تنتسب بعض الشعوب في إفريقيا الغربية إلى “سيف بن ذي يزن” وهو مِن أشهر الملوك الحميريين في اليمن خلال القرن السادس الميلادي. وتنتسب شعوب أخرى إلى الفاتح “عقبة بن نافع الفهري”، وإلى قبائل عربية مثل: “بني سليمان”، “الشوا”، “الزغاوي” (الزغاوة).. ويُعتبر شعب “الماندينغو” من بين أوائل الشعوب في إفريقيا الغربية التي اعتنقت الإسلام. ويعود الفضل إلى هذه الشعوب والقبائل في تأسيس ممالك إسلامية قويّة في هذه المنطقة.
من أشهر تلك الممالك: مملكة غانا، مملكة مالي، مملكة سنغاي، مملكة (الكانم – بورنو)، وقد بلغت من القوة إلى أن صارت تُسمّى في بعض المصادر: “إمبراطوريات”، مثل إمبراطورية “مالي” التي أسسها شعب “الماندينغو” في منتصف القرن السابع الهجري (13 ميلادي). ويُقال إن هذه الإمبراطورية الإسلامية، خلال القرن الرابع عشر الميلادي، كانت تشمل – إضافة إلى مالي – أجزاء كبيرة من بلدان مثل: غامبيا، السنغال، غينيا، غينيا بيساو، كوت ديفوار، بوركينا فاسو، موريتانيا.
عرفت هذه المالك عصورًا من الازدهار والتطوّر مثل مملكة “سنغاي” – كما رأينا في مقال سابق – غير أن ثرواتها الطبيعية، وخاصة الذهب، فتحت عليها أبواب الطامعين، ففي عام 1591، جنّد سلطان “مراكش”، “أحمد الذهبي”، واحتلّ “سنغاي” فبدأ فيها حكم العسكريين المراكشيين المعروفين بـ (اللَّارْما). وقد سُمّي هذا السلطان باسم “الذهبي” لأطماعه في السيطرة على ثروات الذهب التي كانت تمتلكها “سنغاي”..
ومنذ القرن التاسع عشر، هبّت رياح الاستعمار الأوروبي على بلدان إفريقيا الغربية فحوّلتها إلى أفقر الدول وأكثرها تخلّفًا وضعفًا، بل أنهت وجود الممالك الإسلامية، وعملت على تشويه تاريخها العربي الإسلامي، واعتبرت الإسلام واللغة العربية من أسباب تخلّف دولة مثل “مالي”.. وذهب بعض المؤرّخين الغربيين من أمثال “شارل أندريه جوليان” و”جاسوت وكوبلاند” إلى القول بأن “إفريقيا السمراء بلا تاريخ”!
أما المؤرخون العرب فإنهم قصّروا كثيرا في تسليط كشّافاتهم على التاريخ العربي والإسلامي للممالك الإسلامية في إفريقيا الغربية. ويُعتبر المؤرّخ الجزائري الدكتور “عبد القادر زبادية” (1933 – 2013) من أبرز المؤرّخين الجزائريين الذين أولوا عناية كبيرة لتاريخ إفريقيا الغربية (تأليفًا وتحقيقا للمخطوطات)، فهو أول من أدخل تخصّص الدراسات الإفريقية إلى الجامعة الجزائرية، ودعا إلى تأسيس معهد جزائري للدراسات الإفريقية على غرار معاهد الدراسات الإفريقية في بعض البلدان العربية والغربية.. وقد استخلصنا هذا المقال من كتابه “الحضارة العربية والتأثير الأوروبي في إفريقيا الغربية جنوب الصحراء: دراسات ونصوص”، وهو امتداد لسلسلة من المقالات التي كتبها المؤرّخ في مجلة “الأصالة” الجزائرية، ونشرنا بعضًا منها، وسنواصل نشرها حتى يتعرّف القارئ على الغرب الإفريقي بعيون وفكر مؤرّخ جزائري. وفيما يلي، نترك القارئ مع المقال..
التسمية التاريخية لـ “السودان”
كان العرب أول من أطلق كلمة “السودان” على الأقوام التي تسكن جنوب الصحراء الكبرى وسمّوا بلادهم: “بلاد السودان”. أما أصل هذه التسميّة لديهم، فقد استوحوا فيه لون البشرة عند سكان تلك المنطقة.
وتنقسم بلاد السودان إلى ثلاثة أقسام، هي:
-1 السودان الغربي: وهو يشتمل حوض السنغال وغامبيا وبوركينا فاصو والنيجر الأوسط.
-2 السودان الأوسط: وهو يشمل المناطق المحيطة ببحيرة تشاد.
-3 السودان الشرقي: وهو يشمل مناطق النيل وروافده جنوب بلاد النوبة. وكان هذا القسم الأخير قد غلب عليه عند العرب بين القرن التاسع والثاني عشر اسم بلاد “الزنج”، إلا أن كلمة “السودان” كانت تشمله أيضا.
وإذا بحثنا حدود هذا المفهوم الإصلاحي لكلمة “السودان” من الناحية الجغرافية عند العرب، أمكننا أن نعتبر حدوده الشمالية هي بدايات الصحراء الإفريقية الكبرى، ويحدّه جنوبا درجة 100 شمالي خط الاستواء، أمّا الحدود الغربية والشرقية فهي المحيط الأطلسي من الغرب والمحيط الهندي من الشرق.
وبعد العرب جاء الأوروبيون، فبقي بينهم تداول هذا الاصطلاح، ولكن الكلمة استُعملت استعمالات جزئية، فبينما أطلقها الفرنسيون على “ممتلكاتهم” في غربي إفريقيا استعملها الإنكليز للدلالة على ما كان يُعرف لديهم بـ “السودان المصري”، وهو يشتمل حاليا كلّ جمهورية السودان (قبل التقسيم) وجزءًا من أوغندا الشمالية.
وبما أن موضوع هذا الكتاب خاص سنقتصر فيما يلي بالحديث عن الممالك الهامة التي قامت بمنطقة غربي إفريقيا، ثم اعتنقت الإسلام، وكانت لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بقيام مملكة “سنغاي”. وهي ممالك: غانا، مالي، بورنو. (أشار الكاتب إلى أن: مملكة “الكانم – بورنو”، لا تزال الأبحاث لم تنته في أصولها الأولى إلى نتائج نهائية، ويُعتبر القرنان الثالث عشر والرابع عشر أزهى عصورها وكانت لها علاقات واسعة بطرابلس ومصر حتى القرن السابع عشر وفي القرن السادس عشر.. ولا يُعرف لها تأثير يُذكر على مملكة “سنغاي” المجاورة لها سوى أنها عاصرتها، وكانت هي أضعف من “سنغاي”).
مملكة غانا
“غانا” القديمة كانت تشمل جنوب موريطانيا وشرقي السنغال وجزءًا من مالي وربّما غينيا أيضا، فهي غير “غانا” الحالية على هذا الاعتبار، وهذه الحدود إنما بلغتها في أوج عزّتها وقوّتها. أما قبل ذلك فيذهب كثيرٌ من المؤرخين إلى أنها كانت في النقطة الممتدة شمالي منحنى نهر النيجر الأعلى ومنابع نهر السّنغال.
أما في أيام ضعفها في الأخير، فقد بقيت حدودها هي الحدود القديمة أيضا، ولكن الولايات أصبحت أكثر استقلالا، بحيث أن التبعية أصبحت اسمية أكثر منها عملية. ويُرجّح أن مملكة “غانا” قامت خلال القرن الثالث الميلادي، وامتد عمرها حتى القرن الثالث عشر الميلادي.
واسم “غانا” في الأصل لقب ملوكها، ثم أُطلق على كل المملكة، فعُرفت به. وقد فرضت “غانا” سلطانها وامتدّت سلطتها على الأقاليم المجاورة، بفضل تمكّن شعبها من استعمال الحديد كسلاح قبل غيره من شعوب إفريقيا الغربية. أما ازدهارها الاقتصادي، فقد قام على التجارة وعلى موقعها الاستراتيجي بين مناجم الذهب في “بامبوك” و”بوري” إلى الجنوب، ومناجم الملح في الشمال.. فقد استطاع ملوك “غانا” أن يفتحوا البلاد في وجه التجارة بين شمالي الصحراء وجنوبها، منذ وقت مبكر، ونظموا استخلاص الضرائب للخزينة، فكانوا يجبون على كل حملٍ من الملح يدخل البلاد دينارًا ذهبيًّا، وعلى الحَمل الذي يخرج منها دينارين. وكان حمل النحاس عليه ثمن أوقية واحدة وبقية السلع ضعف ذلك وهكذا نمت مواردهم باستمرار.
ويذكر “البكري” أن مناجم الذّهب الموجودة في “غانا” كانت كلها بيد الحكومة، وهي لا تسمح لأحدٍ أن يستخرج منها شيئا سوى بعض الذرّات الصغيرة التي يعثر عليها الناس في بعض الفلزّات حول المناجم. وقد عُلِّل هذا الإجراء بأنه لو سمح الملوك لمواطنيهم باستخراج الذهب من المناجم لأَصبح هذا المعدن الثمين قليل القيمة في الأسواق، ولأختلّ بذلك نظام التعامل.
بواسطة التجارة واستغلال مناجم الذهب، بلغت مملكة “غانا” حدًّا ذا قيمة هامة من حيث الازدهار، فكان لها جيش دائم يبلغ تعداد أفراده أربعة آلاف جندي، وفي أوقات الشدة كان ملكها يستطيع أن يجنّد مائتي ألف محارب دون صعوبة، وفي إمكانه أن يسلّح أربعين ألفا من بينهم جنودٌ بالقسيّ والرّماح.
أما عاصمتها “كمبي صالح” فقد كانت “مدينة واسعة الأرجاء – على حد تعبير البكري – ذات أسواق عديدة تزيّنها أشجار النخيل الغزيرة، وأشجار الحنّاء تكاد تبلغ الزيتون في الطول، مليئة بالمنازل الجميلة والأبنية القوية”.
وبعد أبحاث أثريّة استمرت طيلة نصف قرنٍ تقريبا، استطاع العالمان “توماسي” و”موني” سنة 1949 أن يحدّدَا موقع “كمبي صالح” على بعد حوالي 205 كم إلى الشمال من مدينة “باماكو” الحالية، وقد قدّرَا عدد سكانها بثلاثين ألف نسمة. أما قصر الملك فكان يقع في قلعة تحيط بها غابة كثيفة خارج المدينة، ويعيش معه فيها كبار رجال الدولة. ويقصد تلك القلعة في كل صباح الموظفون والمضيفون الذين كان جلّهم من المسلمين وكان لهم مسجد خاص قرب القصر الملكي، واثنا عشر مسجد بالمدينة، وكانوا يتولّون أعمال المحاسبة وتسيير الدواوين، كما ذكر ذلك “البكري”.
وقد وجد المنقبّون في “كمبي صالح” رماحًا وسكاكين، وعددا كبيرا من الحِراب والمسامير، وأدوات زراعية متنوّعة ومقصًّا بديع الصنع، وأعدادا من الأوزان الزجاجية يُرجّح أنها كانت تُستعمل لوزن الذهب. كما عثروا على بقايا من الفخار وعلى سبعٍ وسبعين قطعة من الحجر المُزيّن بالألوان، كان على ثلاث وخمسين منها آيات من القرآن كُتبت بالحروف العربية، وهذا ما دفع “موني” إلى القول: “إن حضارة غانا كانت قد بلغت مستوى رفيعا في الناحيتين الزراعية والصناعية”. (ويقول “الشريف الإدريسي” في وصف قصر ملك غانا (1154م)، “وله قصر على ضفة النيل قد أولق بنيانه، وأحكم إتقانه وزيِّنت مساكنه بضروب من النقوش والأدهان وشمسيات الزجاج، له في قصره لبنة من ذهب وزنها 30 رطلا من ذهب تبرة واحدة خلقها الله خلقة تامة من غير أن تُسبك في نار أو تُطرق بآلة، وقد نقر فيها ثقب، وهي مربطة لفرس الملك، وهي من الأشياء المُغرِبة التي ليست عند غيره.. وهو يفخر بها على سائر ملوك السودان).
ولكن الازدهار المادي غير كافٍ وحده للدلالة على الرقي الذي يجب أن نلاحظه أيضًا في بقية الجوانب الحضارية والخُلقية لكي نقتنع بعلوّ كعب أمّةٍ ما وسلامة بنيانها.
ولدى مملكة “غانا” قد يجد الباحث علامات أخرى في هذا المجال إلى جانب الازدهار المادي، فمن ذلك ما ذكره “الشريف الإدريسي” مثلا من أن ملك “غانا” كان من “أعدل الناس فيما يُحكى عنه، ومن سيرته أن له جُملة قُوّاد يركبون إلى قصره في كل صباح.. فإذا اجتمع إليه قُوّاده، ركب وسار يمشي في أزقّة المدينة وسائر البلد، فمن كانت له مَظلمة أو نابه أمرٌ تصدى له، فلا يزال حاضرا بين يديه حتى يقضي مَظلمته، ثم يرجع إلى قصره.. وهو يفعل ذلك مرتين، المرة الأولى قبل الظهيرة والمرة الثانية بعد الظهيرة. أما القُوّاد فيسيرون إلى أعمالهم بالقصر الملكي في الصباح والطبول تضرب من حولهم، والملك لا يسير أمام الملأ إلا في موكبٍ حافل تمشي أمامه فيه الفيلة والزرائف (جمع زرافة) وضروب من الوحوش. كما أنه لا يظهر أمام الرعية أو كبار الموظفين إلا في زيه الرسمي، حيث يوجد له (حلية حسنة وزيّ كامل يقدّمه أمامه في أعياده)”.
ولا تزال أبحاث المؤرخين لم تصل بعد إلى معرفة الأسباب الحقيقية لضعف مملكة “غانا” في آخر أيامها سوى هجوم المرابطين الذين هاجموا المملكة سنة 1054 واستولوا على مدينة “أودغست” سنة 1055م، ثاني مدينة هامة في مملكة “غانا”، أما العاصمة “كمبي صالح” فلم يستولوا عليها إلا في سنة 1067، وقد نتج عن الفتح المرابطي انتشار الإسلام في “غانا”. وبعد هذه النتيجة انسحب المرابطون تاركين الحكم بيد الملوك القدماء، غير أن عظمة “غانا” وسيطرتها على الأقاليم المجاورة لم تدم مدة طويلة بعد ذلك بل استقلت عنها تلك الأقاليم شيئا فشيئا، ثم سقطت العاصمة “كمبي صالح” في أيدي حُكام قبائل “السوشو” من مملكة “مالي” المجاورة، وكان ذلك في سنة 1240 للميلاد.
ومنذ ذلك التاريخ أصبحت مملكة “مالي” هي المسيطرة في المنطقة، وأصبحت “غانا” مجرد اسم لامع لأول إمبراطورية سوداء نمت في ظلها حضارة مشرقة، ثم أطلق الوطنيون اسمها على “ساحل الذهب” المستعمرة البريطانية، حينما استقلت عن بريطانيا سنة 1957 وذلك بالرغم من أن مملكة “غانا” القديمة لم يكن نفوذها يشمل أبدا أراضي “ساحل الذهب” التي تُدعى حاليا (جمهورية غانا)، وهذا يدل على أن هذه التسمية لم تكن سوى تخليد لاسم مملكة إفريقية عظيمة، كان لها في تاريخ إفريقيا الغربية مكانتها اللائقة بها، ولا تزال إنجازاتها في ميدان الحضارة الإفريقية تستدعي من الإفريقيين التقدير والاحترام.