تزخر الجزائر بتراث مادي هائل قابلٍ للاستثمار في مجال السياحة والإعلام السياحي المتخصّص. وتمثّل المساجد أبرز عنصر في منظومة التراث المادي الجزائري، ذلك أنّها موجودة في كل مكان على جغرافية بلادنا شهِدَ تجمّعات سكّانية عبر مختلف العصور. وأيضًا، لأنّ كل مسجدٍ في الجزائر له خصوصيته التاريخية والمعمارية والفنيّة، ودلالاته الاجتماعية التي يُمكنها أن تكشف عن كثير من تفاصيل الحياة اليومية للمجتمع الجزائري. ولعلّه من المُجدي إعادة بعث “التراث المَسجدي” وتوظيفه في السياحة الدينية، وإعداد أعمال مطبوعة وسمعية بصرية ورقمية.. تكون بمثابة موسوعة وطنية تحصر المساجد في الجزائر.
الدكتور “رشيد بورويبة” من الباحثين الجزائريين المُتميّزين الذي وجّهوا جهودهم لإحياء التراث المادي الجزائري، ودراسته من الجوانب: المعمارية والفنيّة والتاريخيّة. ومن المُجدي إعادة بعث دراساته واستثمارها في “تفعيل” الوعي التاريخي في مجال التراث المادي، و”التّراث المسجدي” بشكل خاص، والتأسيس لإعلام سياحي يُفيد في السياحة الدينيّة، وأيضًا لدعم موروثنا الثقافي الذي يُعزّز أصالتنا في مرحلة عالمية تتميّز بالمشاريع الدولية التي تستهدف ضرب أصالة الشعوب وعناصر هويّتها الوطنيّة.
نشر الدكتور “رشيد بورويبة” دراسات قيّمة في مجال التراث المادي، قدّمنا منها دراسة حول: “تاقدمت.. عاصمة الأمير عبد القادر”، ونقدّم الآن دراسةً أخرى، نشرها “بورويبة” في مجلة “الأصالة” الجزائرية في شهر نوفمبر 1975، حول المساجد التاريخية في “تلمسان”، وفيما يلي ندعو القارئ إلى سياحة في تلك المساجد..
مسجد “أولاد الإمام”
وبالقرب من مسجد “سيدي أبى الحسن”، نجد مسجدين يرجع عهدهما إلى الدولة الزيانية: مسجد “أولاد الإمام”، ومسجد “سيدي إبراهيم”. إنّ مسجد “أولاد الإمام” أُسِّس 14 سنة بعد مسجد “سيدي أبى الحسن” من طرف الأمير “أبي حمو” ليكون تابعا للمدرسة القديمة حيث عالِمان كانا من أولاد إمامٍ من مدينة “برشك”، قرب “تنس”، كانا يلقيان دروسهما.
فقَد هذا المسجد معظم زينته الزيانية، ولكننا ما زلنا نشاهد فيه القُبَيبة المزيّنة بالمقرنصات التي تكلِّل مشكاة المحراب ومئذنتها الجميلة. كما نشاهد بمتحف “تلمسان” قطع من الجصّ المنقوش كانت تزيّن محرابه.. فهي مزخرفة بحَنيَة مُفصّصة وحافّتين مستطيلتين إحداهما مُؤثّثة بعناصر هندسية، والأخرى بكتابة وعناصر نباتية أنيقة إلى الغاية.
مسجد “سيدي إبراهيم”
وأمّا مسجد “سيدي إبراهيم” فإنه شُيّد في عهد السلطان “أبي حمو موسى الثاني” بجانب قبّة وزاوية ومدرسة، وكانت هذه المجموعة من المباني تحمل اسم “المدرسة اليعقوبية”، فاندثرت الزاوية والمدرسة وبقي المسجد والقبّة. إنّ مسجد “سیدي إبراهيم” له مئذنة مربّعة القاعدة، وقبّة مزيّنة بالأخاديد موضوعة أمام المحراب تشابه قبة “حمّام الصبّاغين” بتلمسان التي يرجع عهدها إلى المرابطين، غير أنَّ عدد الأخاديد أصبح 24 في مسجد “سیدي إبراهيم”، بينما كان 16 في حمّام الصبّاغين.
فلنترك الآن المساجد “الزيّانية”، لنقوم بجولة عبر المساجد “المَرينيّة”: جامع المنصورة، جامع سيدي أبي مدين، جامع سيدي الحلوي.
