من أوراق المؤرخ الجزائري “عبد القادر زبادية”.. إفريقيا الغربية.. كانت إسلامية وناطقة بالعربية! (الجزء الثاني)

ماذا لو كانت إفريقيا قارة إسلامية وناطقة باللغة العربية؟ لقد أدركت القوى الاستعمارية الأوروبية بأن القارة السمراء كانت متّجهة لأن تكون كذلك، فاشتركَت جميعُها: الإنكليزية والبرتغالية والإسبانية والألمانية والفرنسية والبلجيكية.. في محاربة الإسلام واللغة العربية، وفي المقابل نشر المسيحيّة والتّحالف مع الوثنيّة، لأن التبشير المسيحي الاستعماري لم يكن يهتمّ بنشر المسيحية بقدر ما كان يهتمّ بإخراج المُسلمين من دينهم الإسلامي.

على امتداد أكثر من 14 قرنًا، أسهمت الثقافة الإسلامية في تحرير كثيرٍ من الشعوب الإفريقية من الوثنية والعزلة، وفتحت أمامها أبواب التواصل الحضاري تحت راية دين التّوحيد، فظهرت ممالك إسلامية في إفريقيا الغربية اشتهرت بازدهارها وقوتها على مدى قرون من الزّمان. غير أن نهاية القرن التاسع عشر كانت بداية انحصار الإسلام واللغة العربية في إفريقيا الغربية وعودة شعوبها إلى النّزعات القبَليّة والوثنيّة والعزلة عن العالم، بسبب الاستعمار الأوروبي وخاصة الاستعمار الفرنسي الذي قام بقطع الصلات بين إفريقيا الغربية وشمالها.

الاستعمار الفرنسي كان الأنموذج الاستعماري الأكثر تدميرًا لإفريقيا الغربية “في خلال أقل من نصف قرن أمكن للفرنسيين إحلال اللغة الفرنسية محلّ اللغة العربية، وأمكن لهم كذلك خلق جيل – مهما تكن نسبته المئوية ضعيفة – فإنه استطاع أن يركّز للاعتزاز بالفرنسية وللارتباط المصيري بها في كامل المنطقة الناطقة أو المستعملة للفرنسية في إفريقيا الغربية والمدارية”. إضافة إلى المشاريع التبشيرية المُمنهجة، ومدارس التعليم التي لم تكتف بمحاربة اللغة العربية والإسلام، بل انتهجت طُرقًا تعلميّة لمحو تاريخ إفريقيا وحجبه عن الأفارقة، والتركيز على تعليمهم التاريخ الفرنسي..

تُشير الوقائع إلى أن “اللغة العربية كانت لغة إفريقيا الغربية والمدارية حتى الحرب العالمية الأولى، ولعل أول عمل رسمي لإيقافها نهائيا كان هو المرسوم الذي أصدره حاكم إفريقيا الغربية في سنة 1911 والقاضي بتحريم التّحرير بالعربية في المحاكم منذ ذلك التاريخ”.

إذا كانت فرنسا قد استثمرت وجودها الاستعماري في غرب إفريقيا الذي امتد لأكثر من مائة عام، فإن العرب والمسلمين لم يستثمروا انتشار الإسلام واللغة العربية في هذه المنطقة لأكثر من ألف وأربعمائة عام! بل إن النفوذ الفرنسي في إفريقيا الغربية مرتبطٌ باللغة الفرنسية قبل كل شيء، بمعنى أنّ “موت” هذه اللغة وثقافتها في إفريقيا الغربية هو الموت “النهائي” للنفوذ الفرنسي في هذه المنطقة من العالم..

ويبدو أنه علينا أن نقتنع أولا بأن إفريقيا الغربية كانت إسلاميّة، والعربية كانت هي لغتها الأولى قبل القرن التاسع عشر أو ما يُمكن تسميته “المرحلة الأوروبية”. وانطلاقا من هذه القناعة يجب العمل على استثمار حقائق التاريخ لإعادة بعث إفريقيا الغربية الإسلامية والعربيّة بكل ما يعنيه هذا الأمر من “تحرير” إفريقيا، والقضاء على مشاريع الغرب الأوروبي خاصة الذي ما زال متمسّكًا بنزعته الاستعمارية في التعامل مع بلدان القارة السمراء..

وحتى “نصدّق” بأن إفريقيا الغربية كانت إسلامية، نعيد نشر دراسة أعدّها الدكتور الجزائري “عبد القادر زبادية” (1933 – 2013) بعنوان “أربعة عشر قرنًا حافلة من تاريخ الإسلام في إفريقيا والتطورات الجديدة”، نشرها في مجلة “الأصالة” الجزائرية في شهر نوفمبر 1979. ويُعتبر “زبادية” من أبرز المؤرّخين الجزائريين في تاريخ إفريقيا الغربية (تأليفًا وتحقيقا للمخطوطات)، فهو أول من أدخل تخصّص الدراسات الإفريقية إلى الجامعة الجزائرية، ودعا إلى تأسيس معهد جزائري للدراسات الإفريقية على غرار معاهد الدراسات الإفريقية في بعض البلدان العربية..

