في عالم يموج بالصراعات من أجل الحرية والكرامة الإنسانية، تبرز تجارب الشعوب المقاومة كمنارات للأمل والتضامن. وفي هذا السياق، تتشابك -بين النضال الفلسطيني والتجربة الأيرلندية- قصص كفاحٍ مشترك ضد الاحتلال والاستعمار، حيث تتوحد هذه التجارب بدعوة واحدة إلى تحقيق العدالة وحق تقرير المصير. هذه العلاقات ليست مجرد صفحات من التاريخ، بل هي انعكاس حي لتضامن إنساني عالمي يتجسد عبر الفن، السياسة، والعمل الإنساني. فمن أغاني فرقة “ذا شان فانز” الأيرلندية التي تسلط الضوء على مأساة غزة، إلى الدعم المالي الذي تقدمه أيرلندا لوكالة الأونروا في مواجهة الأزمات الإنسانية، وصولاً إلى تصريحات القادة السياسيين الأيرلنديين الذين يقارنون بين مقاومة أيرلندا للاستعمار البريطاني ونضال الفلسطينيين ضد الاحتلال الصهيوني، تتضح صورة حية للنضال العالمي المشترك. هذه الأمثلة ليست مجرد أحداث متفرقة، بل تمثل صوتًا واحدًا ينادي بالحرية ويؤكد أن العدالة هي قضية إنسانية تتجاوز الحدود والجغرافيا.
قال المغني الرئيسي لفرقة الروك الأيرلندية “ذا شان فانز”The Shan Vans))، جيك ماك سياكايس، إن أغنيتهم الجديدة تهدف إلى فضح الإبادة الجماعية الصهيونية في قطاع غزة وزيادة الوعي بالقضية الفلسطينية. الفرقة، التي تأسست حديثًا في غرب بلفاست، أطلقت يوم الجمعة أغنية مدتها 10 دقائق بعنوان “ذا شان فان” والتي تعني “السيدة العجوز” باللغة الأيرلندية.
رافق الأغنية مقطع مصور مميز شارك في إنتاجه أكثر من 100 فنان عالمي، بما في ذلك موسيقيون شباب وفنانون من مختلف المجالات مثل الرسوم المتحركة، الرسوم التوضيحية، اللوحات، والمنحوتات اليدوية. هذا المشروع الإبداعي يعكس النضال المشترك من أجل الحرية والكرامة الإنسانية، ويبرز الروح القوية التي تجمع الفنانين المناصرين لقضايا التحرر حول العالم.
في حديثه لوكالة الأناضول، أكد سياكايس أن أغنية “ذا شان فان”ليست مجرد عمل فني، بل صرخة ضد الظلم. وقال: “نهدف من خلال هذه الأغنية إلى فضح الإبادة الجماعية في غزة، وزيادة الوعي بالقضية الفلسطينية، بالإضافة إلى جمع التبرعات لدعم الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية”. وأضاف أن هناك تشابهًا قويًا بين تاريخ المقاومة الأيرلندية والمقاومة الفلسطينية، مشيرًا إلى تجربة بوبي ساندز، أحد أعضاء الجيش الجمهوري الأيرلندي، الذي فقد حياته أثناء إضراب عن الطعام عام 1981 احتجاجًا على عدم الاعتراف بسجناء المقاومة كسجناء سياسيين. واستشهد ساندز بمقولته الشهيرة: “انتقامنا هو ضحكة أطفالنا”.
فلسطين وأيرلندا.. تاريخ مشترك
أوضح سياكايس أن هناك تقاطعًا واضحًا بين تاريخ أيرلندا وفلسطين في مواجهة الاستعمار. وأضاف: “نسعى لتحرير عقول الشعوب من الاستعمار من خلال الفن، نحن في أيرلندا نعلم جيدًا ما يعنيه الاحتلال، ولدينا التزام أخلاقي بالوقوف إلى جانب الفلسطينيين الذين يعانون تحت الاحتلال منذ أكثر من 75 عامًا”.
وشدد على ضرورة تحقيق وقف دائم لإطلاق النار لإنهاء الاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية، مضيفًا: “لن نقف مكتوفي الأيدي بينما يعاني الفلسطينيون في غزة”. وأكد أن الأغنية تبرز محنة الشعب الفلسطيني من خلال تسليط الضوء على الصحفيين الشجعان الذين يعملون في غزة، والرقابة على الصحافة، واستهداف الصحفيين خلال الحرب. كما تناولت الأغنية قضايا الاعتقال والسجن التعسفي للرجال والنساء والأطفال الفلسطينيين في السجون الصهيونية.
