“أوراس” كلمةٌ تفيض بلهيب الثورة وقصص البطولة وآيات التّضحية من أجل الجزائر العظيمة التي كتبَت صفحات تاريخها المجيد بدماء أبنائها.. وأيضًا، “أوراس” كلمةٌ تتدفّق بالأنوار وشموس المعارف التي أنارَت الدّياجي في العالم الإسلامي كلّه. فقد أنجبَت منطقة الأوراس أعلام وعلماء عبر مختلف العصور، امتدّ أثرهم وتأثيرهم إلى أقاصي الإمبراطورية الإسلامية خلال العصور الذهبيّة للمُسلمين.
في الملتقى الثاني عشر للفكر الإسلامي، الذي احتضنته “باتنة” عاصمة “الأوراس”، ألقى العلاّمة المؤرّخ الشيخ “عبد الرحمن الجيلالي” محاضرةً قيّمةً بعنوان “شخصيات لامعة من الأوراس”، أضاء فيها جوانب من تاريخ “الأوراس”: جغرافيته، تسميته، حقيقة النبيّ الذي ظهر فيه وهل له علاقة بـ “أصحاب الرسّ”؟ كما أضاء جوانب حول أعلام وعلماء من منطقة “الأوراس”، وأضاف إليهم علماء من منطقة “الزيبان” التي تجمع مناطق: بسكرة، طبنة (في بريكة)، الحُضنة..
المُحاضرة نشرتها مجلة “الأصالة” الجزائرية في شهر أوت 1978، وتُعيد جريدة “الأيام نيوز” نشرها لقيمتها التاريخيّة والعلمية وما تضمّنته من أسما لأعلام وعلماء انطلقوا من “الأوراس” وكان لهم مكانتهم وتأثيرهم في العالم الإسلامي. ولنترك القارئ يستكشف “الأوراس” في الجانب العلمي..
أبو زكرياء يحيى بن محمد الشاوي
“يحيى الشاوي” غنيٌّ بنسبته هذه إلى التعريف بنسبه، فهو “أبو زكرياء يحيى بن محمد الشاوي” المولود بمدينة “مليانة” (1030 هـ – 1621م)، من مشائخه الجزائريين الشيخ “سعيد قدورة” شارح “سُلّم الأخضري” في المنطق.
حجّ “الشاوي” سنة (1074 هـ – 1663م)، ونزل “القاهرة” فتصدّر للتدريس بالأزهر، ورحل إلى “تركيا” ثم عاد بعدها إلى “القاهرة”، وحجّ للمرة الثانية (1096 هـ – 1684 م)، وتوفي في “القاهرة”. ومن تآليفه “شرح التسهيل” لابن مالك، وله شروح وحواش ومُصنّفات في النحو والإعراب والتوحيد.. ومن تلامذته: محمد أمين المحبي صاحب “خلاصة الأثر” (كتاب مطبوع)، والشيخ علي النوري صاحب كتاب “غيث النفع في القراءات والروايات السبع” (كتاب مطبوع)..
عثمان الأوراسي
ومن أعيان علماء الأوراس في القرن الحادي والثاني عشر، العالِم الفاضل المدرِّس الشيخ “عثمان الأوراسي”، أخذ عن علماء بلده ثم ارتحل إلى تونس فأخذ عن: الشيخ محمد المغراوي، حميدة المفتي، علي شعيب، محمد بن عمران، أبي القاسم بن سليمان، وغيرهم.. ومثله في ذلك الشيخ علي الأوراسي.
علماء من بسكرة
وبما أنّ مدينة بسكرة تقوم على السفح الجنوبي من جبل أوراس، وأوراس يقوم إلى الشرق من مدينة بسكرة ويطِلُّ عليها كما يقول “ابن خلدون”، فهي مُعتبرة من أهمّ المدن المرتبطة بالأوراس والمتّصلة به اتصالا وثيقا، لا سيما وأنّها كانت طيلة هذه العصور التي مرّت بها تضمّ بين جدرانُها طائفة من كبار العلماء الذين اخترق ذكرهم الآفاق، مثل الشيخ “عبد الرحمن الأخضري البسكري” الطائر الصّيت. وأبي القاسم بن جبارة البسكري، وأبي زیّان ناصر بن مزني البسكري، والشاعر المُكثِر عبد الله بن عمر البسكري، والشيخ أحمد بن الفاكهة اللِّياني وآخرين.. وعليه فلا أقلّ من أن نشير ولو بإيجاز إلى بعض علمائها المُحقِّقين ومن كان منهم من أهل الاجتهاد الراسخين.
ابن جبارة البسكري
فهذا “أبو القاسم يوسف بن علي بن جبارة البسكري” وُلد سنة (403 هـ – 1012 م) وشدَّ رَحله في طلب العلم وتخصّص في علوم اللغة والنحو والقراءات، فطاف البلاد شرقا وغربا، فدخل: بغداد، نيسابور، أصبهان.. وغيرها من حواضر العلم يومئذٍ، ولقِيَ بها جمهورًا من أجلّة العلماء؛ قال: “فجملة من لاقيتُ في هذا العلم 365 شيخًا بعدد أيام السنة، من آخر المغرب إلى باب فرغانة يمينا وشمالا، جبلا وبحرا، ولو علمتُ أنّ أحدًا تقدّم عليّ في هذه الطريقة في جميع بلاد الإسلام لقصدته”.
وكان فيمن أخذ عنهم من كبار علماء المشرق الأستاذ “أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني” صاحب كتاب “الحلية”، والأستاذ “أبو القاسم القشيري” صاحب الرسالة الصوفية المشهورة، وكان هذا الأخير يراجعه ويحاوره في مسائل من النحو والقراءات مراجعةَ مستفيدٍ، حيث كان لمترجِمنا هذا استقلالٌ في آرائه واختيارات وترجيحات اختصّ بها دون غيره من أهل التقليد، فكان مجتهدًا مُتخصِّصا في فنّه: القراءات والنّحو، قال “ابن الجزري”: “لا أعلم أحدًا في هذه الأمّة رحل في القراءات رحلته”.
استدعاه الوزير “نظام الملك الطوسي”، وزير “ملك شاه السلجوقي”، للتّدريس بمدرسته التي أسّسها في “نيسابور”، مثلما استدعى لها إمام الحرمين “الجويني”، بل أسّسها من أجله، وبها قرأ وتعلّم الإمام “الغزالي” (أبو حامد) وعلّم بها، فانتصب يومئذ شيخنا “ابن جبارة البسكري” لنشر علمه بين جدران هذه الجامعة الطائرة الصّيت فى مدينة “نيسابور” التي يقول عنها “الحموي” (626 هـ – 1229م): “هي مدينة عظيمة، ذات فضائل جسيمة، معدن الفضلاء، ومنبع العلماء، لم أر فيما طوّفتُ من البلاد مدينةً كانت مثلها..”.
وهناك وضع الشيخ “ابن جبارة البسكري” كتابه “الكامل”، وهو مَعلمة كبرى في فن القراءات، ضمّنه خمسين قراءة بألفين ومائتين وتسعين طريقا. قال يصفه: “ألّفتُ هذا الكتاب فجعلته جامعا للطُّرق المَتلُوّة والقراءات المعروفة، ونسختُ به مُصنّفاتي کالوجیز والهادي..”، وعلّق إمام القرّاء “ابن الجزري” على كلمة المُؤلِّف هذه فقال: “كذا ترى هِمَم السّادات في الطلب”.
ويبدو أنّ هذه المدارس النِّظامية – المنسوبة لـ “نظام الملك” – كانت رسمية تحت رعاية الحكومة، بدليل ما أشار إليه بعض المؤرِّخين بأنَّ مُدرِّسًا صدَر له التّعيين بها ولكنه لم يُؤذن له بالتّدريس إلى أن جاءت موافقةُ الخليفة على تعيينه.
عبد الله بن عمر البسكري
ومن أدباء بسكرة وفقهائها في القرن الثامن “عبد الله بن عمر البسكري”، كان فقيهًا أديبا شاعرا، ارتحل إلى المشرق فحجّ واستقر في “المدينة المنورة” ملازما للحافظ المُحدِّث المؤرِّخ الشيخ “عبد الله بن محمد المطري”، وكثيرا ما كان “المطري” نفسه يُنشِد قصائد “عبد الله البسكري” ويردّدها من حفظه إعجابا بصاحبها. توفي البسكري الشاعر (765 هـ – 1364م).
