإصلاح والثورة.. ويُعتبر من أكبر العلماء العارفين بالمذهب المالكي، وله فتاوي شهيرة منها “حرمة موالاة الكافر والاستعانة به على المؤمنين” واعتبر ذلك ردّةً عن الإسلام، وفتوى “حرمة الزواج من الفرنسيات” استنادًا إلى فتوى الشيخ “ابن باديس” التي حرّم بموجبها الزواج بالفرنسيات، وغيرها من الفتاوي التي أثار بعضُها جدلا كبيرًا في وقتها..
أثرى العلّامة “أحمد حماني” المكتبة الجزائرية والعربية عموما بمؤلّفات عديدة منها: “فتاوي الشيخ أحمد حماني”، “من الشهداء الأبرار: شهداء علماء معهد عبد الحميد بن باديس”، “الإحرام لقاصدي بيت الله الحرام”.. بالإضافة إلى كتاباته الغزيرة في الصحافة الجزائرية والتونسية قبل ثورة التحرير الوطني وخلالها وفي ظلال الاستقلال. ومن أبرز المسؤوليات التي اضطلع بها منذ بداية سبعينيات القرن الماضي، رئاسته للمجلس الإسلامي الأعلى..
بمناسبة هذا الشهر الفضيل، تعيد جريدة “الأيام نيوز” نشر بعض كتابات الشيخ العلاّمة “أحمد حماني” التي نشرها بمجلة “الأصالة” الجزائرية، ومنها هذه المقالة – منشورة في شهر أفريل 1974 – التي استرجع فيها أمجاد العلماء والأعلام الجزائريين خلال مرحلة أشرقت فيها ثلاث عواصم صنهاجية في الجزائر، وهي: أشير، قلعة بني حمّاد، بجاية الناصرية. وقال: “وكان لكل هذه العواصم حضارة وعمران ومجد تليد، وصِيت بعيد، وتاريخ مجيد. وقد عرفت الجزائر في حكم الحماديين عهدا جديدا لم يسبق أن عرفته من قبل من الأمن والرخاء وازدهار العمران، وكثرة من نبَغ فيها من فحول العلماء والأدباء والشعراء والفنانين”. وفيما يلي، نترك القارئ الكريم يُبحر معنا في هذه الصفحات المشرقة التي دوّنها لنا شيخنا الجليل العلاّمة “أحمد حماني”..
ثلاث عواصم صنهاجية في المغرب الأوسط
كان لصنهاجة في المغرب الأوسط – أثناء إمارتهم أو ملكهم – ثلاث عواصم، حكموا منها، واستقر كرسيّهم بها، وازدهرت حضارتهم فيها: الأولى “أشير” عاصمة مُؤسّس بيت الحكم فيهم “زيري بن مناد بن منقوش” كانت له عاصمة ولايةٍ، كما كانت كذلك لابنه من بعده “بلكين بن زيري” إلى أن استخلف على إفريقيا والمغرب كافة فانتقل إلى “القيروان” وبقيت “أشير” عاصمة وُلّاته إلى أن أسّس “حماد” القلعة – وهي العاصمة الثانية – بناها سنة 398 هـ وسكنها سنة 400 لتكون عاصمة مُلكه ومُلك أبنائه من بعده وتشتهر باسم “قلعة بني حماد”.
أما العاصمة الثالثة “الناصرية” أو “بجاية” التي أسّسها “المنصور بن علناس” على مقربة من خرائب “صلداي” المرسى الفينيقي، ليقي عاصمة ملكه مآلا شبيهًا بمآل “القيروان” التي أتى عليها الخراب سنة 449. وكان بناء “بجاية” سنة 460 وانتقل إليها بعد سنة واحدة، فأصبحت عاصمة ملوك الحماديين ثم وُلّاة الموحّدين على المغرب الأوسط، ثم ولاة الحفصيين، إلى أن سقطت بيد الإسبانيين سنة 910 هجرية. وكان لكل هذه العواصم حضارة وعمران ومجد تليد، وصيت بعيد، وتاريخ مجيد. وقد عرفت الجزائر في حكم الحماديين عهدا جديدا لم يسبق أن عرفته من قبل من الأمن والرخاء وازدهار العمران، وكُثرة من نبَغ فيها من فحول العلماء والأدباء والشعراء والفنانين.
