من أوراق المؤرخ الجزائري الدكتور “يحيى بوعزيز”.. هيبة الجزائر لها تاريخ في العقل الغربي (الجزء الرابع والأخير)

اسم “الجزائر” وحده كان يُثير الرّعب في كل أوروبا، وكانت عاصمتها تُسمّى “مدينة الرّعب”. وعلى امتداد أكثر من قرنين، لم تكن دولة أوروبية من الدّول التي تُسمّى اليوم: عُظمى أو كبرى، تتجرّأ على مواجهة الجزائر بمفردها، بل كانت تلك الدول تواجه الجزائر في إطار أحلاف عسكرية حيث تجتمع في كل حلف أكثر من عشر دولٍ، ومع ذلك كانت تنكسر وتسعى إلى طلب ودّ الجزائر في إطار معاهدات “صداقة”. فهيبة الجزائر في حاضرنا لها تاريخٌ عميقٌ يُدركه الغرب (الأوروبي والأمريكي) ويعي أهميّته البالغة في التعامل مع دولة عظيمة هيمنَت على العالم، وما زالت “قوتها التاريخية” كامنة في شخصية الشعب الجزائري. وإذا كان الغرب يعي تاريخ الجزائر العظيمة وعمل ويعمل على طمسه وتحريفه وتزييفه، فعلينا أن نحييه ونستثمره في مواجهات تحدّيات الحاضر ومخاطره، وكما قال مفكّرنا الجزائري “مولود قاسم نايت بلقاسم”: “نحن لسنا يتامى التاريخ” بل نحن من صانعيه المُقتدرِين، وهو شاهدٌ بأنّ الجزائر غيّرت مجراه في مراحل عديدة لصالح الإنسانية وما فيه الخير للإنسان والأوطان.

بعد سقوط “غرناطة”، اشتدّت الملاحقة البحرية للأندلسيين الذين اختاروا اللجوء إلى شمال إفريقيا هربًا من البطش والتّنصير القصري ومصادرة الممتلكات.. وعملت الأساطيل الأوروبية، الإسبانية والبرتغالية خاصة، على منع بلدان المغرب العربي من تقديم العون والمساعدة للاجئي الأندلس، تماما كما يفعل الكيان الصهيوني مع الشعب الفلسطيني في غزّة، فهو يقتل ويدمّر ويحاول التّهويد.. وأيضًا يمنع وصول المساعدات والعون! وقد تعرّضت المدن الساحلية لبلدان: الجزائر وتونس وليبيا إلى حملات عسكرية أوروبية بسبب نصرتها ومساعدتها للاجئي الأندلس، “وكانت الجزائر وشعبها، أكبر هدف لمعظم هذه الحملات العسكرية التي قادها أباطرة وملوك وأمراء ورهبان وقراصنة كبار”.

اعتبر كثيرٌ من الباحثين بأنّ تلك الحملات الأوروبية على الشمال الإفريقي بأنها كانت في إطار الحروب الصليبية التي باركتها السلطة البابوية، كما اعتبروا بأنها تدخل “في إطار القرصنة البحرية التي باركتها الحكومات الأوروبية، كمصدر للكسب والغنائم، وكوسيلة لتحطيم قوة المسلمين وإذلالهم، وتمهيد الطريق لاستعمار بلدانهم بعد ذلك”. وقد اتّسمت تلك الحملات “بالتوحّش، والشراسة في تخريب العمران، وإتلاف الأملاك، وسلب الأموال، وقتل البشر واسترقاقهم وإذلالهم”.

ومن أشهر الحملات العسكرية للتحالف الأوروبي ضد الجزائر، نذكر “حملة (شارلكان) الكبرى الفاشلة على مدينة الجزائر عام 1541، التي باركها وأيّدها البابا (بول الثالث)، واشترك فيها قراصنة إيطاليا، وصقلية، وفرسان مالطة.. وغيرهم من معظم بلدان أوروبا”. وأيضًا “الحملة الصليبية الضخمة ضد الجزائر العاصمة عام 1601 التي اشتركت فيما قوات: البابا، جنوة، نابولي، الطوسكان، صقلية، سردينيا، بارما، مودينا، لابروطان، جزر البليار”.

هذه الظروف دفعت الجزائر إلى بناء قوّة بحرية عُظمى استطاعت أن تبسط هيمنها على البحر الأبيض المتوسط وعلى أكبر دول العالم آنذاك، واشتهر الأسطول البحري الجزائري بسفنه ومراكبه الحربية التي صارت تُثير الرعب في كل أوروبا، مثل: الجناح الأخضر، الحظ السعيد، الظافر، نصر الإسلام، الثريا، طريق الخلاص، هول البحر، مفتاح الجهاد.. وحققت الجزائر انتصارات كبرى على القوى الغربية منفردة أو مجتمعة، فمثلا بين عامي (1613 – 1621) تمكّنت الجزائر من غنمِ 1200 سفينة ومركب بحري “للإسبان والفرنسيين والإنجليز والألمان والهولنديين، والدانماركيين، والإيطاليين، منها: 447 هولندية، 193 فرنسية، 120 إسبانية، 60 إنجليزية، 56 ألمانية”.

من أبرز الدول الأوروبية التي تحالفت عسكريًّا ضد الجزائر، نذكر: فرنسا، إيطاليا، إسبانيا، البرتغال، ألمانيا، إنجلترا، الدانمارك، النمسا ودول أوروبية أخرى بالإضافة إلى أمريكا بعد استقلالها.. وفي ثنايا هذا المقال سيجد القارئ مظاهر هيمنة الجزائر على هذه الدول من خلال الإحصائيات والمعاهدات، وهو أمرٌ يؤكّد بأن الغرب يؤمن بالقوّة و”يحترم” الأقوياء، وأمّا الضعفاء فإنه يذلّهم ويعبث بهم حتى وإن بدا بأنه يقيم معهم علاقات “صداقة”!

إن نظرة الغرب (أوروبا وأمريكا) إلى الجزائر تنطلق من عصر القوة الجزائرية، ومهما قيل عن التطوَر التكنولوجي الغربي وتصنيف الجزائر ضمن “دول العالم الثالث”.. فإنّ الغرب يدرك بعمقٍ أنّ القوة الحقيقية ليست في المادة والمنجزات الملموسة فهذه العناصر من المتغيّرات، بل هي عنصرٌ كامنٌ في الشخصية الوطنية للشعب فهذا هو العنصر الثابت الذي لا يتغيّر، فالجزائر لم تفقد هيبتها الدولية ولن تفقدها لأنها مستمدّة من “قوتها التاريخية” التي يعيها الغرب تمام الوعي..

انطلاقا من هذه الرؤية، تعيد جريدة “الأيام نيوز” نشر المحاضرة التي ألقاها المؤرّخ الجزائري الدكتور “يحي بوعزيز” في الملتقى الثاني عشر للفكر الإسلامي في الجزائر، ويُمكن اعتبارها وثيقة بالغة الأهميّة لما تتضمّنه من معلومات وإحصائيات موثوقة. والغاية هي استحضار التاريخ لقراءة الحاضر، والتأكيد بأنّ الجزائر التي أكّدت عظمتها عبر التاريخ ما زالت تمتلك الهيبة والقوة التي تُمكّنها من التأثير في مجرى الأحداث العالمية، وأيضًا مواجهة المخططات الدولية الرامية إلى العبث بالإنسان وبالأوطان التي تتمسّك بأصالتها وهويّتها وانتمائها.. ونشير إلى أنّنا حصلنا على نسخة عن المحاضرة من المكتبة الوطنية التونسية، وهي مكتوبة بالآلة الرّاقنة، فنعتذر للقارئ عن أيّ أخطاء في تسمية الأشخاص أو الأماكن، وفيما يلي نتركه مع صفحات من تاريخ الجزائر العظيمة..

