رغم العناد والمكابرة والإصرار الصهيوني على مواصلة المغامرة العسكرية بغزة، وذلك في رفض “ظاهري” لأي مبادرة لوقف إطلاق النار، إلا أن كل المؤشرات، وعلى رأسها النكبة والنكسة الإسرائيلية على جبهات القتال، تعري كما تكشف رغبة، بل سعي حكومة الكيان إلى إنهاء الحرب اليوم قبل الغد، وكل ذلك للخروج من مستنقع لم تحسب له أمريكا وأوروبا قبل “إسرائيل” حسابا، وخاصة أن حجم الخسائر البشرية في صفوف جنود الكيان فاق التصور، كما أن فاتورتها المادية تجاوزت كل دعم أوربي وأمريكي، لتطال حتى خزينة حكومة نتنياهو وتدخلها في خطر الإفلاس، وكما يقولون في الأثر، فإن اليهودي لا يشعر بالخطر إلا إذا وصل اللهب إلى “جيبه”، وهو حال اقتصاد دويلة تهاوت أسهم خزينتها في مغامرة عسكرية، توهمها قادتها سياحة ضد كتائب مقاومة في رقعة جغرافية محدودة، فإذا كل فرد من المقاومة كان أمة قائمة بذاتها، وإذا حكومة نتنياهو ومن ورائها أمريكا بايدن وفرنسا ماكرون ناهيك عن إيطاليا وبريطانيا وألمانيا، لم يخسروا الحرب فقط ولكنهم خسروا العالم، كما سجلهم التاريخ بأنهم الطرف المنهزم في حرب كونية غير متكافئة بين فصيل مقاومة محاصر في مساحة حجمها علبة كبريت، وبين دول كان يقال عنها عظمى، اختارت ضفة الكيان الصهيوني، دعما ومساندة وحماية، فكانت انتكاساتها من انتكاسة كيان صهيوني “بال في يديها”، فكسرها كما كسر كل هيبة وكل عظمة وقوة افتراضية لها.
حرب غزة ستنتهي اليوم أو غدا، ومهما كان حجم العناد الذي يمارسه نتنياهو وشلة “محرقته”، إلا أن قرار توقيفها وإنهائها أضحى مسألة أيام وعلى أقصى تقدير أسابيع، وذلك بعد أن أصبحت العملية برمتها مبتذلة حد القرف، حتى لدى أشد المتعصبين لها والداعمين والضاربين لطبولها. لكن السؤال الذي سيبقى عالقا بين صحائف تاريخها، مسجلا عار هذا وشرف ذاك، مختزله: “من كان مع المحرقة، ومن ركبها ومن كان ضدها؟”، وبعبارة أخرى، من سيدينه ويوشمه التاريخ بالعار ومن سيقلده وسام البطولة؟ وفوق هذا ذاك، ما خلفه غربال غزة في العالم من شرخ عظيم، بعد أن أسقط ورق التوت من على سوءة الجميع، عربا وعجما، ليضع البشرية اليوم أمام مرآة الحقيقة دون أي مساحيق إلا من مواقف هي من ستحدد قيمة أصحابها ومقام صدقهم؟
غزة..الغربال الذي فضح العالم!
إذا كانت مذبحة غزة بدماء وقرابين صغارها وكبارها، قد قسمت العالم إلى ضفتين: واحدة هي غزة التي رأينا دماءها في اليمن تنبض أمواجا وبحرا وأطوادا من هدير الرجال. أما الثانية، فهي العُري الذي كان يسمى حضارة أمريكا وأوروبا بالإضافة إلى العار العربي الذي يسمى ممالك وإمارات ودول وأنظمة خانعة. قلنا: إذا كانت غزة قد فعلت ذلك، وأظهرت الصالح من الطالح في ضفتين، واحدة للصمود والشجاعة والتضحية، فيما الثانية ضفة خيانة وعمالة واحتواء، فإن المنسي في معادلة الفضح تلك، ليس إلا طرفا ثالثا، كان هو الصفر تأثيرا في عملية الحرب كما حاله في عملية الجمع، وبعيدا عن دور دول الصغيرة والضعيفة التي اختارت الصمت الذي لا يغضب الراعي ولا يجوّع الذئب، فإن موقف روسيا “العُظْمَى”، التي كثيرا ما نفخها الإعلام منذ زمن الاتحاد السوفيتي المقبور حتى يوم بوتين هذا، على أنها الطرف الثاني في الثنائية القطبية، يبقى محل قراءة وتحليل ودراسة واستغراب، وخاصة أن أقصى ما فعلته في محرقة عالمية، تدار في منطقة المفترض أنها تقع في منطقة نفوذها، لم يخرج من بيانات صحفية وتصريحات إعلامية وسياسية يتيمة، ندد فيها الدب الروسي واستنكر وشجب بشدة ما يحدث؛ فترى أين روسيا العظمى وأين قيصرها بوتين الشرس؟ والأكثر من ذلك، ماذا حفظ التاريخ للاتحاد السوفيتي من مواقف، حين يتعلق الأمر بالصراع العربي – الإسرائيلي على مر سنوات العدوان والتآمر والانتهاك الصارخ لحدود وسيادات الوطن العربي؟
من “بريجنيف” إلى “بوتين”.. روسيا دبٌ من ورق!
