البطلُ في القصة القصيرة الجزائرية “هبَط من فوق منبر الوعظ والخطابِيَّة، ليصبح إنسانًا له مشاعره ومخاوفه وآماله، إنسانًا تتصارع في نفسه شتَّى المشاعر من كُرهٍ وحُبٍّ وخوف وخجل وفرح وحزن وغير ذلك”. ثمَّ سار “في اتِّجاهين، الأول: هو الاتِّجاه الرومانسي الهادئ.. والثاني: هو الاتِّجاه الرومانسي العنيف الصاخب”.
وقد شكَّلَت ثورةُ التَّحرير الوطني نقطةَ تحوُّلٍ كُبرى في مسيرة “البطل”، فقد انتقل “من المرحلة الإصلاحية والرومانسية إلى المرحلة الواقعِيَّة الثورِيَّة”. وقد اعتمد كُتَّاب القصَّة القصيرة الجزائريَّة على الحوار بشكلٍ كبيرٍ، وخاضوا في موضوعات متنوِّعة تجاوزَت قضايا الوطن والإنسان الجزائري في زمن الاستعمار، إلى القضايا العربيَّة، لا سيما قضيَّة فلسطين.
وقد عرفَت القصةُ القصيرة الجزائريَّة، خلال العقدين الأوَّلَين من الاستقلال، رُكودًا و”عدم الجودة والدَّوران حول موضوعات قديمة”، وذلك لضُعف النَّقد الأدبي الذي كان “أحد المعوقات أمام نشأة القصة الجزائرية وتطوُّرها من قبل”. فما هو واقع القصَّة القصيرة الجزائرية اليومَ، في ظلِّ أزمة النَّقد التي يعيشها الأدبُ العربيُّ عمومًا؟ وقد نشرَت جريدة “الأيام نيوز” مِلفًّا حول تلك الأزمة، شارك فيه أدباءٌ ونقَّادٌ من أقطارٍ عربيَّة عديدةٍ.
ونواصل إبحارَنا في مقال الدكتور “عبد الله ركيبي” الذي نشَره بمجلة “الآداب” البيروتية في شهر جويلية سنة 1973، لنستكشف بعضًا من تاريخ القصَّة الجزائريَّة، وملامح “البطل” فيها.. ونقِف على شكل الإعلام الثَّقافي الجزائري خلال فترة السبعينيَّات، وإسهام الأدباء الجزائريين في الإعلام الثَّقافي العربي لإثرائه، وللتَّعريف بالأدب الجزائري في المشرق العربي..
ميلاد البطل الرّومانسي
“الصورة القصصية”، التي تعَدُّ البداية الحقيقية للقصة، ما لبثَت حين تطوَّرَت أن دخلتها ملامحُ رومانسية جديدة، فبدأت تعالجُ موضوعات الحُبِّ والقدَر وعلاقة الرجل بالمرأة، والطبيعة. وأخذَت هذه الملامح تتَّضح شيئًا فشيئًا، وأخذ “البطل” الرُّومانسي يتبلور في صوَرٍ قصصِيَّة أقرب إلى روح وشكلِ القصة الفنية. ففي صورة “فتاة أحلامي” لـ “أحمد رضا حوحو”، نجِد “البطل” يقترب من الأنموذج الإنساني لـ “بطل” القصة من حيث التَّعبير عن عاطفته وانفعالاته وأشواقه، فهو الشابُّ الذي يعيش مع الأحلام، ويحِبُّ حُبًّا عذرِيًّا مُجنَّحًا يحلِّق به في أجواء الخيال، وهو يتحدَّث إلينا بضمير المُتكلِّم، فيقدِّم نفسَه في صورة طالبٍ جامعيٍّ خجول مُنطوٍ على ذاته، يستمع في الكلِّيَة لزملائه وهم يتحدَّثون عن مغامراتهم مع فتياتهم أيَّام العطلة، بينما يعود هو دائمًا كما خرَج دون أن يلتقي بفتاة أحلامه، فيتحسَّر على نفسه وعلى حياته الخالية من الحُبِّ، لأنَّه سلبي يخاف المرأةَ ويخشى تجربته معها، هذا الخوف الذي غرسته في نفسه تقاليد المجتمع التي تمنع اختلاطَ الرجل بالمرأة. ولكنه يثير تعاطفنا معه رغم سلبيته، ونشعر نحن بأنَّه أنموذج لشبابٍ كثيرين يعانون من العقدة نفسها. والسَّرد الذي يأتي على لسانه، يزيدنا معرفةً بصفاته النفسِيَّة: “وأخذتُ أقوِّي نفسي واستنجد بعزمها، وأحاول إقناعها بالغلَبة والانتصار، ولكن بدون جدوى، فما كانت تزيد إلاَّ ارتجافًا وخُذلانًا”.
الهبوط من فوق منبر الوعظ
كان هذا مُنعطفًا جديدًا في شخصِيَّة “البطل” القصصي الذي هبَط من فوق منبر الوعظ والخطابِيَّة، ليصبح إنسانا له مشاعره ومخاوفه وآماله، إنسانًا تتصارع في نفسه شتَّى المشاعر من كُرهٍ وحُبٍّ وخوف وخجل وفرح وحزن وغير ذلك. وكانت هذه “الصورة القصصِيَّة” ومثيلاتها بدايةً لتيَّار الرومانسية الذي استمرَّ حتى قيام الثورة، ولكنه سار في اتِّجاهين، الأول: هو الاتِّجاه الرومانسي الهادئ كما رأينا لدى “حوحو”. والثاني: هو الاتِّجاه الرومانسي العنيف الصاخب الذي يبدو فيه “البطل” مُتمرِّدًّا ساخِطًا على الحياة من حوله، وهو ليس في معظم الأحيان، السُّخط الإيجابيُّ الذي يدفعه إلى تغيير واقعه، بل هو سخطُ الاحتجاج فحسب.
وكثيرٌ من قصص هذا النوع الأخير كتِبَت خارج الجزائر، فهي تعبيرٌ عن تجارب شخصِيَّةٍ ضيِّقة، ولا تصوِّرُ مضمونًا اجتماعِيًّا واسعًا. والجديد فيها هـو التطوُّر من حيث الشَّكل، لذا نجد البطل – رغم ضيقِ المضمون – يبدو أكثر نُضجًا وتطوُّرًا وحركة، فهو في صراعٍ دائم مع ظروفه، ومع تطوُّرٍ البطل يتطوَّرُ الحدثُ بشكلٍ واضح ويرتبط به.
من الإصلاحيّة والرومانسيّة إلى الواقعيّة الثوريّة
وعلى أيَّة حالٍ، فالبطلُ في هذا اللون من القصَصِ الرُّومانسي هو صورة من الشباب الجزائري القلِق، ورمزًا لحرمانه في فترة مُعيَّنة ساد فيها ضغط الاستعمار، والمجتمع بتقاليده الجامدة، فكان تنفِيسًا عن همومه وآلامه. ولكن هـذه الرومانسية التي أصبحَت تيَّارًا مُتميِّزًا في بداية الخمسينيات، قد توقَّف تقريبًا بقيام الثورة التي كانت – كما قلنا – نقطة تحوُّلٍ هامَّةٍ في القصة الجزائرية، فرضَت عليها التيَّار الواقعي ونقلَت “البطل” من المرحلة الإصلاحية والرومانسية إلى المرحلة الواقعِيَّة الثورِيَّة، فأصبَح مُناضلاً ثائرًا يحمل السلاح لتحرير أرضه وانتزاع حريته، وهي المرحلة الجادَّة التي أضافَت إلى القصة القصيرة الجزائرية تجاربَ غنِيَّة خِصبة، أو صوَّرَت أبطالاً لهم نظرة جديدة.
اثنان وثلاثون طلقة
ففي قصة “اثنان وثلاثون طلقة” مثلاً للكاتب “عثمان سعدي”، نلتقي بشابٍّ بسيط، جُندي جزائري تطوَّع في الجيش الفرنسي أيام حرب الهند الصينية، وبعد رجوعه التحقَ بجيش التحرير، بعد أن اقتنع بأنَّ الثورةَ قامَت لصالح الشعب، وليست كما يُصوِّرها له الفرنسيون عبارة عن تمرُّدٍ لجماعة خارجةٍ على القانون.
