يُحيل اسم إفريقيا في ذهنية الكثيرين إلى أقوامٍ شبه عُراة يرتدون الأسمال ويحملون الحِراب وهم يدورون حول نيران متأجّجة ويرقصون على وقع طبولٍ خشبيّة كبيرة، ويسكنون في أكواخ من القشّ! في الحقيقة، هذه هي الصورة رسمها الغرب للأفارقة الذين ينتشرون في البلدان الواقعة بعد الصحراء الكبرى الجزائرية، رغم أنّ الغرب وصل إلى هذه المناطق في بدايات القرن الثامن عشر، أي بعد أن وصلها العرب المُسلمون بحوالي عشرة قرون. فإذا كانت هذه الصورة الغربية الظالمة المُشوّهة للأفارقة لها أغراضها التي اعتمدها الغرب لتبرير الاستعمار بدعوى أنه ليس استعمارًا وإنّما هو “حملة حضارية” للرقي بالشعوب الإفريقية وإدخالها في عصر التقدّم والمدنيّة.. فما هو مُبرّرنا نحن في الاحتفاظ بهذه الصورة أو بعضٍ من تفاصيلها لا سيما وأنّ أسلافنا هم من أسهموا في تأسيس الممالك الإسلامية الكبرى في بلدان مثل: مالي، غانا، النيجر؟
يُطلق على المناطق التي تقع بعد صحرائنا الكبرى تسمية “السودان الغربي” وهي تضمّ: مالي، السينغال، غامبيا، بوركينافاسو، الطوغو، البينين، نيجيريا، الكاميرون، الغابون، الكونغو.. وهناك “السودان الأوسط” و”يضم بحيرة تشاد والمناطق المحيطة بإفريقيا الوسطى”، بالإضافة إلى “السودان الشرقي “ويضم مناطق واد النيل وروافده جنوب النوبة، والمعروف عند العرب بالزنج”. وسنُجيز لأنفسنا القول بأنّ “السودان الغربي” هو البلدان الإفريقية الواقعة جنوب صحرائنا الكبرى الجزائرية.
من أبرز المؤرّخين الجزائريين الذين ركّزوا جهودهم على إفريقيا والسودان الغربي، الدكتور “عبد القادر زبادية” (1933 – 2013) الذي يُعتبر “رائد الدراسات الإفريقية”، وله مؤلّفات وتحقيق لمخطوطات في الشأن الإفريقي، بالإضافات إلى مقالات مبثوثة في المجلات العربية والجزائرية، وهذه واحدةٌ من مقالاته التي نشرها بمجلة “الأصالة” الجزائرية في شهر جانفي 1978، وتناول فيها ” ملامح الحركة التعليمية في تمبكتو خلال القرن السادس عشر”. وتعيد جريدة “الأيام نيوز” نشر المقالة للتأكيد على أهميّة دراسة تاريخ إفريقيا لا سيما البلدان التي يربطنا بها تاريخ عميق وتمثّل امتدادا للتراث الإسلامي، وأيضًا لتصحيح النظرة الغربية الظالمة لإفريقيا من خلال اكتشاف مدينة “تمبكتو” التي كانت حاضرة للإشعاع العلمي والمعرفي خلال القرون الوسطى أو قرون الظلام في أوروبا، واكتشاف جهود علماء الجزائر من أمثال: المغيلي، التادلسي.. في إرساء النهضة العلمية في إفريقيا انطلاقا من “تمبكتو”، والتي امتدت إلى بلدان إفريقية أخرى ما زالت فيها مساجد ومدارس علمائنا قائمة وشاهدة إلى الآن على عمق العلاقات (الجزائرية – الإفريقية).
واعتقادنا بأنّ استثمار الموروث الحضاري والإسلامي المشترك يُمكنه أن يكون من بين الأسلحة القوية التي نواجه بها مُخطّطات الغرب الذي يحاول في كل حين أن يُجدّد أدواته ووسائله الاستعمارية! وفيما يلي نترك القارئ يستكشف “تمبكتو” خلال ما يُسمّى القرون الوسطى وكيف كانت حاضرة للإشعاع العلمي والمعرفي الإسلامي باللغة العربية، في توقيت كان الغرب الأوروبي مستغرقًا في ظلامه!
الإجازات العلمية (الشهادات)
عرَف المدرّسون والطلاب في “تمبكتو” خلال القرن السادس عشر نظام الشهادات، كما عرفته البلاد الإسلامية الأخرى. وبما أن طلب العلم كان يتّصف بالحرية التامة، فيما يتّصل بالطلاب، فإنّه يبدو أن الأساتذة أيضا كانوا لا يجيزون الطلاب إلّا بعد التأكد من تمكّنهم في المواد التي يدرّسونها لهم.. ذكر كل من “أحمد بابا” و”السعدي” عددًا من الأساتذة والأشياخ الذين كانا قد أخذا عليهم العلم، ولكنهما لا يشيران لمن أجازوهما من بين أولئك الأساتذة على كثرتهم، إلا للقليل بحيث لا يتجاوز عددهم اثنين أو ثلاثة فقط.
أما طريقة الإجازة، فقد كانت بسيطة، ولكنها كانت مما يتلاءم والطريقة الحصيفة التي تستند إلى تأكّد الأستاذ من أن الطالب يكون قد أحرز على التمكّن الكافي في مادةٍ بعينها، ذلك أن الأستاذ لا يراعى أيّة شكليات في منح الإجازة لطالب العلم على يديه، ولكنه يراعي بدقة مدى الكفاءة التي يكون الطالب قد حصل عليها.
يجد المتتبّع لحالات الإجازات التي أُعطيت في ذلك الوقت، أن الطلبة الذين يكونون قد لازموا مجلس الأستاذ لفترة طويلة، وأصبحوا حجة في المواد التي يدرّسها أستاذهم، هم وحدهم الذين أعطِيت لهم الإجازة في تلك المواد. وبعض الذين أعطِيت لهم شهادات كانوا قد بلغوا درجة من التحصيل والتمكّن، جعلت أستاذهم يضطر أحيانا لنقل بعض تعليقاتهم على المسائل واجتهاداتهم فيها، ويدرّسها لطلاب آخرين بمحضر منهم.
وقد كانت الشهادات تُعطى فردية، بمعنى أن الطالب يستطيع الحصول على شهادة من الأستاذ في المواد التي يتقنها ذلك الأستاذ ويتعاطى تدريسها، ولكنه يبقى طالبا في مواد أخرى.
وبناء على هذا، فإنّ الشهادات كانت في شكل انطباع يسجّله الأستاذ على مذكّرات الطالب في مادة أو أكثر، بعد أن يكون هذا الأخير، قد اطّلع على كل المؤلَّفات الكبيرة والصغيرة في موضوعها، وأجاد تحصيل المعلومات الموجودة بها. يقول “أحمد بابا” عن أحد الأساتذة الذين أجازوه: “حضرت أنا عليه أشياء عدّة، وأجازني في جميع ما يجوز له وعنه، وكتب لي بخطّ يده…”. ولعل بهذا تثبت أمامنا صورة الشهادة كما كانت تُعطى. أما “عبد الرحمان السعدي” فيقول عن أستاذه الذي أعطاه إجازة: “باحثته كثيرا في المشكلات وراجعته في المهمات، وبالجملة فهو شيخي وأستاذي، ما نفعني أحد كنفعه وبكتبه.. وأجازني بخطِّه ما يجوز له وعنه”.
ومن ناحية أخرى، فقد كان الأساتذة يتحرّون في العبارات التي يكتبون بها الشهادات للطلاب، بحيث ينحصر محتواها في نطاق المعلومات التي يتقنها الأستاذ المُدرّس، ولا يتجاوزها لغيرها. ومن هنا يتضح مدى الدقة في نظام تلك الإجازات، رغم بساطته.
تنقّلات الأساتذة والطلاب
كان توارد الأساتذة من بلدان المغرب العربي على “تمبكتو” قد أخذ شكلا أوسع خلال القرن السادس عشر. وكانت نسبة كبيرة من المدرّسين بتلك المدينة من بلدان المغرب العربي. منذ القرن الثالث عشر، انتقل عددٌ من علماء “والاتا” إلى “تمبكتو”، كنتيجة لانتقال مركز التجارة بين المغرب العربي والسودان الغربي إلى تلك المدينة، وكانوا في أغلبهم من “صنهاجة” و”مسوفة”، وهما قبيلتان مغاربیّتان سكنتا مشارف الصحراء في عصور سابقة. وإلى قبيلة “صنهاجة” ينتسب “أحمد بابا”، ويقال إن نهر “السنغال” أخذ اسمه من اسم “صنهاجة”. أما خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر، فقد كان كثير من التجار الذين وفدوا على “تمبكتو” يطيب لهم البقاء بين أهلها ويباشرون التعليم فيجدون إقبالا كبيرا على دروسهم، وحينما زار “ابن بطوطة” تلك المنطقة في القرن الرابع عشر وجد جماعة من معارفه مقيمين هناك ويتعاطون التّدريس. أما في القرن السادس عشر، فإن معظم من ذكرهم “أحمد بابا” و”السعدي” كأساتذة لامعين في “تمبكتو” كانوا من أصول مغاربية، ويسجل “محمود كعت” وجود كثير من العلماء جاءوا من “توات”، وأقاموا في “تمبكتو” خلال ذلك القرن.
أما الطلبة فقد كانت لهم خلال القرن السادس عشر حركة نشيطة وراء طلب العلم، وأكثر الذين كانوا يردون على “تمبكتو” كانوا من المناطق الغربية. وكثير من الطلبة كانوا حينما ينهون دراستهم في “تمبكتو”، ينتقلون إلى المغرب أو إلى المشرق..
كما كان العديد من الحجيج يغتنمون الفرصة أثناء ذهابهم إلى المشرق، فيجالسون العلماء اللامعين بمصر والحجاز، وقد تطول إقامة بعضهم عدة سنين فلا يعودون إلى “تمبكتو” إلا بعد أن يكونوا قد حصلوا على عدد من الإجازات.