جامع “المنصورة”
لم يبق من جامع “المنصورة” إلّا القسم السفلي من جدرانه ومئذنته التي تُعتبر أعلى مئذنة شّيِّدت في وطننا من حيث أنّ ارتفاعها يبلغ 38 مترا. إنّ هذه المئذنة مَبنية بالحجر، ولها نواة مركزية مُكوّنة من قاعات موضوعة إحداها فوق الأخرى، يدور حولها منحدر ما زالت تظهر آثاره الآن، بينما لم يبق شيء من القاعات.
ومن مميزات هذه المئذنة، التي تشابه مآذن “خيرالدة” بإشبيلية، أنها بُنيت فوق الباب الرئيسي للجامع، وأنّها مُزيّنة بزخرفة تُعتبر من روائع فن النّحت الحجري الإسلامي. وتحتوي زخرفة الواجهة الرئيسية لهذه المئذنة على باب على شكل قوس حدوية – تشبه حدوة الحصان – في حافة مستطيلة حيث تجري كتابة كادت تُمحى، جاء فيها: “الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين، أمر ببناء هذا الجامع المبارك أمير المسلمين المجاهد في سبيل رب العالمين المقدس المرحوم أبو يعقوب بن عبد الحق رحمه الله”.
ونرى حول قوس الباب ثلاث حَنايا مزيَّنة بأقواس ثلاثية الفصوص، وأقواس مُشبّكة، وأقواس ذات فصوص نصف دائرية تتناوب مع فصوص مكسورة. وفوق ذلك ترى مقرنصات بارزة ترتكز على ساريتين جميلتين ما بقيت إلّا واحدة منهما في مكانها. أمّا المئذنة في ذاتها فإنّها مُؤثّثة بزخرفة تنقسم إلى ثلاث طبقات مستطيلة: الأولى مُزيّنة بقوس سُباعية الفصوص، والثانية بشبكة من المُعيّنات تعتمد على قوسين مُفصّصين، والأخيرة بخمسة أقواس سُباعية الفصوص تندرج فيها أقواس ثلاثية الفصوص وترتكز على سواري وتيجان. وفوق الطبقة الثالثة كنا نجد الشرفات التي كانت تكلَّل عادة البرجَ الرئيسي، فاندثرت هذه الشرفات، كما اندثر البرج العلوي للمئذنة.
جامع “سيدي أبي مدين”
ومن “المنصورة” فلنتجه نحو قرية “العباد”، لنزور معا جامع “سيدي أبي مدين”، ثاني مسجد مریني تلمساني. إنّ مسجد سيدي “أبي مدين” شُيِّد من طرف السلطان المريني “أبي الحسن”، ولكنه أخذ اسم الشيخ “أبي مدين” الذي دفن بالقرب منه.
ويمتاز مسجد “العباد” بمدخله وبابه البرونزي ومحرابه وقبّته وسقفه وزخرفة جدرانه وصحنه ومئذنته وميضائه وحمّامه. وما يجلب أنظار الزائر عند وصوله إلى مسجد سيدي “أبي مدين” هو مدخله الأنيق المُزيّن بزخرفة مُرتّبة حول قوس مكسورة قليلا يبلغ ارتفاعها 7 مترا، تحيط بها ثلاث أقواس مُفصّصة من الآجر مندرجة في حافة مستطيلة مُؤثّثة بمُشبكات مستقيمة مُنحنية.
وفوق ذلك نجد لوحتين أفقيّتين وظلّة. إنّ اللوحة الأولى مُزيّنة بكتابة بالخط الليِّن جاء فيها: “الحمد لله وحده، أمر بتشييد هذا الجامع المبارك مولانا السلطان عبد الله على بن مولانا السلطان أبى سعيد عثمان بن مولانا السلطان أبى يوسف يعقوب بن عبد الحق، أيّده الله ونصره، عام تسعة وثلاثين وسبعمائة، نفعهم الله”. واللوحة الأفقية الثانية مُزيّنة بخمس ورود ثُمانية الفروع في وسطها مربع ثُماني الأسنان مندرج في نجم ثُماني الأسنان.
أمّا الظلّة التي تُكلّل المدخل فإنها ترتكز على إحدى وعشرين حاملة مزدوجة، محاطة بأربع حاملات أبسط من الأولى وبارزة شيئا ما بالنسبة إليها. وبعد صعود إحدى عشرة درجة نصل إلى السَّقيفة، ويتعجّب الزائر من الزخرفة الأنيقة التي تُزيِّن الجدران والسقف.. والجدران مُغطّاة بالجصّ المنحوت حيث العناصر النّباتية والمعمارية والهندسية تتناوب مع كتابات مختلفة، مثل: “الحمد لله على نِعمه”، “يا ثقتي يا أملي، أنت الرجاء أنت الولي، أختم بخيرٍ عملي”، “ما النصر إلّا من عند الله العزيز الحكيم، وما توفيقي إلا بالله عليه توكّلت وإليه أنيب”، “نصر من الله وفتح قريب، وبشِّر المؤمنين”، “إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلّا الله”.
أمّا السّقف فهو مُزيّن بقبّة مُزخرفة بالمقرنصات، تُعدّ من أجمل قباب العالم الإسلامي. إنّ هذه السّقيفة الجميلة مفصولة عن الصّحن بباب مُغطّى بالبرونز. وقيل أنّ هذا الباب أُهدِيَ للسلطان “أبي الحسن” بعد فداء أسير مسيحي. مهما كان الحال، فلا نجد في العالم الإسلامي بابا يساويه فى دقة النقش وانسجام الزخرفة التي تحتوي على ثماني ورود ذات ستة عشر فرعا، في وسط كل وردة نجم ذو ست عشرة سِنّة، ومضلّعات مختلفة الشكل مُؤثّثة بغصون ملتوية وأوراق، كما يمتاز هذا الباب بمطرقة على شكل دائرة مُفصَّصة مُزيَّنة بعناصر هندسية ونباتية.
فلنفتح هذا الباب الأنيق، ونتوجّه نحو بيت الصلاة حيث مفاجآت لذيذة تنتظرنا. نرى المحراب الذي يشابه محراب جامع سيدي “أبي الحسن” بمشكاته المُكلّلة بقُبَيبة مُزيّنة بالمقرنصات وطَنفها الثُّماني الأضلاع المُؤثّث بآيات قرآنية مكتوبة بالخط الليِّن، ولوحاتها المستطيلة المزخرفة بأقواس على شكل صَدَفة مرتكزة على سوار وتيجان من الجصّ.
ولكن أجمل ما نشاهده في هذا المحراب هو التّاجان الموجودان على يمين ويسار مشكاته، واللذان يُعتبران أجمل تيجانٍ مِن الرّخام صُنعت في العالم الإسلامي، فيمتازان بالزخرفة الأنيقة التي تُغطّي قُرصَي، کل تاج وسطحيته وكتفه، بالكتابات التي تجري على عصابته. فجاء في التاج الأيسر: “هذا ما أمر بعمله مولانا أمير المسلمين أبو الحسن ابن مولانا أمير المسلمين”. وفي التاج الأيمن: “ابتغا وجه الله العظيم ورجا ثوابه الجسيم، كتب الله له به أنفع الحسنات وأرفع الدرجات”.
وأمام المحراب نرى، إن رفعنا أنظارنا، قبّة تستحقّ هي الأخرى اهتمامنا، فلها قاعدة مستديرة مُزيّنة بزجاج مُلوِّن يرسم عناصر هندسية ترتكز عليها القبّة نفسها المُؤثّثة بزخارف نباتيّة. ومن القبة، فلنحوِّل أنظارنا نحو السّقف الذي لا نجد مثله في المغرب الإسلامي كله، فهو مُزيّن بنقوش جميلة تحتوي على ورود ونجوم ومُضلّعات يختلف شكلها وترتيبها من سقف إلى آخر.
وإن نظرنا بعد ذلك إلى جدران بيت الصلاة، فيزداد تعجُّبنا، فنرى لوحة يبلغ ارتفاعها ثلاثة أمتار، تجري على الجدران وهي مُزيّنة بعناصر مُتكرّرة منقوشة في الجصّ. فوق هذه اللوحة، عصابة حيث تتكرّر العبارتان: “الملك الدائم لله” و”العز القائم لله”، يعلوها إفريز مُؤثّث بعناصر هندسية.
أمّا أقواس بيت الصلاة فهي الأخرى مُغطّاة بزخرفة من الجصّ المنقوش، يتغيّر نوعها وشكلها من قوس إلى أخرى. فتحتوي على حَنية مُزيّنة بغصون ملتوية وأوراق وزهور وحافّة مستطيلة، حيث نجد الكتابات نفسها التي تُزيِّن الجدران وإفريز من العناصر الهندسية يشابه هو الآخر الإفريز الذي يؤثث الجدران.
وبعد زيارتنا لبيت الصلاة، فلنقف دقيقة في الصّحن. إنّ هذا الصّحن مُربّع الشكل، مُفرَّش بالزلّيج ومُزيّن بفسقِيَّة – حوض رخامي للماء – جميلة على شكل صَدَفة. وفي زاوية من الصّحن نرى المئذنة المُكوَّنة من برج رئيسي مُؤثّث بشبكة من المُعيّنات في قسمه السفلي، وبورود كبيرة مرسومة على الزلّيج في قسمه العلوي، فوق البرج الرئيسي برج أصغر منه مُزيّن هو الآخر بالزليج ومُكلّل بقُبيبة نصف كرويّة يعلوها الجامور المُكوّن من سفود وثلاث كرات من البرونز. (الجامور: ما يعلو الصومعة أو المئذنة).
وقرب مسجد سیدي “أبي مدين”، نرى الميضاء التي تحتوي على غرفة مُربّعة الشكل يبلغ ضلعها 4،20 مترا، مُسقّفة بقبّة تشتمل على جذع هرم ذي قاعدة على شكل مُضلّع سداسي الأضلع، وهرم مُزيّن بورود وثُقُب ثُمانية الأضلاع. ونجد في الميضاء حوضين مستطيلين يشغلان جانبًا من القاعة، بينما الجوانب الأخرى تشغلها المراحيض.
أمّا حمّام سیدي “أبي مدين”، فهو ما زال يُستعمل إلى أيامنا هذه، فيحتوى على سقيفة على شكل زاوية قائمة وقاعة مستطيلة يبلغ طولها 8 مترا وعرضها 6 مترا مُكلّلة بقبّة ثُمانية القاعدة، وأخيرا ثلاث غرف متزاوية مسقّفة بسقف نصف أسطواني.
جامع “سيدي الحلوي”
وبعد زيارة جامع “سيدي أبي مدين”، فلنغادر قرية “العباد”، ونرجع إلى المدينة لنزور أخيرا جامع “سيدي الحلوي”. إنّ مسجد “سيدي الحلوي” يشابه كثيرا مسجد “سيدي أبي مدين” فله مثله بيت صلاة مُكوّن من خمسة أساكيب عمودية لجدار المحراب، وصحن مُربّع، ومئذنة موضوعة في الزاوية الشمالية الغربية للصحن.
ولكن جامع “سيدي الحلوي” يختلف عن مسجد “العباد” من بعض الجوانب، فنلاحظ مثلا أنّ أقواس جامع “سيدي الحلوي” ترتكز على سواري، بينما كانت أقواس جامع “سيدي أبي مدين” موضوعة على دعائم. وهذه السواري والتّيجان التي تعلوها جُلبت من “المنصورة”، والدليل الأول على ذلك هو أننا نجد على إحدى السواري تاريخ 747 هجرية، بينما الكتابة التي تُزيّن المدخل تذكر أن مسجد “سيدي الحلوي” شُيِّد في سنة 754 من طرف السلطان المريني “أبي عنان”.
والدليل الثاني هو أنّ السارية نفسها مُزيّنة بساعة شمسية وهي موضوعة في مكان لا تصل الشمس إليه أبدا. والدليل الثالث هو أنّ التيجان التي تعلوها سواري في بيت الصلاة تشابه التيجان التي وُجدت في “المنصورة”، وتختلف عن التّاجَين اللذين نراهما على يمين ويسار المحراب. وهذان التاجان الأخيران مُزيّنان بكتابة تجري على عصابتهما، وتدلّ على أنهما معاصران للمسجد.
فجاء في كتابة التاج الأيمن: “أمر ببناء هذا الجامع المبارك عبد الله المتوكل على الله.. أمير المؤمنين”. وجاء في كتابة التاج الأيسر: “جامع ضريح الشيخ الولي الرَّضِيّ الحلوي رحمة الله عليه”. والفرق الثاني بين المسجدين هو أن سقف جامع “سيدي الحلوي” مصنوع من الخشب، بينما ذكرنا أنّ سقف جامع “سيدي أبي مدين” مصنوع من الجصّ. والفرق الأخير بين المسجدين هو أنّنا لا نجد قبّة أمام محراب جامع “سيدي الحلوي”.