و”البطل” يروي لنا حياتَه كلُّها مضغوطةً في قصة قصيرة، مستخدِمًا في ذلك طريقة “المونولوج الداخلي”، وقد عكس تجاربه الكثيرة التي عاشها في عبارات موجزة كقوله مثلاً: “كان لديَّ المال واللِّباس والسِّلاح، ولكني كنتُ أشعرُ في غموضٍ أنَّ شيئًا هامًّا ينقصني”. ونعرفُ بعد ذلك أنَّ هذا الشيء الذي ينقصه هو ارتباطه بقضِيَّته وإيمانه بوطنه وتضحيته في سبيله، وهكذا تتطوَّر شخصيَّتُه ليصبح مناضلاً شريفًا.
الفجر الجديد..
وقد تباينَت وتنوَّعَت أنماطُ البطل في القصة الواقعية الفنية، نصادف أنموذجًا ثانِيًّا في قصة “الفجر الجديد” للكاتب “أبي العيد دودو”، البطل فيها مُوظَّفٌ سلبيٌّ يحيا حياةً هادئة رتيبة لا ينفعل فيها بما يجري حوله من أحداث هزَّت الجميع. وشخصيَّته هنا مُبرَّرة، فهو موظف لدى الإدارة الفرنسية، ولذا لا بدَّ أن تكون نظرته إلى الثورة مَشوبة بالحذر وانتحال الأعذار لنفسه، لعدم المشاركة فيها، خاصة وأنَّه يحِبُّ زوجتَه الحسناء حُبًّا طاغِيًّا يجعله يَجبُن عن مواجهة واقع فائرٍ مُضطربٍ، فهو يريد العيشَ في دِعَةٍ وهدوء، ولكنَّنا نصادف الأنموذج الثاني في القصة وهي الزوجة على النَّقيض من زوجها، مُثقفةٌ ذكِيَّة مُنفعلة بما حولها. وكلٌّ من الأنموذجَين من خلال ظروفه وتكوينه النفسي، إنسانٌ واقعي. ولكن شخصيَّة البطل تأخذ في التطوُّر تدريجِيًّا، فهو يصادف موقِفًا يُصدَم فيه في زوجته، ويعتقد أنَّها خانته، وحينئذٍ يقرِّر الالتحاقَ بالجبل، لا إيمانًا به بل فرارًا من واقعه، وحين يكتشف أنَّ زوجته تعمل في صفوف المجاهدين، وأنَّ شكوكَه فيها لم تكن صحيحة، يعذِّبه الندم، ويصبح التحاقه بالجبل عملاً إيجابِيًّا حاسمًا نتيجةَ إيمانٍ واقتناع، مِمَّا يعطيه ملامحَ إنسانِيَّةٍ أكثر، فهو أوَّلاً: إنسانٌ بسلبِيَّته وضعفه وأنانِيَّته، وهو ثانِيًّا: إنسانٌ بشكله وعذابه وفراره من الواقع، وهو أخيرًا: إنسانٌ باقتناعه بعدالة قضيته واندفاعه، مناضِلاً عنها حتى النهاية.
فالبطلُ هنا يعَدُّ أنموذجًا جيِّدًا لـ “البطل القصصي” الذي لا بدَّ أن يكون مقنِعًا، ولشخصيته أبعادٌ تحدِّدها، وتتمثَّل في الدَّوافع التي تدفعه إلى سلوكٍ مُعيَّن أو عمل ما، كما تتحدَّد بتصرُّفاتها من إشارةٍ وحركة وصِفات نفسِيَّةٍ.
قوّة الحوار في القصة الجزائريّة
والكاتب جعَل شخصيةَ هذا الموظف ترتبط بالحدث، وهو ما ينبغي أن يتوفَّر في البطل القصصي أيضًا، يؤثِّر فيه ويتأثَّر به، يطوِّره ويتطوَّر معه في حركةٍ مستمرة. ويلعب الحوار طبعًا دورًا هامًّا في رسم شخصية البطل وتحديد معالمها. ولقد عنِيَ القصَّاصون الجزائريون بعنصر الحوار منذ بدايات القصة، أي منذ المقال القصصي الذي كان في معظمه حوارًا خالِصًا، ولِذا تمرَّسوا على كتابته، وأجاد بعضُهم استخدامَه في القصة الفنيَّة أثناء الثورة.
فحين تسأل الزوجةُ زوجَها السَّلبي: “تُرى من يستجيب لهذه الاهتزازات ويكتب شعاراتها بدمائه إذا لم نستجب لهـا نحن المثقفين؟” ويجيبها: “ولكن هذا لا يعني أنَّ علينا جميعًا أن نشارك فيها، فقد يكون أولئك الذين قاموا بها في غِنى عنَّا”، فإنَّ هذا الحوار يساعد على رسم شخصية كل منهما وتحديدها، و”دودو” من أكثر كُتَّابنا إنتاجًا وأصالةً وإحساسًا بقضايا وطنه ومجتمعه.
وإذا كان الكُتَّاب قد وُفِّقوا في استخدام الحوار في أحيانٍ كثيرة، فإنَّ ذلك لم يحدث بالنسبة للسَّرد، إذ كثيرًا ما كان تقريرِيًّا مباشرًا يُضعِف من قوَّة الحدث، وبالتالي يُضعف مِن فاعلية “البطل”.
عائدون.. البطل لاجئ فلسطينيّ
ولم يُعالج الكُتَّاب موضوعات النِّضال فحسب، بل تطرَّقوا إلى موضوعات أخرى تتصل بها كالهجرة والاغتراب والخيانة وغير ذلك. وأيضًا، خاضوا تجارب مُتعدِّدة من حيث الشكل والمعالجة، كاستخدام المونولوج الداخلي، أو شكل الرسالة، أو التزام الأسطورة، أو الرمز مثلما فعل “بن هدوقة” في مجموعة “الأشعَّة السبعة “.
والقصة الواقعية لم تكتف بمعالجة قضايا الواقع الجزائري، بل عالجَت معه قضايا عربية قومِيَّة إيمانًا بأنَّ قضايا الوطن العربي واحدة، مثلما حدث بالنسبة لقضية الجزائر حين عالجتها أقلامٌ كثيرة في أقطار العروبة الشقيقة.. فوجدنا مثلاً “البطل” لاجئًا فلسطينِيًّا كما في قصة “عائدون” للكاتب “حنفي بن عيسى”، وغيرها من القصص لكُتَّاب آخرين.
الثّورة ملهمة جيل الاستقلال
ولكن موضوع الثورة ظلَّ يلِحُّ على الأدباء بعد الاستقلال بعدة سنوات، فظلَّت القصة تدور في فلك الثورة وتستقي منها موضوعاتها إلى حدِّ كبير، لَمسنا ذلك فيما صدَر من مجموعات قصصية مثل: دقت الساعة لـ “البهي فضلاء”، بحيرة الزيتون لـ “دودو”، طعنات لـ “وطار”، الرصيف النائم لـ “زهور ونيسي”… كذلك فيما نُشِر من قصص بالصحف والمجلات.
ثم أعقب ذلك فترة ركودٍ مَلحوظة في هذا اللون الهام من الألوان الأدبية، وكما أشرتُ في البداية. لم تستطع الحركة التي تموج بها البلاد أن تُلِهم كُتَّاب القصة باستثناء بعض القصص التي استطاع أصحابُها أن يعبِّروا عن مضمونٍ اجتماعي جديد لمجتمع ما بعد الاستقلال، ولكنَّها لا تشكِّل اتِّجاهًا أو اتجاهات مُميَّزة واضحة، إن في المضمون أو الشكل.
نهضة أدبيّة لم تواكبها حركة نقديّة
ولعل أحد الأسباب الرئيسية لهذا الركود وعدم الجودة والدوران حول موضوعات قديمة، هو ضعفُ النقد الأدبي بالجزائر، وقد كان ضُعف النقد بل ونُدرته أحد المعوقات أمام نشأة القصة الجزائرية وتطوُّرها من قبل، ولا زال حائلاً دون تكوين قصَّاصين جُدد أو دفعِ وتوجيه القصَّاصين الحاليِّين (1973). ولذا يلِحُّ الباحثون على ضرورة وجود تيّارٍ من النقد الفني يواكب النهضةَ الأدبيةَ: شِعرًا ونثرًا، ويوجِّه خُطاها حتى تندفع في طريقها إلى خدمة الثقافة العربية والتَّعبير عن قضايا الوطن العربي.