عشية النكسة العربية في عام 1967، حيث الطعنة التي تلقتها مصر عبد الناصر، يوم كانت هي رأس الحربة في قومية “رمي إسرائيل في البحر”، وبعد أن قصمت النكبة ظهر الأمة، وفيما كانت مصر تعيش صدمة الخيانة والخذلان العربيين وتحصي سقوط أمة في قاهرة معزها، نزل رجل من نوع و”برنوس” خاص بمطار موسكو، وكان أول ما فعله أن رمق سفير بلده بنظرة حادة وغاضبة، بعد أن همس السفير في أذنه بأن “الكرملين” قد برمج على شرفه حفلة غداء ليستشيط الرجل البرنوس غضبا، ليس فقط من السفير ولكن من القيادة الروسية، التي اجتمع بها معلنا لزعيمها أنه لم يأت ليأكل، ولكن ليفهم ماذا حدث بالضبط؟ وكيف للاتحاد السوفيتي أن يقف مكتوف الأيدي أمام الذي حدث بمصر؟
الرجل البرنوس لم يكن إلا ثائرا بنى دولة، وكان بومدين عصره، الذي لا يجامل في مصير أمته كبيرا ولا صغيرا، ولعلى أخطر ما واجه به القيادة السوفيتية حين سأل المجتمعين حوله قائلا: «ما حدود الوفاق بينكم وبين الأمريكيين؟ إننا نراه وفاقا من جانب واحد، أنتم تتصرفون بأقصى درجات الضعف وهم يتصرفون بأقصى درجات القوة».
سؤال صادم ومستفز وخال من أي دبلوماسية من برنوس جريء لقادة قُطْبٍ كان يومها هُو الطرف الآخر لثنائية القوة العالمية، ورغم مضي أكثر من سبعين عاما عليه، إلا أن السؤال نفسه لا زال مطروحا، كما لا زالت إجابته التي لم تقنع بومدين يومها، عالقة، لتعيد “محرقة” غزة طرحه بطريقة أخرى مفادها: أين روسيا القيصر بوتين، الذي شغل العالم بعنترياته وتحديه للأمريكان ولأوروبا مما فعله الغرب وأمريكا باسم “إسرائيل” من مذابح بغزة وقبلها بالعراق وليبيا؟ وهل هناك ضعف أكبر من دور المتفرج الذي كثيرا ما صاحب “الفانطازيا” الروسية، التي حركت غواصاتها النووية وهددت بنسف العالم في حالة أوكرانيا، لكنها بمحرقة غزة اكتفت بشطحات بوتين المتعاطفة وبخرجات وزير خارجيته، سيرجي لافروف، الذي تمنى مؤخرا رفع الظلم عن الفلسطينيين؟
والمهم، ووفق المعطيات الموجودة فوق الأرض، فإن الأحداث كشفت بأن الدور الروسي بطبعة قيصره بوتين اليوم لا يختلف عن دور قياصرة الاتحاد السوفيتي قديما، حيث وحده هواري بومدين من فهم لعبة الدب، يوم دخل موسكو عام 1967 ليصفع الزعيم الروسي “ليونيد بريجنيف” بصك من مليون دولار، كمقابل لديون على مصر عايروه بها في اجتماعه معهم، لتكون ردة فعله أن أفهم قادة الاتحاد السوفيتي أنهم تجار سلاح وفقط، وخاصة حين واجه الزعيم الروسي بريجنيف بقوله: “أنتم لا تفعلون شيئا، لقد تركتم ما حدث يحدث دون رد فعل منكم إلا بالبيانات السياسية والمقالات الصحفية”، ومن المصادفات العجيبة بل المواقف الثابتة في تاريخ العلاقات الروسية – العربية، أنه من زمن الاتحاد السوفيتي وإلى يوم “بوتين” هذا، فإنه لا موقف حقيقي من القياصرة إلا بيع “الخردة” الروسية وقبض الصكوك، أما ردود الفعل مما يحدث للأمة العربية، فإن أقصاها من قديمها لجديدها اليوم لم يخرج عن خانة التصريحات المشجبة والاستنكار والتنديد الشديدين.
