ماذا لو كانت إفريقيا قارة إسلامية وناطقة باللغة العربية؟ لقد أدركت القوى الاستعمارية الأوروبية بأن القارة السمراء كانت متّجهة لأن تكون كذلك، فاشتركَت جميعُها: الإنكليزية والبرتغالية والإسبانية والألمانية والفرنسية والبلجيكية.. في محاربة الإسلام واللغة العربية، وفي المقابل نشر المسيحيّة والتّحالف مع الوثنيّة، لأن التبشير المسيحي الاستعماري لم يكن يهتمّ بنشر المسيحية بقدر ما كان يهتمّ بإخراج المُسلمين من دينهم الإسلامي.
على امتداد أكثر من 14 قرنًا، أسهمت الثقافة الإسلامية في تحرير كثيرٍ من الشعوب الإفريقية من الوثنية والعزلة، وفتحت أمامها أبواب التواصل الحضاري تحت راية دين التّوحيد، فظهرت ممالك إسلامية في إفريقيا الغربية اشتهرت بازدهارها وقوتها على مدى قرون من الزّمان. غير أن نهاية القرن التاسع عشر كانت بداية انحصار الإسلام واللغة العربية في إفريقيا الغربية وعودة شعوبها إلى النّزعات القبَليّة والوثنيّة والعزلة عن العالم، بسبب الاستعمار الأوروبي وخاصة الاستعمار الفرنسي الذي قام بقطع الصلات بين إفريقيا الغربية وشمالها.
الاستعمار الفرنسي كان الأنموذج الاستعماري الأكثر تدميرًا لإفريقيا الغربية “في خلال أقل من نصف قرن أمكن للفرنسيين إحلال اللغة الفرنسية محلّ اللغة العربية، وأمكن لهم كذلك خلق جيل – مهما تكن نسبته المئوية ضعيفة – فإنه استطاع أن يركّز للاعتزاز بالفرنسية وللارتباط المصيري بها في كامل المنطقة الناطقة أو المستعملة للفرنسية في إفريقيا الغربية والمدارية”. إضافة إلى المشاريع التبشيرية المُمنهجة، ومدارس التعليم التي لم تكتف بمحاربة اللغة العربية والإسلام، بل انتهجت طُرقًا تعلميّة لمحو تاريخ إفريقيا وحجبه عن الأفارقة، والتركيز على تعليمهم التاريخ الفرنسي..
تُشير الوقائع إلى أن “اللغة العربية كانت لغة إفريقيا الغربية والمدارية حتى الحرب العالمية الأولى، ولعل أول عمل رسمي لإيقافها نهائيا كان هو المرسوم الذي أصدره حاكم إفريقيا الغربية في سنة 1911 والقاضي بتحريم التّحرير بالعربية في المحاكم منذ ذلك التاريخ”.
إذا كانت فرنسا قد استثمرت وجودها الاستعماري في غرب إفريقيا الذي امتد لأكثر من مائة عام، فإن العرب والمسلمين لم يستثمروا انتشار الإسلام واللغة العربية في هذه المنطقة لأكثر من ألف وأربعمائة عام! بل إن النفوذ الفرنسي في إفريقيا الغربية مرتبطٌ باللغة الفرنسية قبل كل شيء، بمعنى أنّ “موت” هذه اللغة وثقافتها في إفريقيا الغربية هو الموت “النهائي” للنفوذ الفرنسي في هذه المنطقة من العالم..
ويبدو أنه علينا أن نقتنع أولا بأن إفريقيا الغربية كانت إسلاميّة، والعربية كانت هي لغتها الأولى قبل القرن التاسع عشر أو ما يُمكن تسميته “المرحلة الأوروبية”. وانطلاقا من هذه القناعة يجب العمل على استثمار حقائق التاريخ لإعادة بعث إفريقيا الغربية الإسلامية والعربيّة بكل ما يعنيه هذا الأمر من “تحرير” إفريقيا، والقضاء على مشاريع الغرب الأوروبي خاصة الذي ما زال متمسّكًا بنزعته الاستعمارية في التعامل مع بلدان القارة السمراء..
