شيّد الأمير “عبد القادر” أول عاصمة للدولة الجزائرية الحديثة على أنقاض مدينة قديمة تأسّست في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري. وكان في وسعه أن يدعوها باسمه غير أنه دعاها لـ “آبائها”، وأحيا اسمها القديم: “تاقدمت”، هذا الاسم الذي كاد أن يندثر في غبار التاريخ. وسكّ الأمير عُملة الدولة الجزائرية، وأطلق عليها تسمية “المُحمّديّة” نسبة إلى النبيّ محمد صلى الله وعليه وسلّم، وكان في وسعه أن يُسمّيها باسمه.. كان الأمير يرى في نفسه خادمًا للأرض والشعب والدين، ولم يكن يرى فيه نفسه مالكًا للأرض أو وصيًّا على الشعب، ولم يستغلّ الدين في توطيد سلطانه وفرض سيطرته.
سمعنا وقرأنا عن عاصمة الأمير، ولكن كثيرين لا يعرفون تاريخها وأسباب تشييدها وشكل معمارها والصناعات التي كانت تنتشر فيها، وغيرها من الأمور التي تجعل القارئ “يعيش” في هذه العاصمة ويعايش ما فيها من حركة ونشاطات وحياة في المجالات الاقتصادية والعسكرية والإدارية.. وهناك كتابات كثيرة لباحثين جزائريين حول عاصمة الأمير، منها هذه الدراسة التي أعدّها عميد الأثريين الجزائريين الدكتور “رشيد بورويبة” الذي قال: “لذلك رأينا أنه مِمَّا لا يخلو من الفائدة بمناسبة إحياء الذكرى المئوية لوفاة الأمير عبد القادر أن نسلّط الضوء على المكانة التي كانت تحتلها هذه المدينة ذات الماضي المجيد في الكفاح الذي خاضه الأمير عبد القادر من أجل تحرير بلادنا”.
الدراسة كتبها الدكتور “رشيد بورويبة” باللغة الأجنبية، واعتمد فيها على مصادر ومراجع فرنسية بشكل خاص، وقام بتعريبها الأستاذ “حسن بن مهدي”، ونشرتها مجلة “الثقافة” الجزائرية” في شهر أوت 1984، وتعيد جريدة “الأيام نيوز” نشرها لتضيء أمام القارئ زاوية من زوايا تاريخ الدولة الجزائرية الحديثة التي أسّسها الأمير “عبد القادر” وشيّد لها عاصمةً تُسمّى: “تاقدمت”. فلنترك القارئ يستكشف عاصمة الأمير فيما يلي..
التنظيم الإداري لعاصمة الأمير
اتخذ الأمير “عبد القادر” من مدينة «تاقدمت» عاصمة لدولته، إلّا أنّ حملاته العسكرية كانت كثيرا ما تُبعِده عن المدينة. نحن نعلم أنه أقام بها في الأيام الأولى لتأسيسها، أي نحو عشرة أيام على الأقل، بين 19 و29 سبتمبر 1836 كما ذكر ذلك “أوغست دي فرانس”، وأشار “دوماس” من جهته إلى وجود الأمير عبد القادر في “تاقدمت”، في ثلاث رسائل..
فقد كتب في الرسالة الأولى المُؤرَّخة في 3 جوان ما يلي: “وصل الأمير إلى تاقدمت ليلة الأحد الماضي… وهو يقضي وقته في الحكم بين الناس، والإشراف على أعمال البناء التي لم يفرغ منها، والإعداد لحملته على عين ماضي”. ويخبرنا في رسالته الثانية التي كتبها بتاريخ 10 جوان 1838 أن الأمير “يتلقّى الجرائد من مدينة الجزائر ويقرؤها عليه ليون روش”. ويلاحظ في رسالته الثالثة المُحرَّرة بتاريخ 17 جوان 1838 أنّ “الأمير يبدو في تاقدمت وهو في أبسط ما يكون حالا”، وأنه “يُبدي كثيرا من الفخفخة في نُسكه وعبادته”.