تم إصدار أغنية “ذا شان فان”مع تصميمات فنية خاصة بالفرقة، وسيتم قريبًا الإعلان عن جولة موسيقية تتضمن عروضًا حية لجمع التبرعات من أجل المساعدات الإنسانية لغزة. يعكس هذا العمل الفني الجهد الإنساني المشترك بين الفنانين الأيرلنديين والدوليين في دعم الفلسطينيين، ليؤكد أن الفن يمكن أن يكون أداة قوية للمقاومة وكشف الحقيقة.
في سياق متصل، أعلنت أيرلندا عن تقديم دعم مالي كبير لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، إذ صرّح نائب رئيس الوزراء الأيرلندي، سيمون هاريس، أن أيرلندا ستقدم 20 مليون يورو لدعم جهود الأونروا في تقديم المساعدات الإغاثية والإنسانية لغزة والضفة الغربية، وكذلك للاجئين الفلسطينيين في مختلف أنحاء الشرق الأوسط.
وأشار هاريس إلى الوضع الإنساني الكارثي في غزة، حيث قُتل أكثر من 47,540 شخصًا وجُرح ما يزيد عن 111,000 آخرين، معظمهم من النساء والأطفال، وفقًا لتقارير الأمم المتحدة. وأكد أن هذا الدعم يعكس التزام أيرلندا بتقديم مساعدات إنسانية كبيرة لضمان استمرار عمل الأونروا، مشيرًا إلى أهمية دورها الحصري في تقديم الخدمات الصحية والاجتماعية والتعليمية لأكثر من 300 ألف طفل في غزة.
وأعرب هاريس عن قلقه البالغ إزاء التشريعات الصهيونية الأخيرة ضد الأونروا، وحثّ سلطة الكيان على إعادة النظر فيها. كما دعا الحكومات الأخرى إلى تقديم الدعم المالي لضمان استمرار خدمات الأونروا، مشددًا على أهمية الحفاظ على هذه المنظمة في ظل الأوضاع الحرجة.
18 عامًا في السجون البريطانية
وفي سياق متصل، تناولت شخصيات بارزة من رموز النضال الأيرلندي تشابهات كبيرة بين تجربة الشعب الأيرلندي في مواجهة الاستعمار البريطاني ومعاناة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال الصهيوني.وأكد بات شيهان، السياسي الأيرلندي وأحد مقاتلي الجيش الجمهوري الأيرلندي سابقًا، أن تجربة أيرلندا تُبرز أهمية التضامن الدولي ومشاركة الخبرات مع الشعوب التي تناضل من أجل حقوقها. وأوضح شيهان أن مبادئ عالمية، مثل الوحدة الداخلية والتفاوض لتحقيق السلام، يمكن تطبيقها في صراعات مشابهة، ومنها القضية الفلسطينية.
أوضح شيهان، الذي قضى 18 عامًا في السجون البريطانية بسبب نشاطه ضمن الجيش الجمهوري، أن النضال الأيرلندي ضد الاحتلال البريطاني شهد مراحل صعبة من التهجير القسري والاعتقالات التعسفية، وهي تجارب مشابهة لما يعيشه الفلسطينيون اليوم.وأضاف داني موريسون، أمين عام مؤسسة “بوبي ساندز”، أن نهج القمع البريطاني، لا سيما الاعتقالات الإدارية دون محاكمة، قد تبنّته سلطة الاحتلال في تعاملها مع الفلسطينيين. وأشار إلى أن هذه الأساليب تعكس استمرار النهج الاستعماري في مواجهة الحركات التحررية، مما يدفع الأيرلنديين إلى تبني موقف داعم للقضية الفلسطينية.
أشار شيهان إلى أهمية الوحدة الداخلية في النضال الوطني، موضحًا أن أحد عوامل نجاح عملية السلام الأيرلندية كان توحيد المطالب العامة التي لا يختلف عليها الشعب. وأكد أن التجربة الأيرلندية أظهرت أن التفاوض مع الأطراف كافة، بما في ذلك القوى السياسية والجماعات المحلية، كان ضروريًا لتحقيق تقدم نحو إنهاء الصراع.
لقاء قادة حماس وأعضاء حزب “شين فين”..