أمجاد الصنهاجيين من الجزائر إلى غرناطة
وإذا كان الصنهاجيون قد امتازوا بشدة البأس في الحرب، والخبرة بفنون القتال، وبالمهارة في فن السياسة والحكم، فقد اشتهروا بجانب ذلك بحبّهم للعمران، وبناء الحضارة، وشغفهم بالعلوم والفنون وإكرامهم لأهلها، وسخائهم بالأموال والنفائس من أجلها. فحيثما أسّسوا مُلكا، أو باشروا حُكما، ازدهر العمران، وارتقت الفنون والصنائع، وشاعت المعرفة والثقافة وعمّ الرخاء والتّرف، وأقوال المؤرخين الثقات، والآثار الباقيات، خير شاهد بأعمالهم.
فقد مصَّر “بلكين بن زيري” – بأمر من أبيه – مدن: مليانة، المدية، الجزائر، وما تزال شاهدة بعزّة الأب والابن، ناطقة بفضل حكمهما. ولما اجتاز إلى الأندلس “زاوي بن زيري” – أخو بلكين – وأسّس الإمارة الصنهاجية سنة 403 في “كورة البيرة”، مصَّر مدينة “غرناطة” لتخلف “البيرة” التي أتي عليها الخراب، فزهت وازدهر عمرانها.. ثم كانت من بعد عاصمة الأندلس، قال “ابن الخطيب”: “وانحازت صنهاجة مع رئيسها المذكور إلى غرناطة فأووا إليها واتّخذوها ملجأ، وحماها زاوي وأقام بها مُلكًا وأحلّ بها سلطانا لذويه، فهو أول مَن مدَّن غرناطة وبناها وزادها تشييدا ومنعة، واتصل ملكه بها”. وقال عن ابن أخيه وخليفته من بعده “حبوس بن ماكسن بن زيري”: “وكان رئيسا يَبِسًا، طاغية جبّارا، شجاعا داهية جلدًا شديد الأمر سديد الرأي بعيد الهمّة.. ضخمت به الدولة ونبهت الألقاب، وأمِنَت لحمايته الرّعايا، وطمّ تحت جناحه سيف العمران”. ولم تلبث “غرناطة” أن أصبحت مزدهرة بالعلوم والفنون، قِبلة أعظم الرجال ومنبتهم، إلى أن غربت شمس الإسلام عن الأندلس، وما تزال آثارها المكتوبة والمروية والقائمة شاهدة بأمجاد بني قومنا.
وعن حكم الصنهاجيين وعهدهم بإفريقيا يقول “ابن أبي دينار”: “صنهاجة وإن كانوا في الحقيقة عُمّالا لبني عبيد فقد بلغوا درجة الملك وكانت لهم ضخامة وصيت، وغالب أهل تونس لا يحققون لهم ولاية، وأنا – أستغفر الله – أقول: إن أيام دولتهم أقوى من دولة بني حفص، إلا أن بني حفص خطب لهم بأمير المؤمنين ولم يخطب لصنهاجة بهذا الاسم”. ويقول عن عهدهم الأستاذ “حسن حسني عبد الوهاب”: “هو عصر إفريقيا الذهبي فقد بلغت فيه البلاد ذروة حضارتها بالثروة والعلم والفنون الجميلة وتبسُّط السكان في العيش وركنوا إلى البذخ والترف فتدفقت الأموال على طبقات الشعب فمالوا إلى اقتناء الكماليات النفسانية وجنحوا إلى الآداب الرفيعة فَزَهَا الأدب وسار الشعر في مدارج الارتقاء وراجت سوق الأفكار أيّما رواج… ولقد سهّل آل بلكين الصنهاجيون – وخصوصا المعز بن باديس وأبناءه من بعده ـ على العلماء النزوح إليهم فقربّوا منزلتهم منهم وأجروا الأرزاق عليهم وبالغوا في إكرامهم وعوّلوا على آرائهم”. وكانت “القيروان” عاصمة الدولة الصنهاجية المُوحّدة، فكان علماؤها يمثلون أنحاء هذه الدولة إذ هي عاصمتهم جميعا قبل أن تنفصل عنها الدولة الحمادية، وقد “بلغت القيروان في العصر الصنهاجي منتهى عمرانها الإسلامي الذي لم تزاحمها فيه أيّ مدينة من مدن المغرب (العربي).. تقاطر الناس عليها أفواجا من كل حدب وصوب للارتزاق بالتجارة والصناعة أو العلم والأدب أو بأسباب الملاهي والطرب”.