أبو زيان ناصر بن مزني البسكري
وأمّا “ابن مزني”، الذي أشرنا إليه فيما سلف، فهو العالم المُقرئ المؤرِّخ “أبو زيان ناصر بن مزني البسكري”، المولود في سنة (781 هـ – 1379م)، فنشأ في بيت علمٍ وإمارة، وإلى هذه الأسرة كان مرجع التصرّف والحُكم بناحية الحُضنة والزّاب.
انصرف “أبو زیّان” إلى الاشتغال بالعلم ولقاء العلماء، فأخذ عن جماعة من بني وطنه، ومن علماء تونس مثل الإمام ابن عرفة، وعبد الرحمن التوزري، وأبي فارس عبد العزيز بن يحيى الغساني البرجي، ومحمد بن علي بن ابراهيم الخطيب، وعيسى بن أحمد الغبريني وآخرين..
ثم انتقل إلى مصر، فنزل بها سنة (803 هـ – 1400م) وكان بها يومئذ وحيد إفريقيا العلّامة “ابن خلدون”، وقد جمعتهما أواصر العهد القديم في بسكرة، فأكرمه وأسكنه بخانقاه ومدرسة “الشيخونية”، وبها أسمع “ابن مزني” صحيح البخاري، ولازم الإمام ابن حجر.. وهناك عكف على وضع كتابه الكبير للرُّواة، لم يكمله، قال “ابن حجر”: “إنّه لو أتّمه لكان منه في مسوداته ما لا يُعدّ ولا يدخل تحت حد، ومات فتفرَّقَت مائة مجلد، فإنه جمع مسودته شذر مذر، ولعل أكثرها عُمل بطائن مُجلّدات!”.
وكان رحمه الله جمَّاعةً للكتب، ضابطًا مُتقنا حريصًا على جمع الفوائد والشّوارد. وأصيب في آخر عمره ببصره، فانتقل من “الشيخونية” إلى مدرسة خانقاه “الظاهر برقوق” في القاهرة، وعاجلته المنيّة فتوفي سنة (823 هـ – 1420م). أثنى عليه “المقريزي” فى كتابه “درر العقود”، وأثبت بأنه كان يتردّد عليه، وقال: “رحمه الله، ماذا فقدنا من فوائده؟ عوضه الله الجنة”.
عبد الرحمان الأخضري
وأما العلّامة “الأخضري” فهو أشهر من نار على علم، واسمه عبد الرحمن بن محمد الصغير بن محمد بن عامر الشهير بالأخضري، ورغم شهرته بهذه النسبة نراه ينكرها في شرحه على سُلّمه في المنطق، فيقول: “إنّ هذا نعتٌ لنسبنا على ما اشتهر في ألسنة الناس، وليس كذلك، بل المتواتر عن أعالي أسلافنا وأسلافهم أن نسبنا للعباس بن مرداس السلمي (الصحابي الجليل)”.
وأمّه رحمها الله اسمها “حدّة” من قرية “تيفلفال” – من صميم الأوراس – وُلد عبد الرحمن سنة (910 هـ – 1504م)، وكان أبوه رجلا صالحا وعالما جليلا، فأخذ عنه ولده النجيب، وعمّن لقيه من مشائخ بلده، ولازم الدَّرس إلى أن برع فى أكثر الفنون العربية والعلوم الإسلامية، وألّف فيها مُصنّفاته العديدة النافعة المفيدة، فكتب في الفقه والتوحيد والمنطق والنحو والبيان والفرائض والحساب والفلك والتصوّف… نظمًا ونثرا، وفيها ما مطبوع.
وانتشرَت كُتبه فانتفع بها الناس شرقا وغربا، وتُرجم بعضها إلى لغات أوروبا، ومنها الفرنسية. وأعتقدُ أنه ليس هناك اليوم أحدٌ من أفراد العلم والأدب – أو أقول معظمهم – بالجزائر وتونس والمغرب ومصر… إلّا ولمصنَّفات الشيخ عليه فضل ومنّة. توفي رحمه الله سنة (983 هـ – 1575م)، ودفن بزاوية قرية “بنطيوس” جنوبي غرب مدينة بسكرة، وضريحه مشهور بها.