سيعتبر البعض أنه لا شأن لروسيا بوتين اليوم بما يجري في غزة، فهو يتعلق بكتائب مقاومة لا علاقة لها بالدولة الروسية. والسؤال هنا، وماذا عن عراق صدام حسين؟ وكيف كان حالها مع ليبيا القذافي؟ ألم تكون روسيا مظلتهما بحكم التعامل الاقتصادي والعلاقات السياسية المتينة؟ هذا عن روسيا اليوم، أما عن الاتحاد السوفيتي القديم، فإن التاريخ لا يذكر فقط خذلان نكسة 1967 ولكن قبلها كان العدوان الثلاثي سنة 1956 وبعدهما حرب أكتوبر 1973، فأين كان الاتحاد السوفيتي؟ ألم يكن ذلك المتفرج على الأحداث والمكتفي بدور “الجامع” للصكوك، والذي غالبا ما يحمل الأمة العربية أسباب هزائمها متحججا أن قيادة طائرة يختلف عن ركوب ناقة، فيما الحقيقة التي كشفها الرئيس هواري بومدين في زيارته لموسكو تتمثل في أن سلاح الجو الأمريكي كان متفوقا عن طائرات الروس من بداية المواجهة بغض النظر إن كان قائد الطائرة راعي إبل عربي أو “بيلوط” روسي؟
القضية وما فيها أن الدور الروسي، من قديم تاريخه إلى يوم غزة هذا، ليس إلا لعبة تاجر سلاح، كثيرا ما استنزف ثروات الأمة العربية في علاقات المفترض أنها علاقات شراكة وتحالف. لكن في المحطات الفارقة فأن كل الحروب العربية التي لم تكن إلا بسبب فلسطين، كانت ضرعا يدر لبنا وعسلا للدب الروسي، ولا تهم نتائج الحرب، وطبعا من تخلى عن مصر أيام نكستها والعدوان عليها، ومن تعامى عن العراق في محرقته وتغاضى عن ليبيا في دمارها، لا يمكنه أن يقف مع غزة في مذبحتها، كونها لا تعني له سوى قضية إنسانية، ناهيك على أن أحداثها غطت على حربه في أوكرانيا، لتجعل من غزوه لها قضية ثانوية، ويجني الدب الروسي من خراجها أنها أزالت الضغط العالمي عنه.
مجمل القول ونهايته، غزة بكل المأساة التي يعيشها سكانها، وبكل القرابين التي دفعتها كفاتورة صمود، سيحفظ لها تاريخ صمودها، أنها كما فضحت حضارة الغرب وأمريكا، وكما عرّت الخيانة والعمالة العربية، فإنها كشفت لشعوب الأمة العربية ورسخت في وعي أجيالها القادمة، أن المهدي المنتظر لن يكون يوما ما خرافة روسية تسمى “بوتين”، طالما نفخه الإعلام العربي والغربي وقدمه كقيصر “أحمر”، يمكنه أن يقف في وجه أمريكا ويرفع الظلم عن المستضعفين، كما أن روسيا لن تكون يوما سندا لأحد عدا صكوك بضاعتها، والتي ينتهي مفعول أي موقف لها بمجرد استلام الشيك وتسليم السلعة، عداها، ففي عُرْفٍ الرجل الأحمر، لا يهم إن انتهت غزة أو انتهى العرب كلهم.
وخاتمة القول، لقد رسخت غزة في الأمة أن مصير العرب بيد العرب، وأن فلسطين لن تكون يوما قضية بوتين ولا روسيا ولا تركيا ولا باكستان، ولكنها عقيدة جيل قادم، إذا لم يتشبع بها ويعتنقها كما هي بمعطياتها الموجودة على الأرض، فإنه لا شمس لها ولا غد.