في هذا السياق، سبق لجريدة “الأيام نيوز” أن نشرت دراسة للدكتور “عبد القادر زبادية” بعنوان (تمبكتو عاصمة العلوم خلال القرن السادس عشر)، وتعمل على نشر بعض دراساته حول إفريقيا الغربيّة ومنها هذه الدراسة، والغاية هي التأسيس لإعلام ثقافي يركّز خاصة على إفريقيا الغربية وبلدانها التي نرتبط بها ارتباطًا وثيقا وتمثّل امتدادًا تاريخيًّا وجغرافيًّا لبلادنا من خلال موروث عظيم لا سيما ما سطّره عماؤنا مثل الإمام “عبد الكريم المغيلي”، إضافة إلى بعض الزوايا التي ما زال لها حضورٌ قويٌّ وفاعل في إفريقيا الغربية. وفيما يلي، نترك القارئ مع دراسة المؤرّخ الجزائري الدكتور “عبد القادر زبادية”..

المدرسة (الفرنسية – الإسلامية).. وسيلة استعمارية!

لقد أخذت المدرسة الفرنسية في إفريقيا الغربية طابعها النهائي مع بدايات الحرب العالمية الأولى، وذلك في وقت كانت هذه المدرسة قد مرّت بتجارب واكتسبت خبرات في شمال إفريقيا وخاصة في الجزائر. وعندما بدأت المدرسة الفرنسية تأخذ طابعها النهائي في إفريقيا الغربية، كان في تلك البلاد عدد كبير من المدارس العربية التي تأسست في الماضي وبعضها كان له شهرة كبيرة وقديمة مثل مدرستَي: “تمبكتو” و”جنى” اللتين بلغتا درجة الجامعات في أيام “الإسقيين” على الخصوص، ولم يكن من صالح الفرنسيين إغلاق تلك المدارس التي انتشرت لها فروع في عديد من الجهات، كما لم يكن من صالحهم أبدا تركها تؤدّي دورها كما كانت تعمل في الماضي، وهذا ما دعاهم إلى استعمالها لصالحهم، فقد ركّز الفرنسيون اهتمامهم على جلب أبناء الوجهاء والعائلات الشهيرة في المنطقة ليرتبطوا عن طريقها بالحكم الفرنسي منذ الصِّغر.

أما التعليم في تلك المدارس، فقد وُضع له برنامج خاص يصف “هاردي” دواعيه بقوله: “لقد كان هناك اقتناع بأنه يوجد في غرب إفريقيا كما في الجزائر وتونس والمغرب الأقصى ثقافة إسلامية، وذلك يدفعنا إلى القيام ببعض التنازلات لهذه الحضارة التي سبقت وجود حضارتنا، وأيضا بُغية التسهيل لقبول تعليمنا الفرنسي فقد كان علينا أن نشتغل بالإبقاء على نوع التعليم الرسمي للإسلام واللغة العربية بحيث تكون واسطة بين المدارس القرآنية والمدارس الفرنسية، ويستهدف العمل على نسيان الأولى وقبول الثانية”.

لقد كانت كل المدرسة (العربية – الفرنسية) (Ecole franco-arabe) أو “مدرسة” (Medersa) كما كانت تُسمّى أيضا، تؤدّي خدمة لانتشار الفرنسية على حساب اللغة العربية التي كانت حتى ذلك الوقت لغة العلم والدين معا. ويتحدث “هاردي” عن البرنامج الخاص بتلك المدارس، فيقول: “إن برنامج هذه المدارس قد تحوّل نهائيا فلم تصبح جامعات إسلامية، وإنما هي بالضبط مدارس “فرنسية – عربية” يأخذ فيها اللسان الفرنسي والعلوم الفرنسية بالناصية أكثر فأكثر وذلك على حساب اللغة العربية والعلوم العربية. وعلى سبيل المثال، فإن تعليم العربية قد تحرّر من الطُّرق العربية الصِّرفة وأصبح عبارة عن ترجمات من العربية إلى الفرنسية، وبهذا أمكن تحويل الدّرس المخصص للعربية إلى دروس الفرنسية”.