وكان إلى جانب الأمير، خليفته “میلود بن حراش”، وقائد «تاقدمت»، وحارس القلعة، وعمر ولد السلطان (ليون روش). ويبدو أن الأول لم تغلب عليه الإقامة في «تاقدمت» فقد أفادنا “أوغست دي فرانس” أنّ الأمير “عبد القادر” أوفده بتاريخ 29 سبتمبر 1836 في مهمة مع خيّالته ليقوم بأعمال المراقبة في ناحية “مستغانم”. كما تفيدنا رسالة بعث بها “دوماس” إلى “راباتيل” في 3 جوان 1838 أنّ الأمير كلّفه بمهمة وأنه “لن يتّخذ أيّ قرار قبل رجوعه”.
وكان قائد «تاقدمت»، الذي كان يُدعى: بلقريدر، حسب ما ذكره “دوماس”، رجل حيوية وطاقة فياضة، من مواليد “مازاغران” “التي غادرها حتى لا يعيش تحت السيطرة الفرنسية”. وكان حارس القلعة، حسب ما أكده “دوماس” في رسالته إلى “راباتيل” بتاريخ 22 سبتمبر 1839، هو “سي محمد بن جيلالي” ابن عمّ الأمير. أمّا “عمر ولد السلطان” (ليون روش) فقد كان أمين خزينة الأمير في “تاقدمت”، ومُكلَّفا بإدارة شؤون العمّال الأوروبيين”.
كتب “دوماس”، في رسالته التي بعث بها إلى “غيهينيك” في 10 مارس 1839، أنّ “تأثير ليون روش في فكر الأمير لا يفتأً في ازدياد، فقد عُيِّن مؤخرا أمينا رئيسيا على خزينة تاقدمت، وجميع الرؤساء يحترقون حسدا منه”.
ولاحظ “جـ. إيفر” في المذكرات التي رافقت هذه الرسالة أنّ “روش لا يشير إلى هذا التعيين، ولكنه أعاد إلى الذاكرة أنّ الأمير كلّفه بتفتيش مصانع الأسلحة المنشأة في: مليانة، تازة، تاقدمت”. وأضاف بأنه ربما “عزونا إلى هذا الدافع محاولة الاغتيال التي يقول روش أنه تعرّض لها في الطريق من تاقدمت إلى تازة”. لقد رأينا فيما سبق أنه هو (ليون روش) الذي كان يقرأ للأمير ما كان يتلقّاه هذا الأخير من جرائد من مدينة الجزائر.
ومن ناحية أخرى، يخبرنا “دوماس”، في رسالته التي بعث بها إلى “غيهينيك” بتاريخ 5 أوت 1839، أنّ زواج “ليون روش” قد احتُفل به في “تاقدمت”. وكتب بهذا الصّدد يقول: “لقد تزوج ليون روش مؤخرا حفيدة عمر باشا، باشا الجزائر السابق”.
ويخبرنا في الرسالة نفسها أن “ليون روش” كلّفه “عبد القادر” بتنظيم الجيش “فهو يحرّر كل يوم – كما قال – أوامر، لئن كانت ناقصة من حيث الشكل، إلّا أنها تمثل تقّدما بالنسبة إلى البلاد”. وأضاف بأن “وساما يُقلَّد به الأبطال قد تمّ إقراره، ويتمثل في يد مفتوحة مصنوعة من فضّة تُعلّق بحبل من الوبر، ولا يُمنح هذا الوسام إلّا لقاء عمل خارق من أعمال البطولة”.
وأوضح “جـ. إيفر”، في الملاحظات التي صاحبت هذه الرسالة، أنَّ زواج “ليون روش” قد احتفل به في 27 جويلية سنة 1839، وأنّ الوسام المُخصَّص للأبطال كان يُدعى في “التنظيمات العسكرية”: شيعة محمدية، وتحمل عبارة: “ناصر الدين”. وأضاف أنّ “روش” يُطلق عليه اسم: “الريشة”، إشارة إلى الريشة التي كان يّحِقّ للمقاتلين البارزين في المعارك زمن الرسول (ص) وضعها في عمامتهم. وأوضح أيضا أنّ “هذا الوسام يخوِّل لصاحبه بعض المزايا التشريفية وأجرًا عاليا”.