عبقريان جزائريان في أعلام القيروان
ولم تكن الجزائر خالية من مُدن العلم ومعاهده فقد كان لـ “تيهرت” معاهد ورجال ولـ “المحمدية” علماء أفذاذ، ولكن “القيروان” عاصمة الدولة كانت تمتصّ العبقريات، وتجتذب إليها أعظم الكفاءات، وكان فيمن اجتذبتهم إليها في هذا العصر فهاجروا إليها واستوطنوها وانتسبوا إلى علمائها عبقريان بلغا القمة في المجد والشهرة والإنتاج، وهما “عبد الكريم بن إبراهيم النهشلي” و”أبو الحسن علي بن رشيق”، كلاهما نشأ في “المحمدية” (المسيلة)، وأخذ عن شيوخها وكان له ذكر قبل أن يهاجر إلى “القيروان”، فالمعلوم عن “النهشلي” – وهو أستاذ بن رشيق – أنه نشأ في “المحمدية”، يقول الدكتور “عبد الرحمن ياغي”: “وقد علمنا أن منشأه بالمحمدية”، “وكان عبد الكريم شاعرا مقدَّمًا عارفا باللغة، خبيرا بأيام العرب وأشعارها، مؤلِّفًا جليلا.. شهد له عارفوه بالقوة في الشعر والخبرة بفنه وبأهله، وألّف فيه كتابا قيّما هو كتاب (الممتع في علم الشعر وعمله)، وقد ارتاد عبد الكريم بالممتع أفقا من آفاق النقد، وهيّأ لغيره السبيل لكي يمضي فيه ويوضح أساليب النقد ومناحيه”.. وسلك سبيله من بعده تلميذه “ابن رشيق” في كتابه “العمدة” واعتمد عليه، وانتفع به فقلّما يخلو باب من أبواب “العمدة” من ذِكره والنّقل عنه وشرح آرائه ومناقشتها وقد يأخذ برأيه ويدعمه، وقد يناقشه ويصحّحه، وقد يرفضه ويردّ عليه. ومع ذلك فقد كان وفيًّا، يحبّه ويقدّر كفاءته ويدافع عنه، فقد اشتبك في خصومة مع أحد فحول شعراء “القيروان” وأدبائها ذات يوم لطعنه في كفاءة “عبد الكريم” الشعرية، وقال في ترجمته له في كتابه الأنموذج: “اجتمعتُ مرّة وأنا حديث السنّ ولم أكن قبلها رأيته فأخذ في ذكر الشعراء، وغضّ عن عبد الكريم، وقال هو مؤلف كلام غير مخترع، فأغلظتُ له في الجواب. فالتفتَ إليّ منكرا وقال: وأنت ما دخلك بين الشيوخ يا بني؟”.
