“إن الحضارات تموت بالانتحار وليس بالقتل”، هذه ليست مجرد مقولة لمفكّر عميق، بل هي خلاصة إبحار طويل في تاريخ الشعوب والحضارات والأمم لأشهر المؤرخين في القرن العشرين، وهو البريطاني “أرنولد جوزف توينبي” (1889 – 1975) الذي يُعتبر “المؤرخ المعاصر الوحيد الذي استرعى انتباه العالم بأسره وإعجاب الناس أجمعين”، خاصة بموسوعته التاريخيَّة التي عنوانها “دراسة للتاريخ” وتـتألَف من 12 مُجلَّدًا أنفق فيها 41 عاما من عمره. ومن آرائه أنه “يُفرِّقُ بين المُجتمعات البِدائيَّة والحَضاريَّة؛ وهذه الأَخيرة أقلُّ عددًا من الأُولى، فهي تبلغُ واحدًا وعشرين مُجتمعًا اندثَرَ مُعظمُها، ولم يبق غير سبع حضارات تمرُّ ستٌّ منها بدَور الانحلال، وهي: الحضارة الأُرثوذكسية المسيحية البيزنطية، والأُرثوذكسية الروسية، والإسلامية، والهندوكية، والصينية، والكورية -اليابانية؛ أمَّا السابعة، أي الحضارة الغربية، فلا يُعَرف مصيرُها حتَّى الآن”.
زار “توينبي” عددا من البلدان الإفريقية، ونشر مقالات عديدة حول زياراته، ثم جمع المقالات في كتابٍ أصدرته في لندن عام 1965 تحت عنوان “بين النيجر والنيل”. وبعدها تُرجم الكتاب إلى اللغة الفرنسية وصدر عام 1972 تحت عنوان “إفريقيا العربية وإفريقيا السوداء”، ثم صدرت الطبعة العربية بعنوان “الوحدة العربية آتية – من النيجر الى النيل” (اطلعنا على الطبعة الثانية التي صدرت في بيروت عام 1979)، وجاء في مقدمة هذه الطبعة بقلم “توينبي”: “الكتاب يتلمّس أن يتناول قضية الادّعاءات المتنافسة في الوقت الحاضر بين الزّنجية والعروبة، وهي قضية قد تلعب دورا مهمًّا في الشؤون العالمية في المستقبل”.
يرى “توينبي” أن إفريقيا من المنظور الجغرافي هي قارة “منفصلة عن بقية اليابسة من جميع الجهات بالماء والملح.. جزيرة في حجم قارّي يطيف بها البحر من جميع الأطراف”، ويرى أيضًا بأن إفريقيا من منظور اجتماعي وسياسي وتاريخي هي إفريقيتان: زنجية وعربية، كما ورَد في عنوان الترجمة الفرنسية لكتابه (إفريقيا العربية وإفريقيا السوداء)، وبتعبير آخر “إفريقيا قارة مزدوجة” على حدّ تعبير “توينبي”.
فماذا قال وكتب المؤرخ “أرنولد توينبي” عن إفريقيا؟ نوجه القارئ إلى الاطلاع على كتابه الذي يحمل عنوان: “الوحدة العربية آتية – من النيجر الى النيل”، ونواصل مع كتابات المؤرّخ الجزائري الدكتور “عبد القادر زبادية” (1933 – 2013) حول تاريخ إفريقيا الغربية، ونذكّر بأنه أول من أدخل تخصّص الدراسات الإفريقية إلى الجامعة الجزائرية، ودعا إلى تأسيس معهد جزائري للدراسات الإفريقية على غرار معاهد الدراسات الإفريقية في بعض البلدان العربية والغربية.. وقد استخلصنا هذا المقال من كتابه “الحضارة العربية والتأثير الأوروبي في إفريقيا الغربية جنوب الصحراء: دراسات ونصوص”، وهو امتداد لسلسلة من المقالات التي كتبها المؤرّخ في مجلة “الأصالة” الجزائرية، ونشرت جريدة “الأيام نيوز” بعضًا منها، حتى يتعرّف القارئ على الغرب الإفريقي بعيون وفكر مؤرّخ جزائري. وفيما يلي، نترك القارئ مع المقال..
توينبي في إفريقيا
يجد المتتبع للقضايا الإفريقية في التراث المكتوب للعلامة “توينبي”، أن الرجل بدأ يكتب ويهتم أكثر بالقضايا الإفريقية حينما أصبح في سنّ الشيخوخة، وهو ربما كان يتتبّع ويهتمّ بهذه القضايا قبل ذلك بزمن طويل أو قصير إلا أن التطورات السريعة التي رأتها القارة الإفريقية منذ الستينيات من القرن العشرين لفتت انتباهه أكثر وبدأ يكتب عنها مع بداية السبعينيات، فقد زار “توينبي” الجمهورية العربية المتحدة (مصر) في الفترة ما بين 2 الى 22 ديسمبر 1961، وزار المغرب الأقصى في الفترة ما بين 6 الى 13 جوان 1962، ثم زار كلا من الجمهورية العربية المتحدة للمرة الثانية وبعدها نيجيريا والسودان وأثيوبيا وليبيا في الفترة ما بين 19 فيفري إلى 22 أفريل 1964. وقد صرّح “توينبي” على إثر هذه الزيارات بأنه اكتشف تلك البلدان الإفريقية حسب تعبيره.
وبعد تلك الزيارات كتب “توينبي” انطباعاته الى عدد من المجلات والجرائد البريطانية، غير أن معظمها كان قد خصّ به جريدة “الأوبسيرفر” الأسبوعية.
انطباعات توينبي في كتاب “بين النيجر والنيل”
ثم جُمعت تلك المقالات في كتاب أصدرته مطابع أكسفورد الجامعية في لندن سنة 1965 تحت عنوان “بين النيجر والنيل”. وقد ترجم هذا الكتاب نفسه إلى اللغة الفرنسية وطبعته مؤسسة السندباد سنة 1972 تحت عنوان آخر: “إفريقيا العربية وإفريقيا السوداء”، وقد جاءت فكرة هذا العنوان الأخير على ما يبدو من المقدمة القصيرة التي كان كتبها “توينبي” للطبعة الإنجليزية سنة 1965، والتي جاء فيها: “إن هذه النصوص – أي نص الكتاب – لها محور أساسي هو التنازع بين العروبة والزنجية في إفريقيا الذي سيكون دون شك عنصرا مهما في السياسة العالمية في المستقبل”. (الترجمة العربية للكتاب بعنوان: “الوحدة العربية آتية – من النيجر الى النيل”).
والحقيقة أن كلًّا من العنوانين – الإنجليزي والفرنسي – لهذا الكتاب له أهميته هنا، فقد زار “توينبي” إفريقيا واهتم خاصة بالمنطقة المعروفة لدى العرب منذ العصور الإسلامية الزاهرة بمنطقة السّوادين (جمع سودان)، وهي المنطقة التي يشير إليها عنوان الكتاب في أصله بالإنجليزية بما بين النيجر والنيل، فكان لذلك معناه الجغرافي، أما المحتوى التحليلي الأهم فيما يتعلق بالنظرة إلى المستقبل والماضي الذي كان “توينبي” يرمي إليه فهو ما ينطبق عليه عنوان الطبعة الفرنسية للكتاب.
توقّعات توينبي في مقدمة الطبعة الفرنسية
إن منطقة “السّوادين” هي المنطقة التي دخلت في ظل الحضارة العربية الإسلامية، وامتزجت بالتدريج أكثر من أيّ جزء آخر في إفريقيا السوداء، فلما بدأت الفترة الأوروبية في القارة السوداء مع نهاية القرن الماضي، خضع السكان في “السَّوادين” لتوجيهات أخرى كما هو معروف، ولكنهم أظهروا صلابة فيما يتعلق بالتصاقهم العقائدي والحضاري السابقين كمجموعات أحيانا وكأفراد في أحيان أخرى ولو لبعض الوقت، وقد نجح الأوروبيون في جميع إفريقيا إلى الجنوب من حدود “السوادين” في كسب السكان لعقيدتهم ولأهدافهم الحضارية الأخرى، فأعطوهم من حظوظ الثقافة ما جعل النخبة من بينهم تتفوّق في ميدان الثقافة الحديثة على سكان “السوادين” الذين كانوا خلال الفترة السابقة للاحتلال والتوسع الأوروبيين هناك، أكثر من غيرهم معرفة وإلماما به .
ولما جاءت فترة الاستقلال، برزت هناك أسباب لوجود منطقة أو مناطق للتوتر على هذا الأساس، وقد تتبّعها “توينبي” بالشرح الوافي وحلّل دواعيها البعيدة والقريبة على طريقته المعهودة في التعميم العميق، وذهب في تحليلاته تلك إلى حدّ التكهن أحيانا بما كان سيحدث في المستقبل القريب.
يقول “توينبي” في مقدمته التي كتبها للطبعة الفرنسية: “إن السبع سنوات التي تفصلنا عن الطبعة الأولى.. قد رأت لسوء الحظ تحقيق بعض التوقعات المتشائمة المُسجّلة في هذه الصفحات، ففي نيجيريا وقع الصراع الأكثر مأساة، وقد كان لي الشعور أثناء زيارتي لها بضغوطه الحضارية في كل مكان..
وفي أثيوبيا كنت أحسّ بالتصادم القائم الى الآن، والذي تُعارض فيه القوميات الأَمهَرِيّة رفض صوماليِّي الشرق للإمبراطورية، ولكني لم أكن أتوقّع قيام حرب العصابات في إيريتريا، أما تغيير نظام الحكم في ليبيا فإنه لم يفاجئني، فقد كان واضحا خلال زيارتي إلى أن الحكومة الملكية لم تكن تقبل متطلبات وقائع الحياة العصرية”.
ويستطرد “توينبي” في تعليقه على حرب 1967 بين العرب و”إسرائيل” ونتائجها خاصة فيما يتعلق بمصر، فيقول: “وفي مصر كنت مقتنعا بصورة واقعية بطبيعة حدّة التصادم الذي يتعارض فيه العرب والإسرائيليون، ولكن لم يتبادر إلى ذهني أن يقوم الإسرائيليون بهجوم جوان 1967 ضد الجمهورية العربية المتحدة وسوريا والأردن، وقد كان من نتائج ذلك الاعتداء احتلال مسلح مرة أخرى لأراضي عربية هامة وإخضاع آلاف من العرب إلى القوانين العسكرية لـ (إسرائيل)، بعد أن كانوا أحرارا إلى وقت قريب قبل ذلك. وهؤلاء العرب اللاجئون أنفسهم من جرّاء اعتداءات (إسرائيلية) سابقة، كما أني لم أكن أتوقّع أن تتوقف قناة السويس من جديد عن العمل “.
ويشير “توينبي” بعد هذا إلى قضية الشمال والجنوب التي عرفها السودان بصورتها الانفصالية المعروفة، فيرى أن الشماليين ألحقوا بالجنوبيين من الآلام ما يلحقه (الإسرائيليون) بالعرب في المناطق المحتلة، ثم يرى في الاتفاق الذي عقده الجانبان بهدف التصالح الوطني حلا عادلا مما كان يبشّر بسلم دائم لتلك البلاد، على حد تعبيره.
وبعد أن يقرّر “توينبي” في مقدمة كتابه هذا في طبعته الفرنسية بأن القارة الإفريقية كانت تشهد على أيامه ولا تزال تطورات سريعة تفوق في سرعتها ما يجري على ساحة أيّة قارة أخرى.. ينتهي الى النتيجة التالية وهي “إن أعمق ما تحتاج إليه إفريقيا والعالم معها هو تغيير جذري في المفاهيم”.
إن المتتبّع لما كان يجري وما هي الأوضاع الحقيقية في بلدان إفريقيا المستقلة الآن يدرك ولأول وهلة إلى أيّ حد تبدو هذه العبارة عميقة وصادقة فيما كتبه “توينبي” عن إفريقيا، فلقد خُلقت طبقة النخبة الجديدة أثناء الفترة الأوروبية وأُعطي لها الحكم لتخدم كما هو معلوم أهدافا خاصة وتنتقم من كل من يعارضها أبشع انتقام.
توينبي يكتب بروح المؤرخ الفيلسوف
لقد صنّف “توينبي” نفسه في كتابه (العالم في مارس 1939) بين أولئك الذين يهتمون بالقضايا العالمية، وذلك لأنه حسب تعبيره “يكون مخطئا مَن ينظر حوله ويتناسى أن يلقي بنظرة نحو المستقبل والماضي معا”.
وانطلاقا من هذه الفكرة كان “توينبي” يكتب عن القضايا الإفريقية بروح المؤرخ الفيلسوف، مُبيِّنًا أخطاء الأوروبيين نحو الأفارقة، ففي كتابه “المسيحية والديانات الأخرى للعالم” كان يرى بأن عالمَ اليومٌ عالم مادي، ويرى أن على المسيحيين أن يبّشروا بديانتهم على أساس التسامح الحقيقي وليس على أساس التعالي.
وفي كتابه “العالم والغرب” أكد هذا الانطباع: “إن الشعوب غير الغربية يمكن أن تختلف حول الجنس أو اللسان أو الحضارة أو الديانة، ولكنها تتفق اتفاقا كليا حول نقطة هي أنها إذا سُئلت من طرف أحد الغربيين في رأيها حول الغرب فإنها تفضّل كلها جوابا واحدا فتقول كلها: إن الغرب كان معتديا كبيرا خلال العصور الحديثة، وكل شعب يستطيع إثارة تجاربه ليعلل هذا القول”. وبعد أن يأتي “توينبي” على تعداد نوعية الأجوبة التي يثيرها في هذا الصدد كل من الآسيويين والأمريكيين، ينتقل الى ما يجيب به الأفارقة، فيقول: “يتذكر جميع الأفارقة بأنهم كانوا قد أُنزلوا إلى العبودية وحُملوا إلى الطرف الآخر من المحيط ليخدموا الأوروبيين الذين كانوا قد استعمروا الأمريكيين وأصبحوا بين أيديهم مجرد آلات مكلفة بالسهر على الثروات التي كانوا متعطشين لها”.
توينبي والقضايا الإفريقية
لقد كان “توينبي” في كتاباته عن القضايا الإفريقية ينطلق دائما من فكر إنساني واسع الأفق، فهو يؤكد دائما على الجانب الإنساني كأساس للحياة وهذا يظهر بجلاء في كتابه “المدن في التاريخ” الذي أكد فيه “توينبي” على ضرورة العناية بالإنسان كأساس للحياة القومية على الأرض.
كما أنه في المحاضرات الأربع التي ألقاها في كليات القاهرة سنة 1966 كان يدعو إلى وجوب التخلي عن جميع الأفكار الضيقة ويحثّ على وجوب الاهتمام بالنظرة العالمية الشاملة التي تتناسب وتضايق المسافات بين الأمم والشعوب وكل أجزاء الكرة الأرضية، ويدعو كذلك إلى خلق البرامج المناسبة لتغيير أفكار الفرد التقليدية المتعصبة نحو هذا الاتجاه، وقد كانت كتاباته عن القضايا الإفريقية تتسم دائما بهذه الميزة.