يُجمع الملاحظون والمهتمون بالشأن “المغاربي – العربي” على أن لا مسؤول جزائري جرى على لسانه ذكر المغرب صراحة أو تلميحا، فمنذ قطع العلاقات السياسية وردِّ الرئيس “تبون” على سؤال متعلق بالقرار بقوله: “..قطع العلاقات كان خيارا بديلا لخيار الحرب..”.. بلسان صارم ولهجة حازمة لم تترك مجالا للتأويل والتحوير، لدرجة أن أسكتت كل “الخلاطين” والحالمين بإدخال المنطقة في حرب قذرة، وعلى رأسهم الصهاينة الذين اتخذوا من مملكة الموالي منبرا للهرولة والابتزاز.
الرئيس “تبون”، وبرده ذاك، كان قد أعطى الانطباع وكأنه بصدد التعامل مع “مراهقين في الشارع”، لا يستحقون أكثر من جملة مقتضبة حمّالة أوجه، كيفما قلّبوها استنبطوا رسالة أو جوابا لكل ما دار ويدور في غرفهم المغلقة السوداء، وهو الأمر الذي جعلهم يراجعون حساباتهم ويعيدون النظر في أدق التفاصيل المتعلقة بالجزائر.
مرّت الأيام وتعاقبت الأحداث، وتأكد للعالم ما حذرت منه الجزائر بأن المخزن المغربي لا يؤتمن، فهو مجرد نظام وظيفي يحترف المكر والاستفزاز، ولا يملك من سيادته سوى ما كان بين “المسرط والمضرط” وكفى. وقد وقف على ذلك الإسبان واكتشفوا مستوى الخديعة التي تعرضوا لها بسبب مجاراتهم “جلالته”، الذي صوّر لهم الجزائر على صورته الذّليلة المهينة، إلى أن اصطدموا بطود شامخ لا تزعزعه العواصف ولا تهزه الأزمات، فحدث الذي حدث، مما اضطرهم – بعد ذلك – إلى إعادة صياغة موقفهم حيال الصحراء الغربية بما يتماشى والواقع التاريخي والميداني، وبما يتوافق والشرعية الدولية، ترميما لثُلم الزَّلل الذي انزلقوا فيه على حين غرّة واستهتار.
وأما على المستوى العربي، فقد أكّد للمرة الألف بعد الألف بأنه يلعب دور “ابن العلقمي” في تاريخ الخيانة والسقوط. و”ابن العلقمي” اسم تفوح منه رائحة الغدر والمكيدة، حيث ارتبط بجريمة من أفظع الجرائم، وكارثة من أبغض الكوارث، ألا وهي مأساة سقوط بغداد.. وما أدراك ما بغداد.. بغداد حاضرة الخلافة الإسلامية، وعاصمة المجد العربي، وقلعة الحضارة العربية – الإسلامية في عزّ عنفوانها.. سقطت في أسر برابرة “المغول”، حيث دمروا بيوتها وأبادوا أهلها وأحرقوا كتبها، ولم يتبق سوى وصف الخيانة لصيقا بـ”ابن العلقمي”، تتنزل على قبره اللعنات إلى آخر الدهر.
“ابن العلقمي” هو مؤيد الدين الأسدي البغدادي، كان وزيرا للخليفة “المستعصم باللّه العباسي”، الذي وثق به وألقى إليه بزمام أمر الخلافة، وذلك لكونه حازما خبيرا بسياسة الملك، فصيحا بليغا وكاتبا رفيع الإنشاء، وهو “الكمال” الذي كان ينقص الخليفة الموصوف بـ “..أنه كان فيه شح، وقلة معرفة، وعدم تدبير، وحب للمال، وإهمال للأمور، وكان يتكل على غيره، ويَقْدُم على ما لا يليق وعلى ما يُستقبح، وكان يلعب بالحمام، ويهمل أمر الإسلام..”، كما أورد ذلك الإمام الذهبي.
إن ضعف الخليفة “المستعصم” هو الذي جعل من طموح وزيره “ابن العلقمي” يتجاوز حدود الوزارة إلى حلم الاستيلاء على ملك الخلافة ذاتها، وقد كرَّس لذلك حياته وكل دهائه ومكره للعبث بمصير الأمة، حيث بدأ بقطع أرزاق العسكر والتقليل من نفقات الجهاد، كما وصف ذلك “ابن كثير” في البداية والنهاية، بقوله: “..وكان الوزير ابن العلقمي يجتهد في صرف الجيوش، وإسقاط أسمائهم من الديوان، فكانت العساكر في آخر أيام المستنصر قريبًا من مائة ألف مقاتل، فلم يزل يجتهد في تقليلهم إلى أن لم يبق سوى عشرة آلاف..”.. وهو العدد الذي لم يكن يكفي حتى للدفاع عن قصر الخلافة، فما بالك بحدود الدولة مترامية الأطراف.