وأما “ابن رشيق” فأشهر من أن يُعرّف، ولد بالمحمدية (المسيلة) سنة 390 هـ وقيل 370 هـ، وصحّح الأستاذ “حسن حسني عبد الوهاب” أنه وُلد سنة 385 هـ. وأجمع مُترجموه على أنه تأدّب بالمسيلة ثم ارتحل عنها إلى القيروان، وأن سنة 406 هـ “بعد أن قال الشعر، وطلب العلم والأدب فأخذه عن علماء بلدته المحمدية، وحينما آنس من نفسه قدرة على التفوّق في الشعر والأدب، آثر أن يتوجّه إلى أفق أوسع فتوجّه إلى القيروان دار العلم والأدب في ذلك الحين”..
وهذا يرجّح ما صحّحه الأستاذ “حسن حسني” من أنه وُلد قبل عام 390 هـ، مستشهدا بأن “ابن رشيق” قال وهو يُترجم لشاعر أندلسي “اجتمعتُ به بالمحمدية سنة 401 وأنه لا يعقل أن تكون سنّ ابن رشيق إذ ذاك عشرة أعوام وهو يجالس الأدباء المشاهير”.
وكانت القيروان يوم هاجر إليها غاصّة بفحول الرجال من علماء الشريعة والأدب والتاريخ والرياضيات، فكان فيمن أخذ عنهم من علماء الشريعة “أبو عمران الفاسي موسى بن عيسى بن أبي الحاج” الذي قال فيه “أبو بكر الباقلاني” يخاطبه: “لو اجتمعت في مدرستي أنت وعبد الوهاب بن نصر – وكان إذ ذاك بالموصل – لاجتمع فيها علم مالك: أنت تحفظه وهو ينصره، ولو رآكما مالك لسُرّ بكما”. وأخذ اللغة والأدب عن إمام اللغة في عصره أبي عبد الله محمد بن جعفر التميمي القزاز، وعن عبد الكريم النهشلي وغيرهما. وتأثّر كثيرا بإمام الكتابة والإنشاء والأدب “أبي الحسن علي بن أبي الرجال”، وله ألّف كتاب “العمدة”، منوِّهًا به بعد المقدمة في أغلب الأبواب، راويًا أشعاره مُبيّنا محاسنها.
عاش “ابن رشيق” – بعد المحمدية – بالقيروان طالبا مجدا، ثم منشِئًا، ومؤلِّفا بارعا مدة 43 سنة عانت القيروان في السنوات الأخيرة منها مُرّ العذاب إذ حاصرها الأعراب المُسلّطون عليها من خليفة العبيديّين بمصر من 446 إلى 449، ثم شرعوا في هدم الحصون والقصور وقطع الثمار وخرّبوا الأنهار، وأقام “المُعزّ” بها إلى سنة 449، فعندها انتقل إلى المهدية في شعبان، وانتقل معه “ابن رشيق”. وبكى “القيروان”، وصوَّر محنتها أبلغ تصوير في قصيدة رائعة شهيرة جاء فيها:
والمسلمون مُقسّمون تنالهم – أيدي العصاة بذلّة وهوان
خرجوا حفاة عائذين بربّهم – من خوفهم ومصائب ألوان
هربوا بكل وليدة وفطيمة — وبكل أرملة وكل حصان
والمسجد المعمور جامع عقبة — خرب المعاطن مظلم الأركان
ولم يستقر بـ “المهدية” إذ وقعت بينه وبين “المُعزّ” جفوة، فغادرها إلى صقلية حيث مات – رحمه الله بـ “مازرة” سنة 456 هـ، والأصح أنه مات سنة 463 وترك تراثا أدبيًّا حافلا بضعة عشر كتابا أو رسالة، أعظمها وأخلدها كتاب “العمدة في صنعة الشعر”، قال فيه “ابن خلدون” في مقدّمته: “لم يكتب فيها أحد قبله ولا بعده مثله”. وشملت كتبه ورسائله الأدبَ والنقد والتاريخ والفقه والحديث. ذكر صاحب كتاب “كشف الظنون” أن ابن رشيق “ممّن شرحوا الموطأ”، وروى “حسن حسني” أن له مختصر “الموطأ”.