التفسيرات الأوروبية المغرضة لأعمال البحرية الجزائرية

لقد دأب الأوروبيون على نعت نشاط البحرية الجزائرية في العصر الحديث بالقرصنة، ووصف رجالها بالقراصنة، وهو ادّعاء مغرضٌ بعيد عن الحقيقة والواقع. لأن أول من مارس أعمال القرصنة وتوسّع في تطبيقها بكل شراسة هم الأوروبيون أنفسهم في أعقاب الحروب الصليبية، وبداية التراجع الإسلامي بالأندلس، وذلك بدافع من الحقد الديني وروح الانتقام، والرغبة في الغنم البحري المادي. والدليل على ذلك هو مباركة الحكومات الأوروبية لأعمال قراصنتها، وتقديم الحماية والعون المادي لهم، كما فعلت إنجلترا، وفرنسا، والنمسا، والإمارات الإيطالية، والألمانية، بل وحتى بعض دول شمال أوروبا مثل الدانمارك. وقد تحدّث “ابن خلدون” عن نشاط بحّارة “بجاية” ضد القراصنة – يسمّيهم بالفرنج – في البحار، وشرح كيف كانوا يجهّزون أنفسهم، ويخرجون لهذا النوع من الحروب في عرض البحار ويعودون بغنائم وافرة.

وفي مطلع العصر الحديث، اشتدَّت هجمات القراصنة الأوروبيين ضد الجزائر وبلدان المغرب الإسلامي الأخرى، بسبب نجاح الإسبان في عملية استرداد الأندلس، ووصول المد العثماني الإسلامي إلى الحوض الغربي للمتوسط، واضطرت الجزائر لإنشاء أساطيل بحرية مماثلة لتدافع عن نفسها، وتردّ العدوان، وتقاوم سياسة التّنصير والتّمسيح، وتنقذ المسلمين من الأسر والتعذيب، والسلب، والنهب، والتخريب، والقتل، والتشريـد.. وكانت خطة الجزائر في البداية هي الدفاع ضد هذه الاعتداءات والتحرّشات، وضد إرادة التنصير والتّمسيح، ثم لما أخذت هذه الاعتداءات والتحرشات صبغة الحملات الصليبية، وتحوّلت إلى ائتلاف كبير تشارك فيها بلدان كثيرة، انتقلت الجزائر من مرحلة الدفاع إلى مرحلة الهجوم والتتبّع، وأخذت قواتها البحرية تضرب أوكار القراصنة الأوروبيين في عقر ديارهم، وعلى شواطئ بلدانهم، ولقّنتهم دروسا لا تُنسى حتى اضطرَّت حكوماتهم أن تشتري السلام والأمن لها ولمراكبها البحرية بالمال والمعاهدات وتبادل الأسري. وكان عمل البحرية الجزائرية مقاومة ضد العدوان وجهادا ضد إرادة التنصير والتمسيح، وليس قرصنة كما ادّعى وزعم الأوروبيون. وحتى مع التسليم بأنه قرصنة في بعض الحالات والفترات، فإنّ الأوروبيين هم الذين سبقوا إليه ومارسوه كحركةٍ للغنم والسلب والنّهب، وهم الذين أرغموا الجزائريين على العمل بالمِثل في إطار ردّ الفعل.

ويحتفظ التاريخ لنا في سجلّاته بأمثلة كثيرة عمّا ارتكبه الأوروبيون من مجازر وأهوال ضد شعب الجزائر وبلدان المغرب العربي الأخرى، خلال ممارستهم لأعمال القرصنة أواخر العصر الوسيط، وطوال العصر الحديث. بل إنّ الأوروبيين مارسوا، مع القرصنة، حرفة تجارة الرّقيق في الشواطئ الإفريقية. إحياءً لما كان يقوم به أجدادهم الرومان في العصور القديمة.

لقد قامت أوروبا في العصر الحديث وخلال استعمارها للشعوب العربية الإسلامية، والإفريقية بأعمال وحشية، تجاوزت كل حدود التصوُّر في الفظاعة والقساوة، فأبادت شعوبا بأكملها وقضت على حضارات إنسانية راقية، ونهبت خيرات البلدان الاقتصادية، وحطّمَت الآثار الفكرية والعمرانية، وطمست منجزات الشعوب الفنية والثقافية، ومسختها. ومع ذلك لا تشعر بالخزي والعار ولا تكترث لذلك. ونحن عندما قام أجدادنا الجزائريون بالدفاع عن أنفسهم، وحماية شعوبهم ومقدساتهم وردّوا على العدوان بمثله، وُصِموا بالقرصنة والقراصنة.

