منذ عرفَت وإفريقيا الغربية الإسلامَ وتوثّقت علاقاتها مع العرب في القرن الثامن الميلادي، دخلت في دائرة الحضارة الإسلامية وأصبحت جزءًا لا يتجزّأ منها. ورغم ما نسجه الغرب الاستعماري من أراجيف بأن العرب والمسلمين أجرموا في حق إفريقيا الغربية (أو السودان الغربي)، وكانت غاياتهم هي استعباد الأفارقة والهيمنة على ثرواتهم، فإن الواقع هو أنّ الاستعماري الغربي، وخاصة الفرنسي، في آخر القرن التاسع عشر، قضى على الممالك الإسلامية في الغرب الإفريقي، وأخرج الأفارقة من دائرة الحضارة وأعادهم إلى البدائية التي كانوا عليها.
وقد ترسّخ تكاملٌ حضاريٌّ وثقافي بين العرب والغرب الإفريقي، تجلّت مظاهره في العمارة والتعليم والفنون ونظام الحُكم.. وقد تأسّس خلال القرن الخامس عشر في الأزهر الشريف رواقٌ خاصٌّ بالأفارقة القادمين من الغرب الإفريقي سُمِّيَ: “رواق التّكرور”. ويُقال بأن ملك مالي “كنكان موسى” لما عاد من رحلة الحجّ عام 1325م، استقدم معه إلى السودان الغربي الشاعر والمهندسَ الأندلسي “الساحلي الغرناطي” ومجموعة من مساعديه، فقاموا ببناء المساجد والدُّور وطوّروا هندسة العمارة في تلك المنطقة.
في هذا المقال، رصد لنا المؤرّخ الجزائري الدكتور “عبد القادر زبادية” (1933 – 2013) الذي يُعتبر من أبرز المؤرّخين الجزائريين في تاريخ إفريقيا الغربية (تأليفًا وتحقيقا للمخطوطات)، فهو أول من أدخل تخصّص الدراسات الإفريقية إلى الجامعة الجزائرية، ودعا إلى تأسيس معهد جزائري للدراسات الإفريقية على غرار معاهد الدراسات الإفريقية في بعض البلدان العربية والغربية.. رصد لنا بعض مظاهر التكامل الحضاري والثقافي بين العرب والسودان الغربي، وعرّفنا بالعمارة والمقاييس والمكاييل والموازين وأبرز علماء تلك المنطقة الذين ألفوا باللغة العربيّة..
المقال استخلصناه من كتاب المؤرّخ “زبادية” الذي نشره عام 1989 بالجزائر تحت عنوان “الحضارة العربية والتأثير الأوروبي في إفريقيا الغربية جنوب الصحراء: دراسات ونصوص”، وهو امتداد لسلسلة من المقالات التي كتبها المؤرّخ في مجلة “الأصالة” الجزائرية، ونشرنا بعضًا منها، وسنواصل نشرها حتى يتعرّف القارئ على الغرب الإفريقي بعيون وفكر مؤرّخ جزائري. وفيما يلي، نترك القارئ مع المقال..
المفهوم الكوني للحياة
بدأ انتشار المعارف الصحيحة عن الكون في غرب إفريقيا بواسطة الإسلام والمسلمين، ولذا فقد كانت معارف تلك البلدان إسلامية في اتساعها ومحتواها. وانطلاقا من هذا الواقع لعلاقة السودانيين بالعرب، لاحظ الباحث الإفريقي “أسوى أديكو”: “إن الإسلام لم يأت إلّا بكل جيّد وطريف في هذا المجال، وبذلك فقد طوّر الحياة الحضارية وطبع بطابع عميقٍ التاريخَ الإفريقي منذ ذلك الحين”.
وقد ذكر كل من “ابن عبد الحكم” في كتاب “فتوح مصر”، و”البكري” في كتاب “المسالك والممالك” أن الإسلام دخل في وقت متقدِّم لهذه المنطقة. ويذهب “ابن عبد الحكم” إلى أن “عقبة بن نافع الفهري” غزا إفريقيا في سنة 676م، ووصل إلى مكان يُسمّى “ماء الفرس”، وقد زار ذلك المكان الرحالة الألماني “بارت” سنة 1857 وأشار إلى وجوده بين حدود ليبيا الحالية والنيجر في جبال “طومو”، واعتمادا على هذا حدّد “برونشويك” في دراسة له عن الموضوع أن “فزان” فقط يمكن أن تكون قد أسلمت في أيام “عقبة بن نافع الفهري” حسب التاريخ الذي ذكره “ابن عبد الحكم”.
وإذا كان لا يمكن التأكيد بأنّ القرن الثامن الميلادي قد رأى إسلام الغرب الإفريقي كلّه فإن القرن التاسع هو محلّ الاتفاق بين المؤرخين فيما يتعلق ببداية المشاركة الثقافية المتكاملة بين السودانيين والعرب على أساس الإسلام والمفهوم الذي يعطيه عن الكون.
فمنذ ذلك التاريخ دخل الغرب الإفريقي في دائرة الحضارة الإسلامية وأصبح جزءًا لا يتجزّأ منها حتى الاحتلال الفرنسي في آخر القرن التاسع عشر، حيث بدأ الفرنسيون يعملون على خلق طبقة جديدة منفصلة عن الحضارة الإسلامية أولا، ثم العمل بواسطتها على فصل كل المنطقة إن أمكن. وقبل ذلك، كان لا يفتأ يتمثل امتزاج السودانيين بالحضارة الإسلامية في معظم المجالات، ويمكننا أن نلاحظ من بينها، إلى جانب الثقافة الروحية الأساسية والمفهوم الأخلاقي للحياة، بعض المظاهر المادية والتقليدية التالية:
العمارة في السودان الغربي
لقد كان الفن المعماري الأصيل لإفريقيا قبل الإسلام هو البناء المستدير المغطاة سطوحُه بالأخصاص والقشّ في شكل هرمي لا أضلاع له. وربّما يعود ابتداع ذلك إلى عامل التكيّف مع المناخ حيث إن فصل الأمطار بالمنطقة كلها تحفل السحبُ فيه بأمطار غزيرة (الصيف هو فصل الأمطار، والشتاء هو فصل الجفاف).
وقد كانت الحيطان تُبنى بالطّوب ونادرا ما تتخلّلها الحجارة، وكان بناء الذّوات كثيرا ما يتميّز باستعمال الآجر (الطوب المشوي) في حين تُبنى بيوت الفقراء والمتوسّطي الحال بالطّوب المُجفّف، وقد يُخلط بالتِّبن أحيانا حتى يزداد صلابة. وقد وجدت لدى سكان إفريقيا الغربية عادة بناء حوش أو زريبة أمام المنزل لإيواء المواشي فيه أو لستر واجهة المنزل، وخاصة لدى قبائل “الفلّان”، وهي الطريقة نفسها الموجودة لدى سكان البوادي والواحات في بلدان المغرب العربي.
ومنذ 1325م، حمل “كنكان موسى” (ملك مالي) معه إلى السودان الغربي حين كان عائدا إلى بلاده من الحج المهندسَ الأندلسي “الساحلي الغرناطي” الشاعر. وقد بنى هذا الرجل، بمجرد وصوله مع مساعديه، مساجد في كل من “تمبكتو” و”غاو” و”يني”. ومنذ تلك الفترة تولَّد شكل آخر من الأشكال المعمارية في السودان. وقد بنى “الساحلي” مساجد وربما بنى دارا للسلطان. وعلى كل حال فإن عمله قد مكّن لاستمرار طريقته في البناء بعده بالسودان الغربي، حيث يبدو أن هندسته قد اعتُبِرت أرفع الأنواع، وقُلِّدت ابتداءً من تلك الفترة.
المقاييس والمكاييل والموازين
شارك السودانيون العربَ في استعمال عددٍ من المقاييس والمكاييل والموازين التي عرفتها الحضارة الإسلامية في كل الجهات، وأهمها فيما يختصّ بالمقاييس:
1 – الشِّبر: وهو يساوي الامتداد بين الخنصر والإبهام حين تكون الكفّ مفتوحة، وقد قدّره “موني” (Mauny) بـ 21 سم تقريبا.
2 ـ الذِّراع: وهو الامتداد بين عقدة المرفق ونهاية الأصبع الوسطى، ويساوي حوالي 50 سم تقريبا.
3 – المِيل: وهو يُستعمل في قياس المسافات بصورة خاصة، وقد قدّره “موني” أيضا بـ 1920 مترا. (تجدر الإشارة إلى أنّ الميل المعتمد كوحدة قياس للمسافة في أوروبا وأمريكا طوله 1609 مترًا، بينما الميل عند المسلمين – أو الميل الشرعي – فهو يعادل ألف باعٍ، والباعُ يعادل أربعة أذرعٍ شرعية، فيكون طول الميل الشرعي حوالي 1848 مترا. وتذكر كُتب التراث الإسلامي أن الميل الشرعي عند الحنفية: 4000 ذراع أي 1855 مترا. والمالكية: 3500 ذراع.. وعند الحنابلة والشافعية: 6000 ذراع أي 3710 مترا).
4 – الفرسخ: لقياس المسافات الطويلة وكان يساوي ثلاثة أميال، أي 5760 مترًا بالتقريب.
5 ـ وقد استُعمل البريد أيضا، ولكن بقلّة، وكان يساوي المسافة التي تعادل سير ساعة بالحصان السريع.
لقد ذُكِرت هذه المقاييس كلها في كتابات: السعدي، كعت، أحمد بابا، ولكن دون ذِكرٍ لمقاديرها، وقد تصدّى العلّامة “موني” لبحثها، وإن النتائج التي توصّل إليها هي التي اعتمدناها هنا.
أهمّ الموازين
1 – المثقال: وكان يساوي وزن 72 من حبّات القمح المتوسّطة الحجم.
2 – الدينار: وهو يساوي أربعين درهما.
3 ـ الدّرهم: وكان يساوي أربعة أعشار الدينار.
4 – وقد وجدت في “غاو” قطعة من الزجاج كانت هي وزن المثقال، وهي في شكل دائري يساوي شعاعها 26 مم، ووزنها 3 غرامات. ولكن القسم المتبقي منها يساوي ثُلثَين فقط من أصل حجمها الكامل، فيكون وزنها الأصلي حوالي 45 غراما. وحين وجود “بارث” في “تمبكتو”، عند منتصف القرن التاسع عشر، لاحظ أن المثقال لا يزال مستعملا آنذاك، ويساوي وزن 96 حبّة قمح.
5 – الوقيّة (الأوقيّة): وقد ذهب “موني” إلى أنها تساوي حوالي 255 غراما تقريبا. (تجدر الإشارة إلى أن مقدار الأوقية يختلف باختلاف الشيء الموزون وأيضا باختلاف البلد. وجاء في معجم “لغة الفقهاء” أن أوقية الذهب تساوي تسعة وعشرين غراما وثلاثة أرباع الغرام، وهي تختلف باختلاف البلدان).
أهمّ المكاييل
1 – المدّ: ويساوي سِعَة أربعة ألواحٍ بجمع اليدين، وقد قدّره “موني” أيضا بما يعادل 0.75 لتر بالتقريب. (تجدر الإشارة إلى أن المدّ “الشرعي” قد اختلف العلماء في مقداره بالكيلوغرام، فذهب الشافعية والحنابلة أن المُد يساوي 508.6 غراما، وذهب المالكية إلى أن المُد يساوي 506.5 غراما، وذهب الحنفية إلى أن المُد يساوي 1072 غراما).
2 ـ الصاع: وهو يساوي أربعة أضعاف المدّ أي يعادل ثلاثة لترات تقريبا.
3 – القنطار: قُدّر في دائرة المعارف الإسلامية بمائة رطل تقريبا.
4 – المودي: وهو يساوي ما يحمله العبد أو الرجل من حبوبٍ أو غيرها في كيسٍ كان يُتّخذ من الجلد. (أشار الكاتب إلى أنّ هذا المكيال وحده هو الذي لا يبدو أنه كان مشتركا مع بقية المكاييل العربية الإسلامية الأخرى، وقد أشار “محمود كعت” إلى تواجده في السودان).