من لقاء “كاتب ياسين” و”سعد الله ونّوس”.. أحاديث عن “غبرة الفهامة” وأزمة “الجوع إلى الحوار” (الجزء الثاني)

إلى غاية 1967، كانت الأعمال الأدبية، التي أنتجها “كاتب ياسين”، في أصلها الأول قصيدة “تناسلت” منها رواياته ومسرحياته، قال “كاتب”: “أنا مؤلِّف كتاب واحد، في الأصل كانت قصيدة، ثم تحوّلت القصيدة إلى روايات ومسرحيّات. لكن هو دائما العمل نفسه الذي سأتركه كما بدأته، وأعني في حالة من الخراب والشّروع معا”. وفي لحظة غضب، أعلن “كاتب” قائلا: “أنا لست رجل مُؤلّفات، ليست الكتابة حرفتي”.

لقد تناولت الدراسات الأدبية أعمال “كاتب ياسين” من زوايا مختلفة، فهل تناولت علاقة “كاتب” بالكتابة ذاتها؟ وهل تناولت أهدافه “الحقيقية” من عرض مسرحياته في أكبر المسارح الأوروبية، إذا كان لا يعتبر الكتابة حرفته؟ إنّ دارسي الأدب كثيرا ما يركّزون على الأعمال الأدبية، ولا يلتفتون إلى الأديب وشخصيته ومنطلقاته في الكتابة، ربّما لأنّ هذا الجانب يحتاج إلى تفاصيل “صغيرة” مقتنصَة من الحياة اليوميّة للأديب.. لهذا السبب، اعتبرنا مقال “سعد الله ونّوس” وثيقة تاريخية قد تفيد الدّارسين وتفتح لهم منافذ أخرى في الدراسة والبحث، لأنّها تشتمل على تفاصيل صغيرة من سويعات قضاها “ونّوس” مع “كاتب ياسين”، تضيء بعض الجوانب النفسيّة لـ “كاتب”، وقناعاته الفكريّة، وموقفه من الكتابة، وفهمه للحياة ذاتها.. فهو القائل في إحدى قصائده: أن تموت هكذا.. تلك هي الحياة!

في الأول ديسمبر عام 1967، نشرت المجلة الشهرية السورية “المعرفة” مقال الكاتب المسرحي السوري “سعد الله ونّوس” حول لقائه بالكاتب الجزائري “كاتب ياسين” في مدينة باريس، ومتابعته لمسرحية “مسوق الذكاء”، وتُعيد جريدة “الأيام نيوز” نشر المقال من منطلق أنّه يمثّل “وثيقة ثقافيّة”، ويتضمّن أحاديث دارت بين صديقين جمعتهما الحياة والهمّ الإبداعي والكتابة المسرحية..

ترجمة عنوان مسرحية أغضبت “كاتب ياسين”

قال لي “كاتب”، وكساء الحزن يتكاثف حول ذكاء عينيه: هل تعلم؟ أخبرني أحدهم أنّهم يقدّمون الأعمال الثلاثة: الجثة المُطوّقة، مسحوق الذكاء، الأجداد يزدادون ضراوة، الآن في القاهرة. (يقول “ونّوس”: قرأت مرة أن مسرح الجيب في القاهرة يقدّم المسرحيات الثلاث، ثم قرأت أنّه يقدم مسرحيتين فقط. ولكن ما لفت انتباهي هو ترجمة عنوان المسرحية الثالثة.. فقد أصبح في الترجمة المصرية “الأسلاف يَتميّزون غضبا”، ولا شك أنّ هذه الترجمة لا تؤدي المعنى بالدقة التي تؤديها ترجمة “ملك أبيض العيسى”: الأجداد يزدادون ضراوة).

تساءل المُخرج المسرحي “سیرو”: إذًا لا بدّ أنّهم بدّلوا نهاية “مسحوق الذكاء”. أجاب “كاتب” بعصبيّة: لا لم يبدلوها!

بعد مبادرة “مسرح الجيب” هذه في “القاهرة”، تلك ثاني أو ثالث مرّة يحاول فيها مسرحٌ عربي تقديم “كاتب ياسين”، رغم أنّه يكتب بالفرنسية لا بالعربية، (ممّا لا يدحض التأثير السحري للكلمة المترجمة على مخرجينا). إنّ أحدًا لم يفكّر بهذا الشاعر الجزائري، لكن مسارحنا القومية تقدِّم: بن جونسون، بانيول، يونيسكو..

أعاد أوليفييه (مُخرج مسرحية “مسوق الذكاء”) دون الآخرين: لم أجد أحدا. لا بدّ أنّهم ذهبوا (يقصد أعضاء الفرقة المسرحية). كانت تلك خيانة. الآخرون يخدعونه. غامت عيناه واكفهرّ وجه “كاتب”. تمطّط السؤال غاضبا: لماذا؟

“كاتب”.. لا بدّ أن يكسر شيئا!

لم أتصوَّر أنّ بوسع الإنسان أن يكون حسّاسا إلى هذا الحدّ. كما أنّي لم أفهم أهمية أن تأتي الفرقة كلّها فتشرب معنا كأسا. أهو هذا الشعور بأنّ كل شيء ينهار إذ ينفض الممثّلون عن وجوههم مساحيق الشخصيات التي يلبسونها؟ أم هي المحاولة اليائسة، لكي تستمرّ جملة الصّلات المبهمة، التي لمّت خلال ساعات وبطريقة لغزيّة للغاية، كلمات مؤلِّف، وممثِّلين، ومتفرّجين، وصورة، ثم نظمت منها عالمًا يوجد فيما وراء أضواء الشارع، وضجّة الناس المنهمكين في مشاريعهم.

وأحسستُ بأنَّ السّهرة تتفتّت، وتتحوّل ترابا باردا. انفغرت ثغرة، وتوالت الانفعالات على وجه “كاتب”. ينبغي أن يحطِّم شيئا، وكأنّنا نتآمر، تبادلنا النظرات، نحن الذين نقاسمه هذه الجلسة، عاجزين عن فهم أهمية ألّا يأتي عدد من الممثّلين فيشاطرونا السهرة، ومندهشين في الوقت نفسه من أن تأخذ أحداث صغيرة كل هذه الأبعاد.

كرّر “سیرو”، باللهجة الودودة والأبوية نفسها: “كاتب”. يجب أن تنام. قال “كاتب”: اللعنة عليهم. لقد صاروا كسواهم، نماذج زائفة. كل الناس مزَّيفون. ما من حقيقي، قاذورات، رؤوس خنازير، وضيعون. لنذهب إلى مكان آخر!

لم نكن قد فرغنا من كؤوسنا بعد. لكن وجهه يشتعل بالغضب، ويترفَّد بالخيبة.. إنّ شؤونا تافهة تتوسّع دوائرها الآن، لتصبح قضايا كبيرة. الآخرون، والعمل الجماعي، والتمرد على مقتضيات الحياة اليوميّة.

المسرح رمزٌ للانصهار الإنساني

وكان تقديم مسرحية “مسحوق الذكاء” تجربة جماعيّة حاول “كاتب” أن يمارس عبرها فكرته عن المسرح. شباب تربطهم – أو هكذا اعتقد – منطلقات فكرية واحدة، يحاولون بعمل مخلص، لا يستهدف الربح أو المنفعة، أن يجعلوا من المسرح منصّتهم، وأن يناضلوا بالكلمة والضوء والحركة لتهديم كل النُّظم الفاسدة، والقيم التي تعيق الثورة. قال “كاتب”: ليس المهمّ بعد أن نكتب فتتبنّانا المسارح الكبيرة. اللعنة على المسارح الكبيرة: نحن نعمل في المسرح لأنّنا نلتقي فيه رمزًا عميقًا لانصهار إنساني، لإنجاز جماعي، لتجاوز حدود الفردية إلى الآخرين. هنا.. من خلال هذا الحلم الموشّى بتكسُّرات الضوء، وانبثاقات الكلام، ستنطلق الثورة. ستنمو الثورة. ستنتشر الثورة، وإلّا فما معنى محاولتنا! وبعد لحظات ستتضح بجلاء كل هذه المعاني.