سكان “تاقدمت”
سبق أن لاحظنا في الفصل المتعلق بأهمية مدينة “تاقدمت” العسكرية أن حامية المدينة يبلغ عدد أفرادها 1200 رجل وأنها تزداد دعما كل يوم. وكان باقي السكان يتكوّنون من عائلة الأمير، ومن أناس جاءوا من مختلف جهات الجزائر، ومن سودان، وأوروبيين.. وكان وجود أسرة الأمير في “تاقدمت” قد أخبرنا بها، كما لاحظنا ذلك من قبل، رسالة “ماصوت” المؤرخة في 15 جوان 1841.
كان سكان مدينة “تاهيرت” المسلمون يأتون من عدة مدن جزائرية، فقد أخبر “دوماس”، في رسالته التي بعث بها إلى الجنرال “راباتيل” بتاريخ 3 جوان 1838، بوصول 150 كرغليًّا من المديّة ومعسكر. ويفيدنا، بعد أربعة عشر يوما، بأنّ في مدينة “تاقدمت” 600 أسرة جاءت من: مستغانم، مازاغران، شرشال، المدية، مليانة. ويُبرِز مناخ المدينة غير الصحّي بالعبارات الآتية: “لقد مات خلق كثير في تاقدمت منذ شهر. وقد ارتفع عددهم إلى نحو مئة، وقد اضطر الأمير إلى أن يترك بها 113 جنديا مرضى، وحمل معه أكثر من 200 مِمّن لم يشفوا نهائيا”.
وذكر “ماصوت” من جهته، في الرسالة المؤرخة في 15 جوان 1841، أنّ العرب من سكان مدينتي: المديّة ومليانة، قد التجأوا إلى “تاقدمت” بعد احتلال القوات الفرنسية هاتين المدينتين.. ولاحظ هو أيضا مدى عدم صحية مناخ “تاقدمت”، فكتب يقول: “تاقدمت بلدة غير صحية، وقرية سيّئة حيث الوفيات أمرٌ رهيب”.
ويقدّم لنا “فورنييه”، في الملاحظات التي أرفق بهـــا هذه الرسالة، المعلومات الآتية: “في تاقدمت، حسب جريدة الأخبار الصادرة في أول نوفمبر 1840، 300 مسكن، ويذهب غارسين إلى أنها تضم 2000 ساكن”.
نحن لا نعلم عدد “السودان” الذين كانوا يعيشون في “تاقدمت”. وكل ما نعلمه هو أن عددا منهم – حسب أوغست دي فرانس – شارك في إزالة الرّكام من المكان الذي كانت تحتلّه القصبة القديمة. أمّا الأوروبيون فقد كانوا يتألّفون من العمّال المتعاقدين مع الأمير، ومن الأسرى كان عدد العمّال – كما سبق أن ذكرنا – عشرة. أما الأسرى فيفيدنا “ماصوت” أن عددهم قد ارتفع سنة 1841 إلى 97 أسيرا، غير أنّ 48 منهم ماتوا بسبب سوء المناخ. وكان من بين الأسرى “أوغست دي فرانس”، وصديقه “موريس”، وثلاثة من صيّادي السّمك الإيطاليين.
الحملة الفرنسية على “تاقدمت”
يفيدنا الدكتور “بودنس”، الذي شارك في الحملة، بما يأتي: لقد كان الجيش المكلَّف بمهاجمة “تاقدمت” يتألّف من فرقتين: يقود إحداهما “دوق دي غورس” الذي كان يعمل تحت إمرته الجنرال “غاروب”، ويقود الفرقة الثانية الجنرال “لاموريسيار” الذي كان يعمل تحت إمرته الجنرال “ألفاسور”.