كما لفت إلى أن السلام في أيرلندا لم يأتِ بسهولة، بل تطلب تنازلات مؤلمة من جميع الأطراف خلال اتفاقية “الجمعة العظيمة”، التي ساهمت في إنهاء النزاع ووقف العمليات العسكرية. وأوضح أن هذه التجربة قد تكون ذات فائدة للفلسطينيين، حيث يمكن أن يسهم الحوار الشامل والتفاوض الجاد في تحقيق سلام شامل ومستدام.
أشار شيهان إلى لقاءات جمعت بين قيادات المقاومة الفلسطينية وحزب “شين فين”، من بينها لقاءات مع شخصيات بارزة مثل خالد مشعل وإسماعيل هنية. وأوضح أن هذه اللقاءات ركزت على تبادل الخبرات حول كيفية الانتقال من النضال المسلح إلى العمل السياسي، مع التركيز على أهمية الوحدة الداخلية وتنسيق الجهود لمواجهة التحديات المشتركة.وأكد شيهان أن التجربة الأيرلندية في بناء السلام أظهرت أهمية إيجاد حلول توافقية من خلال التفاوض، كما شدد على ضرورة تعزيز الحوار بين الفصائل الفلسطينية لتحقيق أهداف مشتركة، موضحًا أن الوحدة الوطنية هي مفتاح النجاح لأي حركة تحررية.
الفن والمقاومة.. رسالة عالمية
وفي الوقت الذي تدعم فيه أيرلندا القضية الفلسطينية على المستوى السياسي والإنساني، تسعى فرق فنية مثل “ذا شان فانز” إلى تعزيز الوعي بالقضية الفلسطينية عبر الفن والموسيقى. هذا التعاون بين السياسة والفن يعكس التزام أيرلندا بمساندة الفلسطينيين في نضالهم، ويبرز أهمية توحيد الجهود الإنسانية والثقافية لتحقيق العدالة.
محاولة إسكات أيرلندا
وفي نهاية شهر جانفي الماضي، تعرّض الرئيس الأيرلندي مايكل دي هيغينز لهجوم من جهات مناصرة للاحتلال الصهيوني، بعدما ألقى كلمة خلال فعالية تذكارية للهولوكوست في دبلن، تحدث خلالها عن “هذا الفصل المظلم في التاريخ الأوروبي”، فضلاً عن تسليط الضوء على المعاناة الحالية في غزة. وقال هيغينز: “من المأمول أن يرحب أولئك في (إسرائيل) الذين ينعون أحباءهم، وأولئك الذين كانوا ينتظرون إطلاق سراح الرهائن (المحتجزين الإسرائيليين في غزة)، أو الآلاف الذين يبحثون عن أقاربهم بين الأنقاض في غزة، بوقف إطلاق النار الذي طال انتظاره، والذي جرى دفع ثمنه باهظاً للغاية”.
وقال هيغينز: “إن الحزن الذي أصاب الأسر نتيجة للأعمال المروعة التي وقعت في السابع من أكتوبر، والرد عليها، أمر لا يمكن تصوره، فقدان أرواح المدنيين، وأغلبهم من النساء والأطفال، ونزوحهم، وفقدان منازلهم، والمؤسسات الضرورية للحياة ذاتها. فكيف يمكن للعالم أن يستمر في النظر إلى الأطباق الفارغة التي يملؤها الجوعى؟”.
وواجه هيغينز انتقادات من بعض زعماء الجالية اليهودية في أيرلندا، الذين اعترضوا قبل الحدث على خطابه الرئيسي يوم الأحد بسبب التعليقات السابقة التي أدلى بها حول غزة، بما في ذلك التصريحات التي أدلى بها في النصب التذكارية الستة السابقة. وبدأ الرئيس الأيرلندي خطابه في إحياء ذكرى يوم الهولوكوست، وقد صادف هذا العام مرور 80 عاماً على نهاية الحرب العالمية الثانية، بالترحيب باثنين من الناجين المتبقين من الهولوكوست في أيرلندا، تومي رايخنتال وسوزي دايموند، اللتين التقط معهما الصور قبل إلقاء كلمته. كما ذكّر تجربته المؤثرة في زيارة نصب تذكاري لمعسكر الاعتقال أوشفيتزبيركيناو في بولندا عام 2020.
وأعرب الرئيس الأيرلندي عن أمله في أن تولد من أهوال الهولوكوست دروس تنطبق على الفترة الحالية من “الاستبداد السياسي المتصاعد والاستقطاب والعنف”، مضيفاً: “إن مثل هذه الأجواء تهدد الديمقراطية وتعزز العنصرية والانقسام والاستبعاد”. وتابع: “بدلاً من بذل جهد متضافر لبناء عقل حرب، فإن ما تحتاجه البشرية الآن هو بناء عقل سلام”، معتبراً أنه “سيكون عملاً صعباً، لكن يجب أن نتعاون لتصور السلام وتحقيقه”. ثم انتقل إلى أحداث السابع من أكتوبر 2025 والحرب العسكرية الصهيونية التي تلت ذلك.
وقبل ذلك، اتهم رئيس وزراء أيرلندا سيمون هاريس سلطة الكيان بمحاولة إسكات بلاده على خلفية موقفها الرافض للحرب على قطاع غزة، ووصف قرار (تل أبيب) إغلاق سفارتها في دبلن بـ”دبلوماسية تشتيت الانتباه”، وقال رئيس الوزراء الأيرلندي إن سلطة الكيان لن تسطيع إسكات بلاده لانتقادها الهجمات التي تشنها القوات الصهيونية على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.
جاء ذلك في تصريحات أدلى بها رئيس الوزراء الأيرلندي سيمون هاريس للصحفيين في مدينة دون لوغيري في ديسمبر 2024، تعليقًا على إعلان (إسرائيل) إغلاق سفارتها في دبلن. ووصف هاريس قرار رئيس وزراء سلطة الاحتلال الصهيوني “بنيامين نتنياهو”بـ”دبلوماسية تشتيت الانتباه”، وأعرب عن أسفه للقرار، مؤكدًا أنه كان يفضل استمرار العلاقات الدبلوماسية. ورغم ذلك، شدد على أن “أيرلندا لن تصمت”، في إشارة إلى موقف بلاده الثابت من انتقاد الجرائم الصهيونية في قطاع غزة.
وفي ردّه على سؤال أحد الصحفيين حول موقف دبلن من الحرب الصهيونية على غزة، قال هاريس: “اليوم تسألون عن موقف أيرلندا، لكن ماذا عن ممارسات (إسرائيل)؟ ماذا عن الجرائم التي ارتكبها نتنياهو بحق الأطفال الأبرياء في غزة؟ هذه هي دبلوماسية التدمير”. وأضاف: “ما الذي يجب إدانته أولاً؟ قتل الأطفال. أعتقد أن هذا الشيء لا يحتاج إلى نقاش؛ إنه جريمة بكل المعايير”.
في سياق آخر، رفضت وزارة الخارجية الأيرلندية قبل أيام قليلة (مقترح) وزير الدفاع الصهيوني يسرائيلكاتس بقبول أيرلندا للفلسطينيين النازحين من قطاع غزة. وأصدرت الوزارة بيانًا أكدت فيه أن الحل لا يكمن في تهجير السكان، بل في زيادة الدعم الإنساني لغزة، وإعادة الخدمات الأساسية، ووضع إطار عمل يضمن عودة النازحين إلى ديارهم. وجاء في البيان: “أي تصريحات مخالفة لذلك ليست سوى إلهاء وغير مجدية”.
رسالة التضامن والأمل
في نهاية المطاف، يبقى النضال الفلسطيني والأيرلندي شاهدين على قدرة الشعوب على الصمود في وجه الظلم والسعي لتحقيق العدالة، فإن العلاقة بين الشعبين تتجاوز حدود الجغرافيا، لتعكس قيم التضامن الإنساني والعمل المشترك من أجل الحرية والكرامة.
من التصريحات السياسية الجريئة إلى المبادرات الإنسانية الداعمة، ومن أغاني النضال إلى المواقف الدولية، تثبت هذه الجهود أن العدالة ليست مجرد شعار، بل هي قضية عالمية تتطلب تضافر الجهود، فتجربة أيرلندا وفلسطين تقدم نموذجًا ملهمًا لكيفية أن يصبح الكفاح المشترك ضد الاحتلال والاستعمار أساسًا لبناء مستقبل أفضل، حيث تظل أصوات الحرية والكرامة صدى لا ينطفئ.
ومع استمرار العالم في مواجهة التحديات، تبقى الروابط بين الشعوب رمزًا لقوة الإرادة الإنسانية، ومثالًا حيًا على أن الحرية والعدالة هما الأمل الدائم الذي ينشده الجميع. لن تكون العدالة يومًا مطلبًا مستحيلاً ما دام هناك شعوب تؤمن بأن النضال المشترك والإنسانية يمكن أن يهزما الظلم ويصنعا عالمًا أكثر سلامًا وإنصافًا.