كاتب ياسين: الكتابة ليست حرفتي..

خرجنا من المقهى الفيتنامي، ولكن إلى أين؟ وسيطر الهاجس عليه. لنبحث عنهم (قال كاتب). وهل ترى ذلك مجديا؟ من يعلم أين أصبحوا؟ (قال سيرو)، ثم أضاف: ما زلت أرى أنّ خير ما تفعله هو أن تذهب معي فتستريح. ردّ “كاتب”: لا أريد أن أستريح. لنوقف سيارة. سنذهب إلى “الكونتراسكارب”. سنجدهم، وسيشربون معنا كأسا!

اندسسنا في سيارة، وكرّر “سيرو” بلا ملل: “كاتب”.. اصغ إليّ. إنّي لا أفهم كيف تضيع وقتك بمثل هذه الطريقة. أنت أديب كبير، وينبغي أن تلتفت إلى مشاريعك. وصرخ “كاتب ياسين”: أنا لست رجل مُؤلّفات.. ليست الكتابة حرفتي. هل تفهم؟ لست ولن أكون رجل مُؤلَّفات.

لكنه قال مرّة ولم تكن الظروف هي نفسها: “أنا مؤلِّف كتاب واحد، في الأصل كانت قصيدة، ثم تحوّلت القصيدة إلى روايات ومسرحيّات. لكن هو دائما العمل نفسه الذي سأتركه كما بدأته، وأعني في حالة من الخراب والشّروع معا”. عاد “سيرو” يحتجُّ: لا، لا يجوز أن تقول ذلك، وإلّا فلن نفعل شيئًا… بيد أنّ الصمت كان هو الجواب. ووصلنا “الكونتراسكارب”، ثم بدأنا نفتّش في كل المقاهي، والتقينا أخيرا بممثِّلي الفرقة. وصرخ “كاتب” متهلِّلا: ها أنتم أيّها الخنازير. لنشرب كأسا.

“مسحوق الذكاء” ينتهي بخيبة..

وبدأت الكؤوس تدور. إلّا أنّ الممثِّلين الذين مسحوا عن وجوههم المساحيق، وعادوا يسكنون جلودهم الواقعية، لم يُبدوا حماسا للشرب.. وبدأت المناقشة، أو بالأصح استؤنفت مناقشة قديمة كانت بادئة من قبل.

كاتب: لماذا لا تريدون الاستمرار في العمل؟

الممثلون: أنعود إلى السؤال نفسه؟

كاتب: نعم.. لنعد إلى السؤال نفسه.

الممثلون: لقد شرحنا وجهة نظرنا بوضوح للمخرج ولك أيضا.

كاتب: أريد أن تشرحوها مرة أخرى. (وعلا صوته): أعرف.. تريدون التملّص من مضمونها السياسي. إنّكم تنظرون إليها كمسرحية لا أكثر.

غضب الممثّل، دق الطاولة، التفت إلى رفاقه: أتسمعون.. بعد كل هذا يقول أنّ مسرحيته بالنسبة لنا ليست أكثر من مسرحية. لا هذا كثير فعلاً!

كاتب: وإذًا، فلماذا لا تريدون أن يستمر عملنا الجماعي هذا؟ بدأنا العمل كرفاق لا كحرفيين. بدأنا عملنا لأنّنا نريد أن نقاتل، وليس لأنّنا نبحث عن الرزق. ألم تكن تلك منطلقاتنا كرفاق يؤمنون بالعمل الجماعي؟ الممثلون: صحيح.. لكن هناك ظروف نقابية ومادية.

ثم أصبحت هذه العبارة لازمة المناقشة. وكنّا جميعا صامتين، والمناقشة تحتدّ، وتقطعها.. هذه الـ “لكن”. لمِمّا يثير الدهشة فعلا أن يهتمّ “كاتب ياسين” إلى هذا الحد بالاستمرار بحفنة من الشباب البادئين مهنتهم والذين لا ينقصهم الادّعاء في العمل معه؛ في حين أنّه لا يكاد يسمع إلحاح “سيرو” عليه كي يساعده في تقديم أعماله على واحد من أهمّ مسارح العالم: البيكولو تياترو.

