من أوراق المؤرخ الجزائري “عبد القادر زبادية”.. “سنغاي”.. من أقوى الممالك الإسلامية في إفريقيا الغربية (الجزء الأول)

أطلق العرب على إفريقيا الشرقية اسم “بلاد الزنج”، في حين أطلقوا على المناطق الغربية المحاذية لبلدان المغرب العربي اسم “السودان” (عُرف باسم “السودان الغربي”). وقد ظهرت عدّة ممالك في “السودان الغربي” منها: مملكة “غانا” ومملكة “مالي”، بالإضافة إلى مملكة “سنغاي” التي كانت تُعتبر أقوى الممالك الإسلامية في القرن السادس عشر، وقد عرفت في عهد الإسقيين “أزهى عصور انتشار الثقافة (العربية – الإسلامية) في السودان الغربي كله، كما يمثل الفترة التي بلغ فيها ازدهار التبادل بين سكان السودان الغربي والعالم الخارجي أوجه”.

ذهب بعض المؤرّخين، خاصة الغربيين، إلى “طمس الدور الهام للمسلمين والحضارة الإسلامية في المنطقة”، كما “ذهب الكثيرون من كُتّابهم (الأوروبيين) إلى التركيز على أن العرب بصورة عامة والمغاربة من بينهم بشكل خاص، لم يكونوا إلا تجّارًا للعبيد ومُستغلّين لشعوب السودان الغربي”.

وقد بذل الدكتور الجزائري “عبد القادر زبادية” (1933 – 2013) جهودا كبيرة في دراسة تاريخ إفريقيا الغربية (تأليفًا وتحقيقا للمخطوطات)، فهو أول من أدخل تخصّص الدراسات الإفريقية إلى الجامعة الجزائرية، ودعا إلى تأسيس معهد جزائري للدراسات الإفريقية على غرار معاهد الدراسات الإفريقية في بعض البلدان العربية..

وحول مملكة “سنغاي”، قال “زبادية”: “وفي هذا المضمار وجدتُ أن وصول الدين الإسلامي والعرب قد أدّيَا للمنطقة التي حكمها الإسيقيون فوائد حضارية لا يمكن إنكارها. وإذا كان بعض المؤرّخين الحديثين يذهبون إلى إنكار الدور الحضاري للعرب في السودان الغربي، وتفسير كل فعالياتهم في المنطقة على أساس استغلالي، فقد تأكد لي أن هذا الزعم لا يمثل الحقيقة بكل جوانبها”..

هذه مقالة نشرها المؤرّخ بمجلة “الأصالة” الجزائرية في شهر جوان 1978، استعرض فيها رسالته الجامعية التي نال بها درجة الدكتوراه ثم أصدرها في كتاب تحت عنوان “مملكة سنغاي في عهد الإسيقيين (1493 – 1591). و”سنغاي” نسبة إلى قبيلة كانت تسكن النيجر “حول حدود الغابات الاستوائية في سنوات الميلاد”، وهي كلمة تختلف كتابتها ومنطوقها من باحث إلى آخر. وفيما يلي نترك القارئ يستكشف “مملكة سنغاي” خلال القرن السادس عشر..

العرب في أدغال إفريقيا

كان العرب المسلمون أول أمّة توغّل رحّالتها ومكتشفوها في مجاهل القارة الإفريقية، وتعرّفوا بسكّانها وأوصلوا إليهم كل جديد في ميدان الحضارة الإنسانية، ومنذ القرن السابع للميلاد وحتى نهاية القرن السابع عشر ظل الأوروبيون يجهلون كل شيء تقريبا عن داخل إفريقيا، باستثناء ما كانت تُتيحه لهم كتابات الرحّالة والجغرافيين العرب. وقد أطلق العرب على إفريقيا الشرقية اسم “بلاد الزنج” في حين أطلقوا على المناطق الغربية المحاذية لبلدان المغرب العربي اسم “السودان”، وكثيرا ما كانوا يستعملون هذا الاصطلاح في صيغة الجمع مراعين في ذلك اتساع المنطقة وتعدّد قبائلها، فيقولون: “السَّوادين”.

الزِّنجية.. فكرة استعمارية

ولما احتل الأوروبيون السودان الغربي وبلدان المغرب جميعها، كادت تنقطع مجالات الاتصال بين الطرفين في شكلها المثمر الذي كانت عليه في القديم. ولم يكتف المستعمرون بالعمل على قطع تلك الصلة، وإنما راحوا يحاولون المسّ بالحقائق التاريخية ذاتها، فذهب الكثيرون من كُتّابهم إلى التركيز على أن العرب بصورة عامة والمغاربة من بينهم بشكل خاص، لم يكونوا إلا تجّارًا للعبيد ومُستغلّين لشعوب السودان الغربي. وكما هي العادة في كل بلد يصير مآله إلى التحكّم المباشر له من طرف الأجانب، فقد نشأت طبقة من بين السودانيين أنفسهم تدعو إلى ما يدعو غلاة الاستعمار من اعتبار حقبة الحضارة الإسلامية بالسودان الغربي فترة عارضة، أما الأساس الذي يجب أن يُعتنى به، فهو عهد البدائية السابق للإسلام وأعمال “التحضّر” التي أدخلها المستعمرون منذ نهاية القرن التاسع عشر.. وهذا هو جوهر فكرة “الزنجية” التي تدعو إليها، وتعمل على تعميقها وإكسائها ثوبًا فلسفيا بعض الفئات السودانية المتخرّجة من المدارس الفرنسية، ومن ورائهم جمع كبير من فلاسفة ومفكّري الاستعمار الغربي في عالم اليوم.

إمارة “سنغاي”

والهدف واضح من وراء عمل الطرفين وهو يتلخص في طمس الدور الهام للمسلمين والحضارة الإسلامية بالمنطقة. ولمّا استردت الجزائر شخصيتها وملكت مصيرها بنفسها، كان من واجب الباحثين الجزائريين والمغاربة بصورة عامة أن يلقوا الأضواء على الدور الجليل للحضارة العربية والمغاربة منذ القديم في ربط الاتصال مع جيرانهم في جنوب الصحراء والتعامل لما فيه فائدة الجميع، وقد كان من أبرز آثار الحضارة العربية في السودان الغربي، هو مساعدة السكان على تخطّى الشكل القبلي القديم، وتأسيس ممالك لها صبغة وطنية، وكانت إمارة “سنغاي” التي تأسست منذ القرن الثامن الميلاد، من أهم الإمارات التي ظهرت في غرب السودان، وقد قُيّض لها في القرن السادس عشر أن تصبح إمبراطورية كبيرة ضمّت تحت لوائها معظم شعوب غرب السودان، وقد مثّل عهدها هذا أوج ازدهار الحضارة الإسلامية في الغرب الإفريقي. وقد كان هذا هو الموضوع الذي اخترته لهذا البحث.

دوافع البحث في تاريخ إفريقيا

وتعود بداية اهتمامي بالبحث في تاريخ إفريقيا إلى وقت تخرّجي من جامعة بغداد سنة 1961. أما الحوافز فمصدرها عدّة اعتبارات، يتمثل الاعتبار الأول منها في أن هناك حركة دائبة حاليا في مختلف الجامعات العالمية، لتقصّي التاريخ الإفريقي واستجلائه، ولعل في هذا ما يجعل مساهمة الأوساط الجامعية لدينا على درجة كبيرة من الأهمية، خاصة وأن جامعة الجزائر توجد على أرض إفريقية لا يبخل شعبها بشيء في سبيل خدمة شعوب القارة الإفريقية والمساهمة في نهضتها. ومن هنا فإن إنشاء كرسي للدراسات الإفريقية في جامعتنا أمر تتطلّبه المعطيات التاريخية وحاجة التعاون (الجزائري – الإفريقي) في الظروف الراهنة والمستقبل.

ويتمثل الاعتبار الآخر في اعتقادي بأن من واجب الجامعة الجزائرية أن تساهم في فرع مهمٍّ من النشاط الذي يتوالى الاهتمام به حاليا في جامعات العالم، وذلك مما يجعل منها عنصرا إيجابيا بين تلك الجامعات، ويساعدها على التبادل والحركة.

وإذا اجتزنا اعتبارات الحاضر، فإن الحوافز الأخرى لاهتمامي بأبحاث التاريخ الإفريقي، يتجسّم قسم منها في أن العرب، في إبّان ازدهار حضارتهم، هم الذين جابوا القارة الإفريقية وكتبوا عنها، وساهموا ما أمكنهم في نهضة عدد كبير من الشعوب الإفريقية وتحضّرها، والباحثون اليوم يكادون لا يجدون من الوثائق الهامة عن التاريخ الإفريقي غير الكتابات العربية.

أما القسم الآخر من تلك الاعتبارات فيتمثّل قبل كن شيء في أن سكان المغرب العربي هم الذين أوصلوا الإسلام إلى غرب إفريقيا، وكان النصيب الأوفر في التبادل التجاري والتعامل الثقافي مع سكّانه ولا أزعم أن بحثي في موضوع “سنغاي” على عهد الإسيقيين، يؤدي أكثر من مجرد المساهمة في الدخول بأبحاث التاريخ الإفريقي إلى مرحلة الشروع في محاولات التعمّق الكفيل بإخصاب ميدانها، فإن جاء عملي يتناسب وهذا الحد، فذاك هو هدفي منذ البداية.

تاريخٌ يكتبه الهواة!

ولعله من الواجب على أن أقرّ هنا بأن كثيرًا من الصّعاب اعترضَت سبيلي، ويتمثل قسم منها في التعارض بين بعض الحقائق التي تزخر بها المصادر الأساسية وبين عدد من الآراء التي احتوتها المراجع الحديثة التي يبدو أن مؤلِّفيها غالبا ما يستوحون مبادئ ونظريات يظهر أنهم كانوا قد اعتنقوها مسبقا، وتأثروا فيها ببعض الفلسفات السياسية المعاصرة لهم، سواء في إفريقيا أو من خارج إفريقيا، وهذا مما يجعل مهمة الباحث النزيه عويصة في التأكد من الصحيح ونبذ غيره، وقسم من تلك الصعاب يتمثل في أن الموضوع لم يكن قد طُرق في السابق من طرف المختصّين إلا بشكل عارض، حيث أن أوسع الحالات التي عُولج فيها كان كسردٍ سياسي لتاريخ “سنغاي” العام من حدود القرن السابع قبل الميلاد حتى القرن السابع عشر الميلادي، وفي الغالب حصل ذلك من طرف أشخاص هواة للتاريخ وليسوا مؤرّخين، وهذا كله مما يجعل تجسيم كل ما يتعلق به في شكل مستقل وقائم بذاته، يتطلب المضاعف من الجهود والكثير من الاحتراز والتحرّي والاستقصاء.

تاريخ يدرس العموميات..

والثابت أن الجانب السياسي الذي يُعنى بحياة العترة الملكية في “سنغاي”، سواء في عهد الإسقيين أو قبلهم، قد طُرق معظمه، إمّا من طرف المؤرخين القدماء أو الحديثين. أما الجوانب الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، التي تُبيّن وضعية سكان المملكة ككل، فلم تُطرق من طرف المؤرخين المحدثين إلا لمامًا، ولكن الإشارات إليها لا تعوز الباحث إن هو دقّق النظر في مختلف المؤلفات القديمة وأحاط بها، وهذه الجوانب المغفلة هي التي اعتنى بها بحثي الحالي، وسعى إلى استجلائها وتجسيمها، وان كنت لا أعدّ هذا إلا جزءًا من مهمة كل الباحثين، فإني لا أريد أن أغفل ذكر الصعوبة التي اقتضاها مني استنطاق النصوص، والإشارات ومقارنتها وتحليلها..

والواقع أن الأبحاث في موضوع التاريخ الإفريقي قد تكاثرت منذ بداية الخمسينيات من القرن الماضي، ولكنها في معظمها لم تفتأ تُعنى بـ (العموميات) إن صح التعبير، ولم تكد تتجاوزها إلى الأبحاث الجزئية المتخصصة إلا في النادر اليسير، وفي معظم الحالات التي ظهرت فيها بعض الأبحاث من هذا النوع الأخير، إنما غلبت عليها النزعة إلى سد الحاجة التي اقتضاها ظهور الدول المستقلة في إفريقيا.. ومن ثم فقد جاءت المؤلفات في هذه الناحية ذات صبغة وطنية وعملية أكثر منها أكاديمية صرفة، واعتمدت على الحكايات الشعبية والمصادر غير المؤكدة أكثر من اعتمادها على الحقائق لذاتها.

وهناك قسم آخر منها كتَبه أشخاصٌ ربما كان همّهم البحث لذاته، ولكنهم في المواقع، كثيرًا ما تحكّمَت في توجيههم مآرب أو مبادئ سياسية معينة، فجاءت أبحاثهم في حالات عديدة، لا تقنع الباحث النزيه، ولا يستطيع أن يتغافل عما يلاحظه عليها من المآخذ. (من أوضح الأمثلة في هذا الميدان، كتاب “تاريخ إفريقيا” لـ “بيير كورنوفان”، فبالرغم من أن الكتاب أطروحة جامعية إلا أن المؤلف يتعمّد طمس معالم الحضارة العربية ودورها في إفريقيا، كما يعمد إلى التشويه، وافتعال عصور “مسيحية” في إفريقيا جنوب الصحراء ومجتمعات متأثرة بأوروبا، وهذا كله قبل القرن 16).

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا