يُقال عن “بسكرة” أنها “عروس الزّيبان”، فهل سبقتها مناطق جزائرية أخرى إلى هذه التسمية؟ إنّ كلمة “الزيبان” هي جمعٌ لمُفرد “الزّاب” (وقد تُجمع زوابي في بعض المصادر)، وقد ورد في بعض معاجم اللغة العربية: زابَ الماءُ: جَرى. زابَ فلانٌ: انسلَّ هَرَبًا. وزَأَبَ الرَّجلُ إِذا شَرِبَ شُرباً شَديداً.. وأمّا في معاجم الأماكن والبلدان وكتابات المؤرّخين، فإنّ أبلغ وأعمق تعريف هو ما قاله المؤرّخ الجزائري “إسماعيل العربي” (1919 – 1997): “مصطلح الزّاب أُطلق على المناطق المليئة ببساتين النخيل وتخترقها السواقي والأودية”، ذلك أن الزّاب في الجزائر أو في العراق يشتمل على النخيل والمياه الجارية. ويبدو أنّ المناطق التي اختفى منها النخيل لم تعد تنتمي إلى منطقة الزيبان مثل المناطق الجزائرية التي تمتدّ من “طبنة” (بريكة) إلى “المسيلة”.
قال “الحازمي” في كتابه “الأماكن: ما اتفق لفظه وافترق مُسمّاه”: “(الزّاب) واد كبير في آخر أصقاع العراق، يصبّ في دِجْلَة بين الموصل وتكريت، ويُقَالُ له الزّاب المجنُون لحدّته وشدّة جريانه، ودُونه وادٍ آخر يُسمى الزّاب الصغير، وعليهما جميعاً قُرى، ومزارع كثيرة، وفي أَعمَال واسط خليجٌ يُقَالُ له الزاب يتخلّج من الفرات، ويفرغ في دجلة..”. (واسط: مدينة في العراق).
وفي كتاب “معجم البلدان”، قال كاتبه “ياقوت الحموي”: “وبين بغداد وواسط زابان آخران أيضا ويُسمَّيان الزاب الأعلى والزاب الأسفل، أمّا الأعلى فهو عند قوسين وأظن مأخذه من الفرات ويصبّ عند زرفامية وقصبة، كُورَته النعمانية على دجلة، وأمّا الزاب الأسفل من هذين فقصبته نهر سابس قرب مدينة واسط”. ويضيف قائلا في موضع آخر من كتابه: “وعلى كلّ واحد من هذه الزّوابي عدّة قرى وبلاد، وإلى أحد هذين نُسب موسى الزابي له أحاديث في القراءات. قال السلفي: سمعت الأصمّ المنورقي يقول: الزاب الكبير منه بسكرة وتوزر وقسنطينية وطولقة وقفصة ونفزاوة ونفطة وبادس.. قال: والزاب أيضا كُورَة صغيرة يقال لها ريغ، كلمة بربريّة معناها السَّبخة، فمن كان منها يقال له الريغي. والزاب أيضا: كورة عظيمة ونهر جرّار.. على البرّ الأعظم عليه بلاد واسعة وقُرى متواطئة بين تلمسان وسجلماسة والنهر متسلط عليها، وقد خرج منها جماعة من أهل الفضل، وقيل: إن زرعها يحصد في السنة مرّتين، يُنسب إليها محمد بن الحسن التميمي الزابي الطّبني كان في أيّام الحكم المستنصر..”.
وإذًا فتسمية الزاب هي تمامًا كما ضبطها المؤرّخ الجزائري “إسماعيل العربي”، فالمشترك بين زيبان العراق وزيبان الجزائر هو وجود بساتين النخيل التي تتخلّلها الأنهار والسواقي.. والزّاب الجزائري كان إقليما شاسعا تغيّرت عواصمه عبر القرون إلى أن صارت “بسكرة” هي عاصمته في العصر الراهن.
“طبنة” كانت عاصمة للزّاب الجزائري منذ قرون، وهذا المقال حول هذه المدينة التي كانت عاصمة إسلامية للغرب الإسلامي في زمانها. وكاتب المقال هو المؤرّخ الجزائري الدكتور “لقبال موسى” (1934 – 2009) ابن مدينة “بريكة” التي تبعد عنها “طبنة” القديمة ببضعة كيلومترات. وفيما يلي نترك القارئ يستكشف هذه المدينة التي كانت لها أهميّتها منذ القرن الأول الميلادي إلى أن صارت أكبر حاضرة إسلامية في المغرب الإسلامي..
بعض معالم طبنة وأحداثها
توجد بقرب “طبنة” معالم أثرية، وتُذكَر بأحداثٍ تاريخية هامة. فأمّا المعالم غير المعروفة الآن فمن أهمها حسب كتب الرّحّالة:”فج زيدان”، وهو ممرّ مرتفع يشرف على المدينة من بعيد. ومنه نفَذ “أبو عبد الله الداعي الشيعي” لأخذ مدينة طبنة في أواخر القرن الثالث الهجري – التاسع الميلادي، وإليه يشير بقوله:
من كان مغتبطا بلين حشية — فحشیتي وأريكتي سـرج
من كان يعجبه ويبهجه نقر — الدفوف، ورنّة الصنج
فأنا الذي لا شيء يعجبني – إلا اقتحامي لجّة الوهج
سل عن جيوشي إذ طلعتُ بها — يوم الخميس ضُحى من (الفجّ)
وأما الأحداث التاريخية التي نذكرها بِذِكر “طبنة” فمن أهمها:
1 ـ معركة تهودة (63 هـ) في عصر الفتح الإسلامي لإفريقية، التي ذهب ضحيتها الصحابي عقبة بن نافع الفهري وأبو المهاجر دينار.. إذ عند طبنة، فرّق سيدي عقبة جيشه اطمئنانا بما حصل عليه من نتائج في حملته الكبرى، وأرسل معظمه إلى القيروان لحمايتها من الأخطار. فكانت النتيجة سيئة على سير الفتح الإسلامي في إفريقية، وعلى مُسلمي المنطقة كلها طيلة خمس سنوات.
2 – حملة “القائم بأمر الله الفاطمي” ضد زناتة وقبائل المغرب التي لم تعلن طاعتها للفاطميين ونوّابهم على الجهات والأقاليم، وقد سجّل مراحلها بتفصيلٍ “أحمد المروزي الشيعي” في شبه ملحمة، تحاكي ملامح العصور القديمة والوسطى. وعن “طبنة” قال “المروزي”:
سرنا وقد حل بقرب طبنة — وصار منها أهلها في محنة
فأعظم الله العزيز المنّة — وبدلوا من بعد نار جنّة
والسبب في هذا الوضع أن “طبنة” ونواحيها كانت مسرحا لنشاط القبائل المعادية للفاطميين وعلى رأسهم قبيلة زناتة، وزعيمها “محمد بن خزر المغراوي”.
3 – أما الحدث الآخر الذي يُذكر بمناسبة ذِكر “طبنة”، فهو حركة الثائر النكاري “مخلد بن كيداد” المشهور في التاريخ بـ “أبي يزيد”، وبـ “صاحب الحمار”؛ في العصر الفاطمي أيضا. وقد سجّل أحداثها بتفصيل أيضا هذا الشاعر الشيعي السابق الذكر؛ وهنا أبلت “طبنة” بلاء حسنا إلى جانب الخليفة الفاطمي “المنصور بالله”، الذي أقام فيها فترة طويلة لملء صفوفه، وإعداد خططه، وتفريق الأرزاق، والهدايا استجلابا للأحلاف والأنصار.
ما زال المثل سائرًا: “بيطام بيت الطعام”
سماحة أهل طبنة وكرمهم المستمر.. وجودة أنواع المزروعات والأنعام، فيها وفي أفقها، بسبب نشاط السكان في عملية الإنتاج، وفي تجويد الأصناف الذي يبدو حاضره متواضعا بالنسبة لماضيه.. إنّ هذا كله قد أوحى بمثل عربي أصبح سيّارا في الجهة لذلك حفظه الرحّالة والجغرافيون في كتبهم وهو: “بيطام بيت الطعام”.
الزاب في “آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي”
تشترك بعض البلدان العربية في تسميات تُطلق على الأراضي الفلاحية، مثل: المخراف، خرمام، السّبخة.. ويبدو أنّ “الزاب” تسمية مُشتركة بين الجزائر والعراق، وهي تُطلق على المناطق الفلاحية التي تتميّز بزراعة النخيل ووفرة المياه الجارية.
ورد في كتاب “آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي” مقال بعنوان (“الزاب” في دائرة المعارف الإسلامية)، مع ملاحظتين، تقول الأولى: “كلمة مخطوطة لم نعثر على ما يدلّ أنها نُشرت”، وتقول الثانية: “يبدو أن الشيخ أرسل هذه الملاحظة إلى المشرفين على الطبعة العربية لدائرة المعارف الإسلامية”.