وبعد انصراف الممثلين بطريقة لا تخلو من تمثيل، سيقول “سيرو”: يا إلهي! إنّي لا أكاد أصدّق أنّك فعلا تثير أعصابك بمناقشة أدعياء وتافهين كهؤلاء. هذا ما صار إليه من نسمِّيهم “رفاقا”، لكن بصراحة إنّي لا أفهم كيف تضيع وقتك بمثل هذه التّفاهات.

ولم يسمع “كاتب” ما يُقال، آخر كلمات جارحة.. نهض الممثلون، فرجاهم “كاتب” أن يشربوا معه كأسا أخيرة، إلّا أنّ أعلاهم كعبا، التفت بترفّع، وقال حالمًا بالملك “لير”: لا يا “كاتب”. أريد أن أكون فعّالا ومنتِجا.

إنسان وحيد في مدينة من “الخراتيت”!

المنظر فكاهي تقريبا. وتذكّرتُ صديق “بيرنجيه” في مسرحية “الخرتيت” لـ “يونيسكو”. هو الآخر، كان دائمًا مُرتَّب الهندام، نظيف الذهن من رسوبات الكحول، عالي الكعب، ويريد أن يظل على نقيض “بيرنجيه” فعّالا ومنتجا.. لكن حين حلّت موجة الإمساخ (المسخ) إلى خراتيت (حيوان: وحيد القرن)، كان من بين أوائل الممسوخين، وظل “بيرنجيه” إنسانا وحيدا في مدينة من “الخراتيت”.

محمد ياسين رحمة - الجزائر

محمد ياسين رحمة - الجزائر

اقرأ أيضا

آخر الأخبار
توقيع اتفاقيات بين "سكيلس سنتر" والمؤسسات الجزائرية لدعم التحول الرقمي أمن الشلف يضع حداً لشبكة دولية لتهريب مهاجرين عبر البحر أمن بشار يفكك شبكة إجرامية ويضبط 22.56 كيلوغرامًا من المخدرات هذا هو رابط المنصة الجديدة لأساتذة التعليم العالي للحصول على شهادة تدريس عبر الخط سفيان شايب: "الجزائر تضع أبناء الجالية ضمن أولوياتها لتنمية الاقتصاد الوطني" القرض الشعبي الجزائري..نمو ملحوظ في الصيرفة الإسلامية نحو إطلاق 12 مشروعًا رقميًا لحماية التراث الثقافي وحدات حرس السواحل تنفذ عملية إجلاء إنساني لـ 03 بحارين من جنسية بريطانية مزيان يدعو إلى تعزيز مهنية الإعلام لمواجهة حملات التضليل ضد الجزائر رداً على الاستفزازات الفرنسية.. حركة النهضة تدعو إلى رفع التجميد عن قانون تعميم استعمال اللغة العربية بداري يُشرف على توقيع 21 اتفاقية توأمة بين جامعات ومراكز بحثية وزارة الصناعة تُوقّع على مذكرة تفاهم مع شركة رائدة في صناعة السيارات لمناقشة ملفات هامة.. وزير الخارجية التركي في زيارة رسمية إلى الجزائر حرب الظل تبلغ ذروتها في روما.. تسريبات ولقاءات خفية تعيد ترتيب أوراق النووي الإيراني الخارجية الفلسطينية تُحذّر من مُخطّط خطير يستهدف الأقصى شنقريحة يُنصّب القائد الجديد للدرك الوطني أيام إعلامية حول الشمول المالي عبر ولايات الوطن إصابة 12 شخصاً في انقلاب حافلة بالجزائر العاصمة جولة جديدة من المحادثات النووية بين طهران وواشنطن صور ودموع زائفة.. منظمة "حمايتك" تُحذّر من ظاهرة تسوّل جديدة