ثم يستطرد “هاردي” إلى القول: “ومن ناحية أخرى، فإن العربية والعلوم العربية من نحوٍ وبلاغة وعروض وقانون أصبحت لا تستوعب كل الوقت، بل نستطيع القول بأنها أصبحت لا تؤدي أكثر من رموز وذكريات في استعمال الزمن، وقد اختلط بها تعليم الفرنسية والتاريخ والقانون والجغرافيا والحساب والعلوم المستعملة، وبكلمة واحدة فإن اللغة العربية لم يصبح لها من ذلك التاريخ في برنامج المدارس الفرنسية العربية أكثر من الدور والمكانة التي تحتلها اللغات الأجنبية في الثانويات الفرنسية”.

وبالإضافة إلى هذا فقد ألحق الفرنسيون ببرنامج المدارس (الفرنسية – العربية) تدريس اللهجات المحلية وذلك على حدّ تعبير “هاردي”: “لأنه يوجد أحيانا خط التقاء بين تعليم لغتنا واللهجات الإفريقية، ذلك أن مهنة المترجم تحتاج إلى تدريب وطني، وطلابنا في الغرب الإفريقي تكون لهم مناسبات للترجمة من العربية إلى الفرنسية أقل بكثير من تلك المناسبات التي يحتاجون فيها للترجمة من اللهجات المحلية الى الفرنسية”.

وقد كان لخرّيجي هذه المدارس دور خاص بهم، فهم مساعدو الإدارة الفرنسية في شؤون الأهالي وخاصة الحالات ذات الصبغة التقليدية والعائلية، وفي هذه الوضعية نجد الفرنسيين يطبّقون القاعدة التي طبقوها في شمال إفريقيا على خرّيجي المدارس الفرنسية، وقد عبّر “هاردي” بكل وضوح على الدور الخاص لخريجي المدارس (الفرنسية – العربية) كما كانت تستدعيه المصلحة الفرنسية، بقوله: “وبما أن مدارسنا تستهدف التصاق الطلبة بالتراب، وتعويدهم على العمل اليدوي أو تحضير قائمين ببعض المصالح التقنية مثل إدارات البريد والأشغال العامة، فإن المدارس (الفرنسية – العربية) تكوّن بصورة عامة مترجمين رسميين قضاة أو كُتّاب ضبط للمحاكم الأهلية ورؤساء للجمعيات المحلية الأهلية، وبعبارة واحدة مساعدين لإدارتنا وعدالتنا، وهذا ما يجعل من الضرورة تعويدهم على اللسان الفرنسي قراءة وكلاما، ومن الضرورة كذلك أن يكونوا على معرفة جيدة بأغراضنا الحضارية”.

وعلى عكس ما فعل الفرنسيون في الجزائر، حينما اصطدموا اصطداما مباشرا مع الطبقة البورجوازية، فإنهم في إفريقيا الغربية اعتمدوا على بعض المتعاونين معهم بين أفراد تلك الطبقة فجعلوا تعليم أولادهم وفق المخطط الفرنسي في المدارس (الفرنسية – العربية) ضمانة وهدفا، ويشرح “هاردي” هذه الحقيقة أكثر فيقول: “بما أنه من المفروض أن المدارس (الفرنسية – العربية) لا توظّف طلابها عن طريق الصدفة، ولذلك فهي لا تمتلئ إلا بالنخبة الاجتماعية.. وهذا يعنى استعمال الطبقات الأرستقراطية الحاضرة وعلى مختلف المستويات في هذه البلدان الجديدة كضمانات جديدة.. ومن ناحية أخرى، فإن المدارس (الفرنسية – العربية) الثلاث في إفريقيا الغربية إنما هي في الواقع وقبل كل شيء مدارس لأبناء وبنات الوُجهاء. إن مدرسة تمبكتو التي هي أكثر شبهًا بمدرسة الجزائر قد أقيمت في منطقة حضارية إسلامية قديمة وهي بالتالي تستقبل أبناء الأمراء والعلماء المشهورين في حوض النيجر.  أما مدرسة (بوتليميت) التي وُضعت إلى حد ما تحت الرئاسة الشرفية للشيخ (سيدنا) فهي تجمع أحفاد العائلات الكبيرة للترارزة والبراكنة والعصابة الذين كان آباؤهم قد لعبوا أدوارًا مهمة في مختلف مراحل الاحتلال الفرنسي.. وتُعتبر مدرسة (سان لويس) أكثر أهمية وهي تمتلئ بشروط مماثلة، وتقبل طلابها من بين قبائل: الأولوف، التّوكولور، الموريطانيين، الفُلّان، السّريس، الماندينغ، السراكوليين، البمبارا. وهناك طالب على الأقل من أبناء الملوك السابقين في الناحية.. كما تأوي هذه المدرسة الأبناء الثلاثة لسلطان (وضاي) السابق الذين بعد أن أمضوا بعض الأشهر في ثانوية الجزائر، قدّر الحاكم العام لإفريقيا الاستوائية الفرنسية أن يعهد بهــــم إلينا”.