وسواء كان المقال احتجاجا من الشيخ “الإبراهيمي” حول ما نشرته دائرة المعارف الإسلامية عن “الزاب” الجزائري، أو كان المقال إثراءً للمنشور، فإنه من المُجدي أن نورد رؤية الشيخ لمعنى “الزاب” في رؤيته. يقول الشيخ “الإبراهيمي”:
موقع زاب إفريقية في جنوب مقاطعة قسنطينة من القطر الجزائري، وهو اسمٌ لإقليم يضيّقه الاستعمالُ العُرفي ويوسّعه، فقد كان في القرون الهجرية الأولى إلى القرن الثامن يطلق إطلاقًا واسعًا حتى يشمل سهول الحضنة ومدنها الواقعة في سفوح الأطلس الجنوبية وهي المسيلة ومقرة وطبنة الرومانية وتعرف اليوم باسم “بريكة”.
والمسيلة هي التي كانت تُعرف قبل الإسلام باسم “زابي”، ثم سُمّيت بعد الفتح الإسلامي بالمحمدية؛ والمسيلة، وهي التي ولد فيها الشاعر “ابن رشيق القيرواني”، واستقرّ فيها الشاعر “ابن هاني الأندلسي” لأنّ ممدوحه “جعفر بن فلاح” كان أميرًا عليها، وانتظمت إمارته إقليم الزاب كله، فلذلك اتّسع مُسمّى الزاب عند مؤرّخي ذلك العصر، لأنّ الاسم كان لكل ما شملته الإمارة، واسم الزاب مُتردِّدٌ كثيرًا في شعر “ابن هاني” قبل أن يتّصل بالفاطميين.
و”مقرة” تقع شرقي المسيلة بنحو مائة ميل، و”طبنة” تقع شرقي “مقرة” بنحو ثلاثين ميلا، ومن مقرة خرجت أسرة “المقري” صاحب كتاب “نفح الطيب”، وهو الذي يقول: أصل سلفنا من “مقرة” إحدى قرى زاب إفريقية، انتقلوا في المائة السادسة إلى تلمسان.. إلخ، ومن طبنة خرجت أسرة “أبي مضر الطبني” إلى الأندلس، وهي أسرة أخرجَت أعلامًا في الأدب والشعر والعلم.
وهذه المدن يذكرها الرحّالون من المشارقة والمغاربة، ذكرها “ابن حوقل” الرحّالة البغدادي، وذكرها “البكري” صاحب “المسالك والممالك” وغيرهما، وقد دخلوها كلهم ووصفوها وصف المُعاين.
ومن العجيب أنكم تنقلون كلام “البكري” مترجَمًا مع أن القطعة المتعلقة بشمال إفريقيا من كتابه “المسالك والممالك” مطبوعة في الجزائر من عشرات السنين.
أما الزاب اليوم فهو يطلق على قطعة صغيرة في سفوح الجبال الفاصلة بين سهول الحضنة والصحراء. وعاصمة الزاب الإدارية والتجارية في يومنا هذا هي مدينة بسكرة. والزاب مقسّم إلى ثلاثة أقسام متصلة متقاربة: الزاب الظهراوي، ومن قُراه: طولقة وليشانة وبوشقرون وفرفار وفوغاله والعامري، وجميع هذه القرى تعتمد على زراعة النخيل وتنتج أجود أنواع التمر في العالم، وتُسقى بالآبار الارتوازية الغزيرة، ثم الزاب الغربي ويشمل قُرى: ليوة والصحيرة والمخادمة وبنطيوس وأورلال وأوماش، واعتمادها على زرع النخيل أيضًا، ثم الزاب الشرقي ومن قراه: سيدي عقبة (مدفن عقبة بن نافع الفهري فاتح إفريقية) وشتمة والدروع وتهوده، وقُرى الزاب الشرقي تُسقى من ماء الأنهار المتحدِّرة من جبال أوراس.. أما الدوسن وأولاد جلال فهما خارجان عن الزاب وتقعان غربيّه.
وقول المؤرخين “زاب إفريقية” يحترزون به عن “زاب الموصل” أو العراق، فهناك واديان ينبعان من جبال الأكراد أحدهما الزاب الأصغر بين الموصل وأربيل، والثاني الزاب الأكبر بين أربيل وكركوك، وكلاهما من روافد دجلة، وما زالا معروفين بهذا الاسم إلى اليوم.
أرى أن زاب العراق يجب أن يُعرّف في هذه المادة من دائرة المعارف الإسلامية.