وقد عُرف عن سكان “تمبكتو” حرصهم على تهيئة كل ما يمكن لهم تقديمه من أنواع المساعدات للطلبة الذين كانوا يقصدون مدينتهم، وقد كان لأولئك الطلبة مشاركة اجتماعية واسعة في ولائم الأفراح والجنائز.
التعليم المهني
لا يوجد في كتابات المؤرخين من تلك الفترة ما يشير إلى وجود تعليم مهني مُنظّم في “تمبكتو” إلا فى ميدان الخياطة. وهذا بالرغم من وجود دكاكين يبدو أنها كانت عديدة ومتنوعة يشغلها أصحاب الحرف المختلفة في تلك المدينة. ويُشار إلى أن بلاد المغرب العربي عرفت في تلك الفترة تعليمًا حرفِيًّا كان يشمل الحياكة والخياطة والتجارة وبعض الحرف الأخرى المشابهة لها.
أما في ميدان الخياطة، فإنه يبدو أن المدينة كان بها تعليم مُنظّم إلى حد ما، وكان طلابه كثيرين، فقد ذُكر أنه كان يوجد بها حوالي ستة وعشرون بيتا من بيوت الخيّاطين، وكلها من النوع المتخصص في تعليم مهنة الخياطة، وكانت تُسمّى باللهجة المحلية “تِنْدِ”. وكان كل بيت من بينها يتراوح عدد الطلبة فيه بين خمسين إلى سبعين طالبا، ويتولّى التدريس في كل بيت من بينها معلّمون متخصصون في تعليم تلك المهنة، يُدعى كل واحد منهم (الشيخ الرئيس)، ولا ندري أصل هذه التّسمية، غير أن المعروف عن “ابن سينا”، الفيلسوف الطبيب، أنه كان قد لقِّب بمثل هذه العبارة، ولعل إطلاقها كان يختصّ بمن يتقنون حرفة ما ويعلّمونها للناس.
ولا ندري كيف كان يُقبل الطلبة في كل مدرسة من تلك المدارس، غير أننا إذا قارنّا بما كان يوجد في الجزائر آنذاك، لأن “تمبكتو” كانت كثيرا ما تقلّد المغاربة، نجد أنهم ربما كانوا يدخلون تلك المدارس المهنية ليتشغلوا بدون أجرة، وذلك حتى يتقنوا الحرفة ويحذقونها. أما قبل الوصول إلى مثل هذه الغاية، فإنّ أجرتهم إنما تقابل في العادة بما يتعلمونه مجانا.
خاتمة
لقد حظيت مدينة “تمبكتو” خلال القرن السادس عشر، بما لم تحظ به مدينة أخرى في غرب إفريقيا في ذلك الوقت. وكان من أبرز العوامل التي هيّأت لها ذلك، ازدهار الحركة التعليمية بها في المقام الأول. يقول “كعت” إنها – أي تمبكتو – كانت يومئذ (1591) لا نظير لها في البلدان، من بلاد السودان إلى أقصى بلاد المغرب.. ثم يقرن ذلك بالحركة الثقافية فيقول عن أهلها “إنهم كانوا من أكثر الناس تلطّفًا بطلبة العلم وإعانتهم.. كثُر قرّاؤها وأدباؤها من كوكي إلى جنى”.. ولذا أخذت نوعا من “القداسة” في نظر الناس، مما حمَل الحكومة على إسناد جميع أمور الناس فيها للقاضي.
وقد بلغت شهرتها الآفاق فقصدها الطلاب من جميع بلاد السودان كما توارد عليها بعض الطلبة من “مراكش” أيضا. أما الأساتذة فقد كان عدد كبير من بينهم مغاربة.. واعتمادًا على هذا يقول “السعدي” ابن “تمبكتو” المدينة التي أحبها من كل قلبه: “ما أتتها العمارة إلا من المغرب العربي، سواء في الديانات أو المعاملات”.
وبهذه الصورة قامت تلك المدينة بدور كبير فيما يتعلق بنشر الثقافة في سهوب السودان الغربي كلها، كما أصبحت من بين المراكز الهامة في العالم الإسلامي جميعه، وأسفر ذلك عن تحضّر السكان بها ولين عريكتهم وصلاح حالهم. يقول “كعت” في هذا المعنى: “… إلا من خصّ الله به أهل تمبكتو، ونرى من بينهم مائة رجل ليس لأحد منهم حريش.. ولا مدينة”.
ولكن الباحث رغم ذلك كله، لا يستطيع استجلاء كل المعلومات الكافية حول الازدهار الأكيد الذي عرفته المدينة في حقل التعليم، ولا يعود ذلك فقط لشحّ المصادر الموجودة حول هذا الموضوع، وإنما يعود أيضا لندرتها.. ولنا الأمل في أن يسفر النشاط الواسع الذي يقوم به الباحثون في مختلف جامعات العالم ومؤسسات البحث المنتشرة في أرجائه، عن نتائج طيبة في موضوعات التاريخ الإفريقي جميعها، وكلها لا يزال الغموض يكتنف العديد من جوانبها حتى الآن.