وحتى “نصدّق” بأن إفريقيا الغربية كانت إسلامية، نعيد نشر دراسة أعدّها الدكتور الجزائري “عبد القادر زبادية” (1933 – 2013) بعنوان “أربعة عشر قرنًا حافلة من تاريخ الإسلام في إفريقيا والتطورات الجديدة”، نشرها في مجلة “الأصالة” الجزائرية في شهر نوفمبر 1979. ويُعتبر “زبادية” من أبرز المؤرّخين الجزائريين في تاريخ إفريقيا الغربية (تأليفًا وتحقيقا للمخطوطات)، فهو أول من أدخل تخصّص الدراسات الإفريقية إلى الجامعة الجزائرية، ودعا إلى تأسيس معهد جزائري للدراسات الإفريقية على غرار معاهد الدراسات الإفريقية في بعض البلدان العربية..
في هذا السياق، سبق لجريدة “الأيام نيوز” أن نشرت دراسة للدكتور “عبد القادر زبادية” بعنوان (تمبكتو عاصمة العلوم خلال القرن السادس عشر)، وتعمل على نشر بعض دراساته حول إفريقيا الغربيّة ومنها هذه الدراسة، والغاية هي التأسيس لإعلام ثقافي يركّز خاصة على إفريقيا الغربية وبلدانها التي نرتبط بها ارتباطًا وثيقا وتمثّل امتدادًا تاريخيًّا وجغرافيًّا لبلادنا من خلال موروث عظيم لا سيما ما سطّره عماؤنا مثل الإمام “عبد الكريم المغيلي”، إضافة إلى بعض الزوايا التي ما زال لها حضورٌ قويٌّ وفاعل في إفريقيا الغربية. وفيما يلي، نترك القارئ مع دراسة المؤرّخ الجزائري الدكتور “عبد القادر زبادية”..
إفريقيا في ظلال الإسلام
من الحقائق الثابتة أن الإسلام قد وصل إلى إفريقيا جنوب الصحراء منذ القرن الثامن الميلادي وانتشر منذ ذلك الحين بسرعة هائلة، ويعزو المؤرخون أسباب إقبال الإفريقيين على اعتناق الإسلام منذ البداية إلى ما تحتويه تعاليمه من مبادئ العدالة والبساطة والمساواة. وهي التقاليد الاجتماعية ذاتها التي تتلاءم والحياة الطبيعية للفرد الإفريقي في العادة، ويذهبون أيضا إلى أن الإسلام بالنظر لهذه الوضعية العلمية قد أصبح دينًا إفريقيًّا أساسيا ولا توجد منطقة في إفريقيا لم يصلها الإسلام أو لم يكن له تأثير في ثقافتها.
ومن الحقائق الثابتة كذلك أن الإسلام لم يصل إلى إفريقيا بحدّ السيف، كما أن نظام العبودية لم تكن أسبابه إسلامية في يوم من الأيام. وقد عاشت إفريقيا مع الاسلام، فتفتّحت على ثقافة عالمية وارتبطت بعالم كان متطورا إلى فترة قريبة جدا، ثم جاءت فترة الاستعمار الأوروبي المباشر في القارة الإفريقية، فتمخّضَت عن تطورات جديدة، هي التي يجب أن تكون موضوع اهتمامنا هنا.
لا يوجد بلد إفريقي يخلو من المسلمين اليوم، وتتراوح نسبتهم باختلاف البلدان في كامل القارة بين 5 إلى 90 بالمائة. وللإسلام في إفريقيا تاريخ طويل يمتدّ على أربعة عشر قرنًا كاملة، وقد ساهمت الثقافة الإسلامية في نقل شعوب القارة من العزلة والوثنية إلى الامتزاج في صف الحضارة العالمية والانخراط في ديانة التوحيد، كما ساهمَت في تأسيس الدول، وتخطّي المفهوم القبَلي الضيّق لدى الشعوب الإفريقية، وهذا قبل أن يعرف الأوروبيون أيّ شيء عن القارة وشعوبها. وبذلك كان للإسلام مجال السّبق في إيجاد مبدأ توحيد الدول والشعوب والحكومات في إفريقيا، وكان المحرك العملي لخلق الوطنية لدى المسلمين الأفارقة.
تغريب إفريقيا..