إنّ أوروبا ما تزال حتى اليوم، تطبّق الأساليب نفسها، وتقوم بالأعمال ذاتها، وترتكب الجرائم نفسها في فلسطين والصحراء الغربية وجنوب إفريقيا وفي جزر وأرخبيلات المحيط الهادئ والهندي والأطلسي.. وتسترشد دائما بالمثل السائر: قتلُ وحشٍ في غابةٍ جريمة لا تُغتفر وقتلُ شعبٍ كاملٍ مسألةٌ فيها نظر. فعندما يُذبح الفلسطينيون بالجملة في جنوب لبنان، والأفارقة السود في زيمبابوي، وجنوب القارة، وسويتو، والصحراويون في الساقية الحمراء ووادي الذهب، والمسلمون في تشاد، والفيليبين وأريتريا، والصومال الغربية.. لا تحرّك أوروبا ساكنا، بل إنها تدعم هذه الأنظمة التي تذبح وتقتل، وتزوّدها بأسلحة الدمار الفتاكة، وعندما يتعرّض مواطن أو مجموعة مواطنين من أبناء جنسها، أو بعض مصالحها الاقتصادية، لخطرٍ.. تحشد جيوشها وأساطيلها، وترتكب أبشع الجرائم، وأشنعها وأخسِّها بدعوى: حماية رعاياها..

لقد آن الأوان لكشف مخازي الاستعمار الأوروبي، وجرائمه، ضد الشعوب التي استعبدها.. وآن الأوان كذلك لغربلة تاريخنا، وإزالة الزيف والتدليس اللّذين ألصقا به عن قصد، ودحض الأقاويل والأباطيل التي ابتدعَت فيه، وإبراز الحقائق الناصعة عن كفاح الأجداد البطولي، ومنجزاتهم الحضارية الخلّاقة عبر مسيرة التاريخ الطويلة. ورغم أنّ مثل هذا العمل شاقٌّ وطويل، إلّا أنّه ضروري، بل واجب مقدس.. وهي مهمّة الباحثين في الجامعات.

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
وزير الاتصال..الجزائر توسّع بثها الإعلامي دوليًا عبر الأقمار الصناعية سونلغاز تفتح أبوابها لنقل خبرتها إلى بوركينا فاسو قائد الجيش السوداني:"الخرطوم حرة" استنفار وطني لمواجهة أسراب الجراد ومنع انتشارها إلى ولايات جديدة رقمنة الخدمات التجارية.. "مرافق كوم" الحل الذكي لمتابعة مداومة التجار دوفيلبان يتصدر الشخصيات السياسية المفضلة في فرنسا بعد مواقفه من غزة والجزائر هذه أبرز الملفات التي ناقشها اجتماع الحكومة الجزائر في صدارة الدول المصدرة للغاز المسال بإفريقيا ليلة القدر في الجزائر.. نفحات إيمانية وعادات متجذرة الكاردينال فيسكو: "تصريحات روتايو مستفزة والجزائر لن تخضع للخطاب التهديدي"  غزة تشتعل.. تصعيد عسكري ونفير عام ورسائل تهز "إسرائيل" بوغالي يطالب إسبانيا بمراجعة موقفها من قضية الصحراء الغربية القضاء الفرنسي يرفض طلب تعليق قرار طرد المؤثر الجزائري "دوالمن" بشراكة صينية.. نحو إعادة إطلاق مصنع الإسمنت بالجلفة سقوط القصر الرئاسي بيد الجيش.. معركة الخرطوم تدخل مرحلة الحسم ليلة الشك.. الجزائر تتحرى رؤية هلال شهر شوال يوم السبت هذه حصيلة نشاط الرقابة وقمع الغش والمضاربة خلال 24 يوما من رمضان وزارة التربية تنشر جدول التوقيت الخاص بامتحاني "البيام" و"الباك" خيرات الصحراء الغربية.. موارد منهوبة تموّل آلة الإجرام المغربية! مواد مسرطنة في الحلويات الحديثة.. حماية المستهلك تحذّر