وأما في المرحلة الثانية من مسار الخيانة العظمى، فقد فتح قنوات اتصال بأعداء الأمة حينذاك، وعلى رأسهم المغول، وراح يعرض عليهم خدماته، بأن أمدهم بما يحتاجون إليه من معلومات، مستحثا إياهم على القدوم الى بغداد والإجهاز عليها، كاشفا لهم نقاط الوهن ومواطن الضعف ومواقع الخلل.
ومن زاوية أخرى، راح يلقي بكامل صلاحياته السلطوية لثني الأئمة والخطباء عن تعبئة الناس وتحريضهم على مواجهة المغول وقتالهم، تثبيطا للهِمم وكسرا للعزائم، ولم يكتفِ بالتأثير على العامة، بل راح يثبّط من عزيمة الخليفة في جهاد التّتار، ويقاوم كل من أشار عليه بالثبات في وجههم، وفي ذلك يحكي ابن كثير في كتابه البداية والنهاية قائلاً: “..وأوهم -أي ابن العلقمي- الخليفة وحاشيته بأن ملك المغول يريد مصالحتهم، وأشار على الخليفة بالخروج إليه بقوله؛ فليجب مولانا إلى هذا، فإن فيه حقن لدماء المسلمين.. والمثول بين يديه لتقع المصالحة على أن يكون نصف خراج العراق لهم، ونصفه للخليفة. فخرج الخليفة إليه في سبعمائة راكب من القضاة والفقهاء والأمراء والسادة الأعيان..”.. فتمَّ بهذه الحيلة الخبيثة قتل الخليفة شرّ قتلة ومن معه، من قواد الأمة وطلائعها من دون أي جهد ولا حيلة من المغول.
وبعد مقتل الخليفة ورجال دولته، دخل الغزاة بغداد واستباحوا حرماتها حرقا وتدميرا وقتلا، وكان من ابشع ما قاموا به، علاوة على إزهاق الأرواح، حرق مكتبة بغداد العظيمة، والتي كانت أعظم مكتبة على وجه الأرض في زمانها، ذلك لما كانت تحوزه من كتب ضمت عصارة فكر علماء الأرض من المسلمين وغيرهم، حيث كانت إرثا معرفيا لا يضاهى، تراكم جمعه تأليفا وترجمة وإبداعا على مدى أكثر من ستمائة عام، تضمنت العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية.
إن ترد عبرة فتلك بنو العبـ. ..ـاس حلت عليهــــم الآفات
استبيح الحريم إذ قتل الأحـ…ـياء منهم وأحرق الأمـوات
وجاءت اللحظة التي من أجلها خان “ابن العلقمي” أمته وعرقه ودينه، بأن أصدر “هولاكو” قرارا بتعيينه حاكما من قبل المغول على بغداد وإرث الخلافة العباسية، لكنه لم يفرح بقرار التعيين هذا إلا للحظات فقط، ذلك أن تفاصيل تطبيق القرار جعلت منه مجرد حاكم صوري من دون صلاحيات نافذة، فالقيادة الفعلية كانت بين أيدي قادة الجيش المغولي المرابط داخل المدينة.
لم يحصل الوزير الخائن على ما ظل يخطط له، وصار عند المغول أخس من الذُّباب، وندم حيث لا ينفع الندم، فمّما يُروى عن صور إهاناته أنه طُلِب منه يومًا شعيرا، فركب الفرس بنفسه ومضى ليُحصِّله لهم، وكان أثناء ذلك يتلقى الشتائم من هذا، وذاك يعنفه بيده، وآخر يصفعه وهكذا.. بعد أن كان سيد بغداد، تقبل السلاطين عتبات قصره، والجيوش بين يديه تمشي بأمره وفي خدمته.. وهو على ما كان عليه من ذلة ومهانة، رأته امرأة من طاق بيتها، فقالت له: “يا ابن العلقمي، هكذا كنت تركب على أيام أمير المؤمنين…؟” خجل من نفسه ولم يستطع الردّ على كلامها “القاتل” حيث زاده همّا وغمّا.
لم يلبث “ابن العلقمي” طويلا في منصبه، إذ وافاه الأجل بعد شهور قليلة جدًّا، من السنة نفسها التي أسقط فيها المغول بغداد، ولم يستمتع لا بحكم ولا بملك ولا بخيانة.. ولا بموت كريم، فهو الخائن الذي ستلاحقه اللعنات حتى وهو مسجّى في قبره. مات اللعين وانتهى، وما ماتت خيانته ولا انتهت قصته، فقد شاءت سلالة الخونة العرب من بعده أن تتوارث “سنته” الآثمة، وأن تبعث قصته مع كل عصر وجيل، ليس للاتعاظ والاعتبار، ولكن للمعاودة والتكرار.
تشبه القصة في تفاصيلها الكثير من الممارسات اليومية لنظام المخزن المغربي المخزية، وكذا ما يقوم به “جلالته” من دور في إضعاف موقف الأمة العربية، والتجسس عليها لصالح القوى المعادية، فقد استبدل التاريخ المغول بالكيان الصهيوني، والخلافة الإسلامية بالجامعة العربية، و”ابن العلقمي” بسلالة من بني جلدته فاقته خيانة ونذالة وغدرا وخداعا.
إن حلف الشرّ الذي يتشكل في الظلّ خلف هول الإبادة الجارية في غزّة بفلسطين، والذي يقوده الكيان الصهيوني بدعم مطلق من المخزن والإمارات، يسعى صنّاعه إلى إسكات صوت الحق والعزّة والشرف، الذي تتزعمه الجزائر – ولو من دون قصد – باسم القيم والأخلاق التي جبلت عليها الأمة العربية الأصيلة، وباسم الضمير الإنساني الذي فطرت عليه البشرية النقية.
فإن كان نظام الكيان الصهيوني مجرّد عصابة إرهابية على رأس كتلة من المهاجرين والمُهَجَّرين الذين لا حول لهم ولا قوة، أمام سطوة المال اليهودي القذر. وإن كان نظام الإمارة مجرد آلة وظيفية بلا شعب ولا ضمير؛ فإن نظام المخزن الوظيفي – بدوره – يعيش اليوم أسوأ أيام حكمه، وإنه على فوهة بركان في إدارة شؤون المملكة، فقد استفاق الشعب المغربي من غفوته، وصحا من نومته منذ فضيحة زلزال “الحوز”، الذي عرّى الوجه القبيح لحكومة “أخنوش” والعصابة الناهبة في المغرب، باسم الله مرة، وباسم الملك مرة، وباسم الوطن في كل المرات.. العصابة التي لم تكتف بسلب مقدرات البلد وثرواته، وتفقير الشعب وتجهيله، بل تمادت إلى إذلاله أكثر وتركيعه، بأن باعت ذمته للشيطان، وحولته إلى خادم سليب لدى سادة المملكة الجدد.
وعليه، فإن نظام المخزن الغبي، وقبل أن يفكر في مواجهة الجزائر، عليه أولا أن يواجه عدوا جديدا لم يحسب له من قبل حسابه؛ إنها صحوة شعبه الذي بلغ من الوعي مستوى يحسب له الحساب الأعظم، وهو يرفض الهرولة والتطبيع، ويطالب بطرد السفير الصهيوني وغلق مكاتب التواصل والاتصال، وقطع جميع العلاقات مع الكيان المجرم، خاصة بعد الذي صدر منه من جرائم في غزة وفلسطين.. وفي هذا مناهضة صريحة لكل السياسات الخارجية للملك وعصابته، والتي تبناها في السنوات الأخيرة وبنى عليها أحلامه الواهية في السيطرة على المنطقة سياسيا وجغرافيا.
“..إن معركة الوعي التي نقوم الآن بخوضها، تفرض علينا التراجع خطوة إلى الخلف، حتى نكون أكثر استعدادا للوثوب نحو المستقبل بكل ثقة وعنفوان..”.. يصرّح أحد نشطاء الحراك الجماهيري في المغرب، في تحدٍّ واضح وصريح لغلاة السلطة والتسلط في المملكة، مؤكدا في الوقت نفسه، بأن المواجهة الفعلية الميدانية لم تبدأ بعد، وأنه ليس أمام النظام سوى خيارين اثنين لا ثالث لهما؛ فإما أن يخضع لإرادة الشعب والشارع ويتصالح مع التاريخ، وإما أن يستعد للمواجهة أو الرحيل.