وليس المهم هنا هو تتبّع كل التطورات التاريخية الناصعة للإسلام في إفريقيا لأن هذا ليس جديدا، ولا طارئا، وإنما الجديد هو ما تمخّضَت عنه الفترة الأوروبية منذ نهاية القرن التاسع عشر من القضاء على اللغة العربية، وإدخال الديانة المسيحية ورعايتها، وإيجاد اتجاهات جديدة في الفكر الإفريقي عن طريق خلق طبقة اجتماعية جديدة ذات إيديولوجية تختلف عن ايديولوجية الأسلاف ورعايتها. فقد قام كل من الإنكليز والبرتغاليين والإسبان والألمان والفرنسيين والبلجيكيين بدور متشابه في هذا الصدد، وذلك في كل قطعة احتلوها على أرض إفريقيا، وإن اختلفت طريقة استعمارهم إلا أن الهدف والنتائج كانت واحدة.
التأثيرات الفرنسية في إفريقيا
وإذا كنّا لا نستطيع هنا دراسة كل منطقة مُستعمَرة على حدةٍ تبعًا للبلد الأوروبي الذي استعمرها فلنأخذ المناطق التي استعمرها الفرنسيون كمثال فقط وهذا يعطينا صورة عن التطورات الجديدة بصورة عامة، وعن الأساليب العلمية التي اتُّبِعت للوصول إلى الأهداف المرسومة لبلوغ تلك التطورات والتّمكين لها. وسنتوقف عند التأثيرات الجديدة للفرنسيين في مستعمراتهم الإفريقية، وأساليبها العملية.
الإنسان الجديد في إفريقيا
إنّ التساؤل عن الأسباب التي أدّت إلى التطورات الشخصية أو النفسية السريعة في إفريقيا الغربية يمكن اعتباره في صميم الموضوع، ذلك أنه في خلال أقل من نصف قرن أمكن للفرنسيين إحلال اللغة الفرنسية محلّ اللغة العربية، وأمكن لهم كذلك خلق جيل – مهمَا تكن نسبته المئوية ضعيفة – فإنه استطاع أن يركّز للاعتزاز بالفرنسية وللارتباط المصيري بها في كامل المنطقة الناطقة أو المستعملة للفرنسية في إفريقيا الغربية والمدارية.. عُرف عن الاستعمار الفرنسي دائما الأسلوب المباشر في حكم المستعمرات، وفي مجال التعليم بصورة خاصة كان هدف الإدارة الفرنسية في المستعمرات دائما هو السير بالناس، وبمختلف الأساليب، كي يتحوّلوا إلى فرنسيين لغةً وعقليةً وارتباطا وهو ما يعرف لدى الفرنسيين بـ “سياسة المزج أو الاندماج”.
وأذكر بهذه المناسبة أنه في مؤتمر المؤرخين الإفريقيين، الذي انعقد في شهر ديسمبر من سنة 1975 في “ياوندي” عاصمة جمهورية “الكاميرون”، كان هناك جمهور غفير من مثقفي إفريقيا وخاصة الغربية والاستوائية، وكان هناك بحث قدّمه أحد الأساتذة النيجريّين وموضوعه الهجرة من المناطق الخاضعة للاستعمار الفرنسي نحو المناطق الخاضعة للاستعمار الإنكليزي، ورغم أن الموضوع كان هامًّا وكان مدعومًا بالوثائق والإحصائيات المقنعة، إلا أنه حين انتقل الباحث إلى الحديث عن الأسباب المتمثلة في طبيعة الاستعمار الفرنسي من حيث كونه استعمارا مباشرا كان قد ضايق الأهالي وخاصة في قوانين “المزج” (Assimilation)… ثار الكثيرون في شكل هوسٍ واعتبروا مثل هذا التحليل الواقعي قدحًا في الاستعمار الفرنسي لصالح الاستعمار الإنكليزي!
ويوجد الآن في إفريقيا الغربية تطاحنٌ واضح بين اللغتين الإنكليزية والفرنسية، ويهتم بهذا الموضوع معظم المثقفين بالثقافة الفرنسية، كأنّ هذا الموضوع يهمّ بلدانهم بمثل ما يهتم به بعض المثقفين والساسة الفرنسيين. ويتمّ تعيين المتخرّجين الجدد من الجامعات بإفريقيا الغربية من طرف الجامعات الفرنسية ويتلقّون الإشعار بالترقية من طرف الجامعات الفرنسية، ويشكّل هؤلاء طبقة ممتازة في بلدانهم ترتبط أشدّ الارتباط بالدفاع عن الثقافة الفرنسية في إفريقيا.
