من ذاكرة البطولة في ثورة التحرير الوطني.. قصة “زيدون.. الشهيد” للدكتور “عثمان سعدي”

يومان بعد اندلاع ثورة التحرير الوطني، ألقت سلطات الاحتلال الفرنسي القبض على شاب جزائريّ كان قد تخرّج قبل شهور في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة. ومارست عليه أبشع أنواع التعذيب ثم رمت به في البحر. وبعد أيام جرفت الأمواج جثّته إلى الشاطئ ووجده أحد الصيّادين.. وسرعان ما تعرّفت عليه عائلته. وبعد حوالي العام، وصلت أخبار الحادثة إلى الإعلام الفرنسي، فكتبَت عنها جريدة “الإكسبريس” الفرنسية..

تلقّف الأديب الجزائري الدكتور “عثمان سعدي” الخبر وكان وقتها في “القاهرة”، فصاغ منه قصّة قصيرة نشرها في مجلّة “الآداب البيروتية” في شهر فيفري 1956.. وهذه القصة هي واحدة من مئات وربما آلاف القصص التي وثّق فيها الكُتّاب الجزائريون بطولات الثورة الجزائرية، حيث وظّفوا الفنون الأدبية في مخاطبة وجدان الشعوب العربية وفضح الاستعمار الفرنسي وما كان يروّجه من أكاذيب وأضاليل حتى في الإعلام العربي.. وفيما يلي تعيد جريدة “الأيام نيوز” نشر قصة ” زيدون.. الشهيد”، فقد يأتي يوم يبادر فيه الباحثون والمبدعون إلى جمع نتاج الأدب الثوري الجزائري المبثوث في المجلات العربية وحتى الدولية، فهو إرث أدبي وتاريخي وتوثيقي من المجدي إعادة بعثه وإحيائه وتوظيفه في بناء شخصية الإنسان الجزائري..

كشفت جريدة “الإكسبريس” الفرنسية، بعددها الصادر في 10 نوفمبر 1955، القناع عن جريمة قتل قام بها البوليس الفرنسي بالجزائر وذهب ضحيّتها شاب جزائري كان قد تخرّج سنة 1954 من كلية دار العلوم بجامعة القاهرة. وهذا ما كتبته الجريدة الفرنسية:

“يبدو أنّ المغالاة في التّنكيل لم تكن في يوم من الأيام أفضح ممّا هي عليه الآن في الجزائر منذ عام، فقد أصبح التعذيب بالكهرباء والنعاس في الماء أمرًا طبيعيًّا اعتادت عليه السلطات الفرنسية البوليسية في قسنطينة ووهران.. ضد كل من يشتبه في أمره. وإنّ مثل هذه الأعمال الوحشية سيأتي اليوم الذي تصل فيه إلى كل الأسماع، فتكون فضيحة كبرى لفرنسا أمام الرأي العالمي.

وهناك قضية قتلٍ دبّرها بعض رجال البوليس الفرنسي من ذوي النفوذ في الجزائر، وضحية هذه الجريمة شاب جزائري مسلم يبلغ من العمر 31 سنة واسمه زيدون بن القاسم، وكان قد ألقي عليه القبض في 3 نوفمبر سنة 1954 في مدينة وهران، وكانت السلطات الفرنسية تعلم أنّه من الوطنيين الذين كانوا في القاهرة، وظنّت أنّها قد وقعت على صيد ثمين حيث توهّمت أنّه همزة وصل بين الثوار الجزائريين والقاهرة… وبعد مرور ثمانية أيّام قضاها في سجن وهران نُقل إلى الجزائر حيث سُلّم لبوليس العاصمة للتحقيق معه، وما إن وصل إلى غرفة التحقيق حتى اتضح لجلّاديه أنّ التعذيب السابق قد أفقده النطق، وبالرغم من هذه الحالة البشعة التي صار فيها جسده عبارة عن قطعة لحم تشبه الجثة الهامدة فقد تداولت على تعذيبه المرة تلو المرة أيدي المجرمين إلى أن فارق…

وعندها قام المجرمون بتنظيم مسرحية يوهمون بها الناس بأن زيدون بن القاسم تمكَّن من الفرار من السجن، ولكن المجرمين أرادوا أن يخفوا جريمتهم النّكراء فوضعوا جثة الشاب الجزائري داخل زكيبة، ثم أثقلوها بسبعين كيلو من الرصاص، وألقوها في البحر على بعد 20 كيلو مترًا من الساحل. ومن سوء حظ المجرمين من رجال البوليس الفرنسي أن رجلا اكتشف الجثة قرب دلتا (وادي الجميز) وكانت أمواج البحر قد دفعتها إلى هذا المكان بعد ثلاثة أسابيع. ولقد تمكّن أهل زيدون بن القاسم من التعرّف عليها، رغم ما أصابها من تشويه “.

قصة “زيدون.. الشهيد”

قتلوك يا زيدون وأثقلوا جثتك بالرصاص ثم قذفوا بها في أعماق البحار بعد أن نهشوا لحمها كما تنهش الكلاب المسعورة جثة بطلٍ إنسان.. لقد أرادوا أن تكون جثتك طعمة للسمك، إلا أنّ السمك أبى بغريزته البريئة أن يسيء إلى جثّتك عندما أحسّ أنّها جثة بطل.. جثة إنسان.. يا عجبا! يحترم الحيوان الإنسانية في رفاتك، ويدوسها ويعبث بها أخوك الانسان.. يا عجبا! تضغط غريزة الحيوان على الجوع الذي أمسـك بـه إكرامًا لإنسانيتك، ويهينها أخوك الإنسان إشباعا لشراهته ونهمه!