وقد خُصِّص يوم 17 ماي 1841 للتحضيرات، وتقرَّر أن يزحف الجيش، وقوامه 10 آلاف و12 ألف جندي، في ثلاثة أرتال، يتقدّم الرّتل الوسط الجنرال الملازم “بيجو”، والجنود المرتزقة، على أن تتكوّن من لواء خلفي يقوده الكولونيل “تامبور”، وببن میمنة وميسرة هذا الرّتل تزحف القافلة الثقيلة التي تتألّف من مئات الجمال والبغال والحمير ومن ألف ومئتين من الثّيران ونحو ألف فارس راجلين يجرّون جيادهم المُحمّلة بالزّاد. ووُضعت فرقة الميمنة تحت قيادة “دوق دي غورس”، وفرقة الميسرة تحت قيادة الجنرال “لاموريسيار”.
آلت قيادة سلاح الهندسة إلى الجنرال “بيرطواس”، وأسنِدت وظائف قائد الأركان للكولونيلين: “ديسبنواس” و”بیلیسيه”. وقام الجنرال “بوايير” بدور المرافق، والدكتور “بودانس” بمهمة رئيس الجرّاحين.
غادر الجيش “مستغانم” في 18 ماي 1843 عند مطلع الفجر، ولم يواجه أثناء الحملة إلا جماعة من الفرسان قوامها بين 3000 و4000 فارس. وتلقى “دوق دي غورس” أمرا بمهاجمتها. وسرعان ما انسحب فرسان الأمير، على أنه أمكن لقطعتين مدفعيتين أرسلتا على عجل أن تقذفا ببعض قنابلهما التي ألحقت بهم بعض الخسائر.
وكان هؤلاء الفرسان – كما يقول “بودانس” – يُدعون بالحُمر بسبب لون لباسهم، وبالنِّظاميِّين لأنهم جزء من ميليشيا “عبد القادر”، كانت مهمتهم تتمثل في رصد تحركات القوات الفرنسية، والمبادرة بإخبار القبائل قبل وصول هذه القوات، حتى يكون لها الوقت الكافي للرحيل والفرار حاملة معها كل شيء.
ويذكر “بودانس” أنّ الفرنسيين لم يواجهوا أيّ مقاومة، وأنّهم شاهدوا أعمدة عالية من الدخان تتصاعد من “تاقدمت” التي أحرقها سكانها عند الانسحاب منها.
وأسرع “بيجو” على رأس الفرقة إلى مكان الحريق، فتبادلت الطليعة بعض طلقات نارية مع مفرزة من الفرسان الذين نزلوا إلى الأرض وكمنوا وراء الصخور جنوب “تاقدمت”. وكلّف جنود المرتزقة بإزاحتهم من مكامنهم، واستمرّ تبادل إطلاق النار بينهم، إلى درجة الحِدّة أحيانا لكن بدون نتيجة تقريبا، طوال إقامة القوات الفرنسية في “تاقدمت”.
تدمير “تاقدمت”
يذكر “بودانس” أن “بيجو” عقد العزم في عين المكان على تخريب “تاقدمت” رأسا على عقب بواسطة الألغام والفؤوس والنار ثم مغادرتها في الغداة.
“باشر الجنود عملية التدمير بنشاط وفرح يصعب وصفهما. ولم يبق غداة ذلك اليوم من مدينة زاهرة إلّا المسجد الذي احتُرِمت حرمته، ودار واسعة يملكها صهر “عبد القادر”، وقد استُخدِمت هذه الأخيرة مستوصفَ إسعاف. ولما بقيت هذه الدار واقفة، أخذ الجنود يحشونها بأخشاب البناء ثم أضرموا فيها النار لتتويج عملية التدمير بفورة هائلة من ألسنة النيران”.
لقد أهمِلَت “تاقدمت” وهُجِرت منذ يوم 26 ماي 1841 الذي غادرَتها فيه القوات الفرنسية، لكن ها نحن نرى منذ بضع سنوات قرية مُشيّدة على جزء من موقعها، فأعادت إليها الحياة من جديد.