ولا يقبل الأستاذ “هاريجريفس” (Hargraeves) النظرية الشائعة لدى حكام إفريقيا الغربية السابقين من كونهم قد مكّنوا للثقافة الفرنسية وللديانة المسيحية بدرجة كافية. والأستاذ “هاريجريفس” من أقدم الاختصاصيين الباحثين الإنكليز في تاريخ المستعمرات الفرنسية في إفريقيا وتطورها الاجتماعي والثقافي، ويغلب على استنتاجاته التأثّر الديني.
والواقع أن اللغة العربية كانت لغة إفريقيا الغربية والمداريّة حتى الحرب العالمية الأولى، ولعل أول عمل رسمي لإيقافها نهائيا كان هو المرسوم الذي أصدره حاكم إفريقيا الغربية في سنة 1911 والقاضي بتحريم التحرير بالعربية في المحاكم منذ ذلك التاريخ.
لقد كان للوجود الفرنسي في سواحل إفريقيا الغربية تاريخ طويل يعود الى القرن السادس عشر، ولكن العمل المنظم ضد وجود العربية وإحلال الفرنسية محلّها إنما بدأ مع بداية القرن العشرين، ويعود للمفتش “جورج هاردي” (G. Hardy) الفضل الكبير في إعطاء الطابع الحقيقي لأهداف اللغة والثقافة الفرنسية في إفريقيا الغربية، فقد جاء مفتشا للتعليم في تلك المستعمرات في ظروف صعبة هي ظروف الحرب الكونية الأولى. ووجد معظم القرى لا يقبل سكانُها وجود المدرسة الفرنسية ولا المعلمين الفرنسيين، ويفرّون من القرية في جنح الظلام حينما يُفرض وجود المدرسة في قريتهم بالقوة، كما وجد المستوطنين الفرنسيين ورجال الشركات وأصحاب الأعمال ضد تعليم الإفريقيين، لأن ذلك في نظرهم كان ممّا سيخلق يقظة في المستقبل قد تؤدي إلى الفوضى والضرر بالمصالح التي يجنونها من مستعمراتهم.
ولكن “هاردي” وجد من الحكام العامين آذانا صاغية، فراحَ يشجع امتداد المدارس الفرنسية إلى جميع المناطق الاستراتيجية في تلك البلاد الشاسعة، وأعطى للمعلمين كل المساعدة وراح يختار ذوي الخبرة من بينهم، وذوي الجرأة والصبر وقوة العزيمة..
واعتبر “هاردي” أن تعليم المستعمرات إنما هو تعليم النُّخبة التي ستربط البلاد نهائيا بفرنسا، وأنه يجب أن يكون عبارة عن فتح أخلاقي وثقافي، ومن ثم فهو لا يخضع لمقاييس التعليم العام في فرنسا، وليس هدفه تكوين علماء ولا حتى ذوي معرفة على الشكل الكلاسيكي في أوروبا، وإنما هو عبارة عن تعليم في شكل خاص، فلا تُدرّس فيه الكيمياء ولا الفيزياء مثلا إلا بالمقادير المحدودة والعامة جدا في الأطوار النهائية، وبدلا عن ذلك يُدرَّس فيه المناخ في فرنسا وإفريقيا الغربية، ويُعتبر مادة أساسية، ويُدرّس فيه النّبات في فرنسا وإفريقيا الغربية، ويعتبر ذلك مادة أساسية، ويُدرّس فيه المحيط والجغرافيا الطبيعية في فرنسا وإفريقيا الغربية، ويعتبر ذلك مادة أساسية، وتُعطى في هذا التعليم الأولوية لكل ما تحتوي عليه فرنسا من ضروب التقدّم والرقي.
ویرى “هاردي” أن جميع الخرّيجين من الأفارقة يجب أن يُضمن لهم مجال العمل حتى يكونوا القُدوة لغيرهم. وفضلا عن ذلك فقد عيّن “هاردي”، ولأول مرة، معلِّمين إفريقيين من بين الخرّيجين. وفي سنة 1916، أرسل عددا من الخرّيجين الذين لم يُستعملوا في التعليم إلى “الدار البيضاء” في المغرب الأقصى حيث هُيِّئت لهـم وظائف..