لقد رموا بجثتك في أعماق البحار لأنّهم أرادوا أن يحرموا تربة الجزائر الحبيبة حتى من جثتك.. ولم يدر هؤلاء الأغبياء أنّك أسمى وأعزّ من أن تتخلّى عنك تربة الجزائر الحبيبة التي ثارت عند فراقك فولولَت وأنَّت، وانطلقت ولولتُها وأنّاتها عواصف هائجة إلى البحر، فأثارت أمواجه، وأجبرته على أن يتخلّى عنك، بعد أن عشق معناك في جثتك، وأراد الاحتفاظ بك في أعماقه..

لقد رموا بك في أعماق البحار بعد أن أذاقوك ما يذوقه كل حر على يد أعداء الحرية والإنسان، فأفقدوك النُّطق بعد أسبوع من اعتقالك.. ولم تبق إلّا عيناك تشعّان بنظرات ساخطة، وبشرر من اللعنات، لم تتحمّلها عيون جلّاديك فضاعفوا في تعذيبهم، وعجلّوا في القضاء عليك..

وبعد أن قتلوك، بقيت عيناك شاخصتين في وجوههم الكريهة، ترسلان أشعّة ساخرة، ولعنات محرقة، وعلت وجهك ابتسامة فيها معنى مزدوج من الاطمئنان والسخرية فيها ما يحسّه كل من أدّى واجبه نحو وطنه ثم رحل مطمئن البال مرتاحا ساخرا من هؤلاء الجلادين الذين حُرموا هذا الاطمئنان. وبقيت هذه النظرات والابتسامات، تطاردهم بعد موتك، فرموا بك في أعماق البحار تخلصًّا منها، لأنّهم جبناء یا “زيدون”، خشوا أن ينقلب جثمانك إلى تراب يعمي أبصارهم، بعد أن تذروه الرياح.. رياح الجزائر يا زيدون…

قتلوك وأنت لا تملك إلا قلمك، وثقافتك الإنسانية، ولو خصّصوا لك أحد كُتّابهم ليبارزك بالقلم عن شرعية الوجود الفرنسي بالجزائر، لأسكته بحجّتك ولأفحمته بسخريتك، لأن الحقيقة هي التي ستعقب جرّات قلمك لتدحض أقوالا كلها ظلم، كلها كذب، كلها بهتان.. ولو وجدوك حاملا لبندقية في الجبال لما استطاعوا قتلك لأنك في هذه الحالة تصير حاملا للعصا التي يخشاها العبيد الجبناء.

لقد قبضوا على مصطفى (مصطفى بن بولعيد).. يا زيدون، مصطفى الذي يحبّه كل قلب ينبض بالجزائرية، مصطفى بطل ثورتنا الجميلة، إنهم حكموا عليه بالإعدام ثم خافوا تنفيذ الحكم.. إلى أن سنحت له الفرصة ففرّ من السجن هو وزملاؤه الأبطال. أتدري لماذا أبوا تنفيذ الحكم فيه.. لأنهم وجدوه حاملا مسدسا: لهذه اللغة التي لا يفهم غيرها الأنذال..

وأمّك يا زيدون.. لقد ودّعت الحياة، وجاءك خبر وفاتها وأنت لا زلت في القاهرة؛ لقد كانت تتحرّق شوقًا إلى ذلك اليوم السعيد الذي ترجع فيه إلى الجزائر وأنت “عالِم”.. أتدري يا زيدون.. من معنى “عالِم” بمفهوم أمّهاتنا السّاذج… إنّه يعني “عالِما باللغة العربية”، لأن مقياس العلم عند أمّهاتنا هو معرفة اللغة العربية، وليكن الشخص مهندسا أو طبيبا، فإنّه جاهل ما دام لا يحمل هذه الميزة.. أتدري يا زيدون ما يعنى هذا إذا ترجمناه إلى لغة الثقافة؟ إنه يعني أنّ أمّهاتنا يفسّرن كل شيء بمفهوم الوطنية الساذج عندهن..

لقد رجعت يا زيدون فلم تجد هذه الأم في انتظارك، وأخبروك أنّها تركت لك هدية.. هدية كل أمٍّ إلى ابنها.. عدّة الزواج، كسوة العروسة، أثاث البيت المقبل.. أتدري من أين أتت بهذا كله يا زيدون…؟ إنّها كانت تحسم بالفرنك من مرتّب أبيك البسيط وتشحّ على معدتها وعلى معدات إخوتك الصغار، ثم تختلس من الحياة القاسية في كل شهر شيئا.. لقد كانت تطوف الحمّامات في كل أسبوع، وتشرد بنظرها بين بنات المدينة، وكانت كلما أعجبتها فتاة اقتربَت منها واحتضنتها ثم همسَت في أذنها بقولها: إنّك من نصيب ابني زيدون… ألَا تعرفين زيدون…؟ إنّه ابني الذي سيرجع من القاهرة – عمّا قريب – عالِمًا.

فكانت تزوّجك في كل أسبوع مرّة حتى صارت خطيباتك تعدّ بالعشرات… أتدري يا زيدون ماذا سيفعل أبوك الآن بهذه “الهدية”؟  إنّه سيبيعها ويدفع بثمنها إلى الثوّار، يزفّوا به الموت إلى جلّاديك الأنذال.

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا