في غزّة، يضيق أفق المدى وينحسر، ويشتدّ وابل الموت وينهمر.. وصَدْرُ “الغزّوي” في كل ذلك يزداد فسحة ومساحة وإيمانا، وصوت “روح الروح” من عمق الجرح النازف ينادي: قتلانا في الجنة وقد رضينا، ونحن النازحون.. إلى أين..؟ فلا أرض في غير تراب غزّة فوق البسيطة تدفئنا، ولا سماء في غير فضاء القطاع تغطينا، فنحن الجذر ونحن الأصل، ونحن التاريخ الذي يتشكّل في باطن المكان كل آنٍ وحين، ونحن الأسطورة التي ترتسم في رحب الزمان منذ ألوف السنين.. فنحن قلب القلب وهذه الروح فلسطين.
فهل سمعتم بأبشع ما يحدث لبشر على أيدي بشر، مثلما يحدث لأبناء القطاع على أيدي الصهاينة الرعاع.. في رفح وجباليا، وفي غزة الكبرى وبيت لاهيا، وفي خان يونس وحي الشجاعية وبيت حانون، وفي خزاعة والبريج وحي الزيتون..؟ دعوا لسان الحال من أرض “المحال” يخبركم، فليس من رأى كمن سمع، ولا من عاش الوضع كمن يَتَّبِع، فقد هُجِّر الأهل من بيوتهم بعد أن قُصِفت الديار وهُدّت فوق الرؤوس السقوف والأحجار، وخرجوا من تحت الردم والركم والانقاض، بمعجزة إلهية وأعجوبة لا تكررها الأزمان؛ نعم، فقد نجونا من الموت تحت القصف مرّة بعد مرّة، لكننا لا نعلم إن كنا سننجو من الجوع والمطر والبرد الشديد، أم إن الموت الذي يترصدنا في كل مكان وآن سينقضّ علينا ألما ومرضا وأسقاما..؟ فالأمطار الغزيرة تغرق خيامنا التي نصبناها من الأوتاد والأخشاب و”النايلون”، والملاحف الخفيفة التي بين أيدينا لا تقي أجسادنا المنهكة برد الشتاء، حتى إذا جنّ الليل وسكن القصف دعونا الله سرّا وعلانية بأن يحبس عنا المطر فلا نغرق ولا تغرق الخيام.
لقد صارت الأقوات نادرة، والمواد الغذائية الاساسية شبه منعدمة، والمياه بالتقتير نصطف لساعات وفي طوابير طويلة للحصول عليها، حتى كتبنا إلى مشايخ العلم والافتاء في طلب فتوى بجواز التيمم بدل الاستحمام.. تصوروا أن بناتنا، ونحسبهن بناتكم وبنات المسلمين، أنهن حين يطهرن من دم الحيض يبكين بحرقة لاضطرارهن للتيمم بدل التطهر بالماء النقي الدافئ.. كل ذلك، لأننا لا نملك أين ولا كيف ولا بما نتطهر ونغتسل، فالحصول على الماء والاغتسال به صار ترفا لا يتمكن منه إلا ذو حظ عظيم. فدورة مياه واحدة لا تفي ولا تكفي لقضاء حاجة العدد الكبير المتزايد من النازحين، رجالا ونساء وأطفالا، ولذلك تشتد الحاجة وتكثر الطوابير ويصطف الناس لدخول بيت الخلاء، الذي هو مجرد مخدع صغير من النايلون يحوي مرحاضا بداخله، والمرحاض موصول ببرميل لجمع القاذورات، فحدث أن امتلأ البرميل وفاضت المياه القذرة وأغرقت المكان.. وأما إذا أردنا الاستحمام، فلا بد من انتظار يوم تشرق فيه الشمس، لنتمكن من تجفيف الحطب واشعاله فنسخن الماء، حتى نتجنب البرودة الشديدة، وإلا تعرضنا لنزلات برد حادة قد نحتاج معها إلى أدوية غير متوفرة.. وإذا أرادت البنات الاستحمام فلا بد للأمهات أن يقمن بحراسة مخدع الحمام، حتى يشعرن بالأمان لأنه موجود بالخلاء بعيدا عن خيام الساكنة.. ويعمّ الخوف الأكبر والرعب العارم عندما يعود القصف المتواصل ويشتد، وتشتد معه الرغبة الاضطرارية لقضاء الحاجة في غسق الدجى، يزيدها عناء انتشار الكلاب الضالة الجائعة وهجومها على السكان.
يحملنا الجوع ويضطرنا إلى إشعال الحطب والكرتون، حتى نتمكن من تحضير ما أمكن من طعام، بحسب ما توفر من أرز ومعكرونة وعجائن بالماء، والملح إن وجد.. وأما اللحوم فتخمة صارت من الأحلام، كما هو شأن الفواكه والمقبلات والمحليات والمكسرات والمشروبات..ووو، والتي صارت كلها في خبر كان، والتي قد نستعيض عنها بصنف واحد توفره الظروف، من حين لآخر، وهو البرتقال الذي بلغ سعره حدودا خيالية لا تطاق، فيما نسي الكثير منا الخضار بألوانها وأسمائها وأشكالها، وقد نبكي حرقة على أطفالنا حين يشتهون شيئا من الأكلات أو الحلويات، فلا شكولاتة، ولا شيبس ولا عصائر ولا كعك ومرطبات.. ويشتدّ الألم ويزداد، ونحن نحتال عليهم ونخادعهم ليناموا على الطوى ومن دون عشاء.
يستيقظ الأطفال مع كل فجر يتضورون جوعا، فنضطر للخروج بحثا لهم عما يسد جوعتهم.. وبعد ساعات طويلة من البحث المضني، وعندما يسعفنا الحظ نقع على بعض الأرغفة – فراشيح – التي يصل ثمن الزوج منها إلى ثلاثة دولارات، حيث يحتاج الفرد الواحد كحد أدنى، لثلاثة فراشيح حتى يسد رمقه ليس إلا، وأما ما تساقط منها فنحتفظ به ونحرص عليه كحرصنا على كنز ثمين.. هل تعرفون قطعة الخبز التي كنا نجدها ملقاة في الشارع، كيف كنا ونحن صغارا، نلتقطها ونقبلها ونضعها بجوار الحائط، ليتلقفها الطير أو تقتات عليها الحشرات ودواب الأرض.. الآن، وإذا صادفنا وجودها، فإننا نلتقطها من الأرض ونمسحها، وربما نبللها بالماء كي نرطبها ثم نعطيها لأطفالنا، علّهم يجدون فيها شيئا مما يكفي سغبهم، ولو إلى حين.
لقد تردى الوضع بنا وتعقدت أحوالنا، حتى صرنا نعيد غسل أكياس النايلون المستعملة ونعالج الممزق منها ونعاود استخدامها مرات ومرات.. وأما قطع الكرتون فقد أصبحت بمثابة غنيمة لا يمكن التفريط فيها، حيث نستخدمها في إشعال الحطب.. المناديل الورقية كذلك، نكرر استعمالها في التنظيف، وقد انقطع خبرها منذ أيام، لنستعيض عنها بقطع القماش القطنية المتوفرة قليلا.. وأما مشكلة النساء، فهي أكثر تعقيدا مع النظافة الحميمية والأمور الداخلية، إذ من الصعوبة بمكان الحصول على الحفاظات والفوط النسائية، حتى اضطررن إلى إعادة استخدامها، رغم ما تسببه من مشاكل صحية لا تخفى على أحد.. وهذا كله غيض من فيض، من جملة ما نعانيه يوميا، لأجل تأمين أدنى المتطلبات الأساسية البدائية تشبثا بالحياة.
إلا أن الذي يؤلمنا فعلا ويقهرنا حقا، فهو خيبة شعورنا العميق بتخلي الأخ القريب عنا، وخذلان الجار اللصيق لنا، من إخوة الدم والأرض والدين.. ورغم كل ذلك، ها نحن – بحمد الله وفضله – صامدون ثابتون على أرضنا، واثقون بوعد الله بالنصر والتمكين، وهزيمة العدو اللعين واندحاره الأكيد عن أرضنا المقدسة العصماء، على أيدي شبابنا الطهر الغرّ الميامين، الذين تكفلوا بحمل أمانة الجهاد، ليس دفاعا عن غزة وعن فلسطين فقط، وإنما دفاعا عن شرف الأمة وعزتها، ولنا كل الفخر بهذا الاصطفاء العظيم، الذي لم يكن ليتحقق لولا وعد الله وقدره العظيم.
ستبقى هذا الكلمات خالدة إلى أبد الآبدين، وستظل وصمة عار على جبين المهرولين والمطبعين.. فالمعركة ستنتهي حتما وستضع الحرب أوزارها، وسينزوي كل طرف إلى ركنه لتبدأ عمليات الجرد والعد والحساب، وحينها سيعرف كل فصيل حجمه ووزنه وقيمته، في سوق الكرائم والعزائم والمواقف الوطنية الشريفة. وأما الآن، والمعركة على مشارف الختام، يضاعف العدو الصهيوني عملياته الإجرامية حتى يقنع نفسه بتحقيق الحد الأدنى من نصر مفقود، في الوقت الذي تُمَنِّي فيه الكثير من الأنظمة العربية التي دعمت الكيان معنويا وماليا نفسها وتصلي بأن يتمكن الكيان الصهيوني من سحق المقاومة والقضاء عليها، لأن في نصر الكيان نصر لهم، وهزيمته خزي خالد لهم وعار مزدوج التأثير؛ داخليا بازدياد الشرخ بينها وبين شعوبها، وخارجيا بانهيار مصداقيتها أمام الدول الشقيقة المعادية للكيان، والدول الصديقة الحرة التي تؤمن بقيم العدالة والإنسان.