وينتهي “هاردي” إلى النتيجة التالية: “إن هذه المدارس الثلاث بعد أن تحوّلت وفق أهداف محددة لإفريقيا الغربية الفرنسية.. تستحق البقاء، وهي إلى جانب المدارس الأخرى تكفي لأن تهيّء لفرنسا رعايا مخلصين ومطيعين”.

تغييب تاريخ إفريقيا من المناهج التعليمية الاستعمارية

في سنة 1972 صرح نائب “لاليه” (L’Allier) في الجمعية الوطنية الفرنسية السيد “بيروني” (Peronnet) لمجلة “الحوليات الاستعمارية” (Annales coloniales)، قائلا: “إن هناك مادة أريد أن أرى اختفاءها دون تأسِّف ألا وهي مادة التاريخ، ويكفي أن تُعوّض أثناء درس الفرنسية ببعض القراءات لتعطي لطلاب (المستعمرات) فكرة عن قوة بلادنا”.

وقد طبّق الفرنسيون هذه النظرية في البرامج المُخصَّصة لمدارسهم في إفريقيا الغربية بكل دقة، فكانت فكرة “هاردي” تقتضي تدريس التاريخ وفق الأهداف التي تبرّر الوجود والاحتلال الفرنسي للمنطقة، بل وتؤدي إلى اقتناع الطلاب بوجوب بقائه. ولتجسيم هذه الفكرة يقرّر “هاردي” أن المعلّم الفرنسي يجب أن يُوضع في قسم تتخلّله خطوط متشابكة لتجسّم المدفع الذي عياره 75 مم، وذلك هو التاريخ. فإن أضيف إلى هذا حُسن التنسيق والاختراع في تقديم المادة فإن ذلك سيتناسب كل التناسب مع عقلية الأهالي القابلة للخوارق، وعلى حـد تعبيره فإن تدريس التاريخ في المستعمرات يجب أن يبتعد عن أيّ تأثير كان قد عرفه “میشلي” (Michelet) وهو أحد أصحاب النظريات الفلسفية المشهورين، ورائد للمدرسة الفرنسية الحديثة في علم التاريخ.

لقد كانت الإدارة الفرنسية في حاجة إلى دراسة الأهالي نفسيًّا واجتماعيا حتى تتمكّن من حكمهم، وقد كان لرؤساء الأقسام العسكرية منذ البداية مساعدون لجمع المعلومات الشفاهية حول القبائل المختلفة، واعتبروا ذلك هو التاريخ الذي يجب أن يعرفه الناس ويتدارسوه، وكان من أشهر الكُتّاب الفرنسيين الرواد وفق هذا الأسلوب: “مارتي” و”موريس دولافوس”.

ففي حين كان الأول جمَّاعًا للمعلومات الشفاهية ومُتحرِّيًا للأغراض الإدارية والسياسية للاحتلال الفرنسي فيما يكتبه، كان الثاني حاكما لأعالي السنغال والنيجر، ثم انتصب أستاذا (حُجّة) في تاريخ إفريقيا الغربية بباريس.. ووفق طريقهما أصبح هناك تاريخ للقبائل المنطقة الفرنسية بإفريقيا الغربية والاستوائية من نوع خاص تُهمَل فيه الوثائق المكتوبة بالعربية وقد يشار إلى بعضها أحيانا بشكل مقتضب، وتُعتمد المصادر الشفاهيّة اعتمادًا كليًّا.

ولا يزال لهذه المدرسة أثرها القوي في فرنسا.. وتضع هذه المدرسة كأساسٍ الطريقةَ الإثنولوجية نصب أعينها فيصبح تاريخ المنطقة عبارة عن حركة مطردة للقبائل في تنقلاتها التاريخية بين الشمال والجنوب، وتفسِّرها علاقاتها بالعرب أنها كانت لا تتجاوز في نوعيتها العلاقة الاستغلالية التجارية في أبشع صورها وخاصة قضية الرّقيق والذّهب!

وكانت الإدارة الفرنسية منذ البداية قد قطعت الصلات الإنسانية بين إفريقيا الغربية وشمالها، وكوّنت وحدات جيش المَهارى (الجِمال السريعة) لمراقبة الحدود وإنهاء حركة القوافل القديمة، وبذلك حرّمت كل تنقّل عن طريق القوافل.. وبقيت هذه الوضعية قائمة حتى استقلال كل من شمال إفريقيا وغربها. وأثناء هذه الحقبة الطويلة، التي استمرَّت حوالي نصف قرن، تمكّن الفرنسيون من التشجيع على ظهور تقاليد سودانية خاصة في مجال الديانة، وذلك بالتدخل المباشر..

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا