شهدت الولايات المتحدة الأمريكية عبر تاريخها سلسلة من المحاولات الاستراتيجية لتوسيع نفوذها الجغرافي والسياسي، سواء من خلال شراء الأراضي أو غزوها، في تجسيد واضح للرؤية التوسعية التي ميزّت مسارها التاريخي. وبينما قد تبدو بعض أفكار قادتها، مثل محاولات الرئيس السابق دونالد ترامب لشراء جزيرة غرينلاند، غريبة أو غير مألوفة للوهلة الأولى، فإن العودة إلى صفحات التاريخ تكشف عن جذور عميقة لهذه الطموحات تمتد لعقود وقرون مضت. وهكذا فإن غرينلاند –وهي أكبر جزيرة في العالم، بما تتمتع به من ثروات طبيعية هائلة وموقع استراتيجي بالغ الأهمية- كانت ولا تزال محور اهتمام الولايات المتحدة. فمنذ القرن التاسع عشر، طرحت دعوات لضمها أو شرائها، بدءاً من تقرير وزارة الخارجية الأمريكية عام 1867، إلى العرض السري للرئيس هاري ترومان عام 1946، وانتهاءً بتصريحات ترامب الأخيرة. وفي هذا السياق، يناقش ركن “إضاءات” في عدد اليوم من “الأيام نيوز” تفاصيل هذا الاهتمام الأمريكي بغرينلاند، في استعراض شامل لتاريخ المنطقة وأهميتها الاستراتيجية وثرواتها الطبيعية، كما يلقي الضوء على السياسة الأمريكية القائمة على شراء الأراضي، بدءاً من صفقة لويزيانا مع فرنسا وشراء ألاسكا من روسيا، وصولاً إلى المحاولات التي ساهمت في تشكيل حدود الولايات المتحدة كما نعرفها اليوم.
كما لا يُغفِل التقرير، الموقف الأوروبي الذي عبر عنه رئيس اللجنة العسكرية للاتحاد الأوروبي، روبرت بريغير، بقوله: “سيكون من المنطقي تماماً التفكير في نشر جنود من الاتحاد الأوروبي في غرينلاند مستقبلاً، بدلاً من الاكتفاء فقط بوجود قوات أمريكية هناك”، في إشارة إلى احتمال سعي أوروبا للدفاع عن الجزيرة، رغم أن هذا الموقف يبدو غير واقعي في الوقت الحالي.
تُثير بعض أفكار الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، مثل رغبته في شراء جزيرة غرينلاند، دهشة الكثيرين عند سماعها لأول مرة، لكنها ليست جديدة أو غريبة عند استقراء التاريخ الأمريكي. فالولايات المتحدة لطالما تبنّت استراتيجيات توسعية، سواء بالغزو أو شراء الأراضي، مما يجعل أفكاراً كهذه امتداداً لممارسات تاريخية.
والواقع أن ترامب لم يكن أول من فكر في ضم كندا إلى الولايات المتحدة؛ إذ حاول الأمريكيون غزو كندا أثناء حرب عام 1812 مع بريطانيا. وبالمثل، فإن فكرة شراء غرينلاند ليست وليدة العصر الحديث؛ بل تعود إلى ستينيات القرن التاسع عشر، وتحديداً خلال فترة رئاسة أندرو جونسون، حيث أشار تقرير لوزارة الخارجية الأمريكية عام 1867 إلى الأهمية الاستراتيجية لغرينلاند وإمكاناتها الطبيعية الواعدة، واعتبر الاستحواذ عليها فكرة مثالية. وفي نفس العام، نجحت الولايات المتحدة بالفعل في شراء ألاسكا من روسيا مقابل 7.2 مليون دولار، وهي خطوة رسخت اهتمامها بالمناطق الشمالية.
لكن محاولات ضم غرينلاند لم تترجم إلى تحركات رسمية إلا في عام 1946، عندما عرض الرئيس هاري ترومان على الدنمارك 100 مليون دولار لشراء الجزيرة. كما اقترح ترومان تبادلاً للأراضي بين ألاسكا وغرينلاند، انطلاقاً من رؤية المسؤولين الأمريكيين آنذاك أن السيطرة على غرينلاند تمثل “ضرورة عسكرية”.
ورغم أن العرض الأمريكي ظل طي الكتمان لفترة طويلة، تم الكشف عنه في عام 1991 عندما أُفرج عن وثائق سرية نُشرت في صحيفة دنماركية. ومع ذلك، سبق لمجلة تايم عام 1947 أن أشارت بشكل مقتضب إلى هذا المخطط، ما يسلط الضوء على الطموح الأمريكي المستمر في تعزيز نفوذه عبر استراتيجيات جغرافية.
في عام 1947، سلطت مجلة تايم –في مقال لها صدر بتاريخ 27 جانفي- الضوء حول خطط الولايات المتحدة الاستراتيجية في القطب الشمالي، حيث جاء فيه: “هذا الأسبوع، بينما كان الاستراتيجيون الأمريكيون يفحصون خريطة القطب الشمالي، رأى العسكريون في واشنطن أن الوقت قد يكون مناسباً لشراء غرينلاند، إذا أمكنهم ذلك.” وقد أرفق المقال بخريطة تحت عنوان “الدوائر القطبية الشمالية”، تُظهر دوائر متحدة المركز تنطلق من ألاسكا وغرينلاند، مشيرة إلى الأهمية العسكرية والجغرافية للمنطقة.
ورغم غياب أي إشارة صريحة إلى العرض السري الذي قدمته الولايات المتحدة عام 1946 لشراء غرينلاند مقابل 100 مليون دولار، فإن المجلة لمّحت إلى أن المسؤولين العسكريين ناقشوا فكرة إلغاء ديون الدنمارك، التي كانت تبلغ 70 مليون دولار، كوسيلة للحصول على الجزيرة.
ظهرت هذه الطروحات في أعقاب الحرب العالمية الثانية، التي عززت مكانة الولايات المتحدة كقوة عالمية، لكنها شهدت أيضاً بداية التوترات التي مهدت للحرب الباردة. وفي ظل هذه الأجواء، باتت المناطق القطبية الشمالية محط اهتمام كبير، نظراً لموقعها الاستراتيجي. وأشارت المجلة إلى أنه “طالما استمر الجنود الأمريكيون، بما في ذلك مشغلو محطات اللاسلكي وخبراء الأرصاد الجوية، في تمركزهم داخل غرينلاند، فإن الولايات المتحدة تبقى عرضة لانتقادات موسكو بسبب وجود قوات أمريكية على أراضٍ أجنبية.”
يعكس هذا التقرير مزيجاً من الطموحات التوسعية الأمريكية والضغوط السياسية الدولية في تلك الفترة. فالقطب الشمالي، بأهميته الجغرافية وموقعه الاستراتيجي، كان محوراً للمنافسة بين القوى العظمى، مما جعله ساحة للصراع على النفوذ في ظل التوترات التي بدأت في التبلور بين الشرق والغرب.
حاملة طائرات ضخمة وثابتة ..
في عام 1947، سلطت مجلة تايم –في مقال لها- الضوء على فكرة شراء الولايات المتحدة لغرينلاند كحل استراتيجي لمواجهة التحديات المتزايدة في منطقة القطب الشمالي. ووفقاً للمقال، فإن السيطرة على غرينلاند التي تمتد على مساحة تقارب مليوني كيلومتر مربع، ستوفر للولايات المتحدة ميزة عسكرية هائلة، حيث وُصفت الجزيرة بأنها أشبه بحاملة طائرات ضخمة وثابتة. ولم تقتصر أهميتها على الصراعات العسكرية التقليدية وغير التقليدية، بل رُشحت لتكون موقعاً متقدماً لإطلاق الصواريخ في المستقبل، فضلاً عن دورها الأساسي في رصد الأحوال الجوية والعواصف في شمال غرب أوروبا، ما يُتيح تحسين القدرة على التنبؤ بالظروف المناخية من أقرب نقطة ممكنة.
آنذاك، كانت هذه المخاوف تعكس حالة التوتر الجيوسياسي الناتج عن الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، حيث شكلت غرينلاند نقطة محورية في صراع النفوذ بين القوى الكبرى. واليوم، تعود غرينلاند إلى دائرة الاهتمام الدولي، لكن في سياق جديد مختلف تماماً، مع بروز التغيرات المناخية والانحباس الحراري كعوامل أساسية تعيد تشكيل الأهمية الاستراتيجية للقطب الشمالي. فتراجع الجليد البحري المستمر يفتح الباب أمام ظهور ممرات بحرية جديدة، قد تعيد رسم خريطة التجارة العالمية وتوفر طرقاً مختصرة للسفن التجارية والعسكرية.
هذا التحول الاستراتيجي أبرزه وزير الخارجية الأمريكي السابق مايك بومبيو، الذي أكد أن تقلص الجليد البحري يتيح فرصاً غير مسبوقة للتجارة، حيث صرّح قائلاً: “إن فتح ممرات بحرية جديدة في القطب الشمالي قد يقلل زمن السفر بين آسيا والغرب بنحو 20 يوماً. وقد تصبح هذه الممرات بمثابة قناتي السويس وبنما في القرن الحادي والعشرين”، ومع ذلك، فإن الفرص التجارية المصاحبة لهذا التحول تحمل في طياتها تحديات سياسية وأمنية جديدة، ما قد يجعل منطقة القطب الشمالي مسرحاً محتملاً لصراعات جيوسياسية.
في ضوء هذه التطورات، لا يمكن النظر إلى غرينلاند على أنها مجرد جزيرة ذات أهمية جغرافية أو مناخية، بل إنها بوابة استراتيجية للمستقبل. تداخل المصالح الاقتصادية، العسكرية، والسياسية يجعلها مركزاً محتملاً للتنافس الدولي في القرن الحادي والعشرين، حيث قد تتحول إلى نقطة انطلاق للتغيرات التي ستعيد تشكيل موازين القوى العالمية.
بين الحكم الذاتي.. والسيادة الدنماركية
تُعد غرينلاند أكبر جزيرة على وجه الأرض، حيث تمتد على مساحة تُقارب مليوني كيلومتر مربع. رغم أنها تتمتع بحكم ذاتي منذ عام 1979، إلا أنها ما زالت تخضع لسيادة الدنمارك، التي تتولى إدارة شؤونها الخارجية والدفاعية، فضلاً عن المساهمة في دعمها المالي.
تتمتع الجزيرة بثروات طبيعية ضخمة، من بينها اليورانيوم، الذهب، الأحجار الكريمة، إلى جانب احتياطيات كبيرة من النفط والغاز، مما يجعلها محط أنظار العديد من الشركات العالمية. وعلى الرغم من أن مساحات واسعة منها مغطاة بالجليد، فإن المناطق الساحلية الجنوبية والغربية تحتفظ ببعض الأراضي المكشوفة. تسهم الدنمارك في تمويل ثلثي ميزانية غرينلاند، بينما يعتمد الباقي على عائدات قطاع الصيد البحري، الذي يُعد النشاط الاقتصادي الرئيسي لسكانها.
تواجه غرينلاند تحديات بيئية متزايدة بفعل الاحتباس الحراري، حيث يهدد ذوبان الجليد مستقبل المنطقة بأكملها. وخلال فصل الصيف، تشهد الجزيرة نهاراً متواصلاً لمدة شهرين، بينما يُلقي الشتاء الطويل والقاسي بظلاله على الحياة الاجتماعية، مسبّباً مشكلات مثل إدمان الكحول.
يبلغ عدد سكان غرينلاند حوالي 57 ألف نسمة فقط، معظمهم من شعب الإنويت، الذين ينقسمون إلى مجموعات إقليمية مثل “كالاليت” في الغرب، “إنوجيت” في الشمال، و”إييت” في الشرق. كما يعيش إلى جانبهم أقلية دنماركية، غالبيتها من أصول أوروبية. اللغة الرسمية هي الغرينلاندية بجانب الدنماركية، بينما تُعتبر المسيحية الديانة السائدة.
سياسياً، يُعد ملك الدنمارك، فريدريك العاشر، رأس الدولة، فيما يتولى ميوتي إيغيدي قيادة الحكومة المحلية منذ أفريل 2021، بعد أن قاد حزبه اليساري “إنويت أتاكاتيجيت” لتحقيق الفوز في الانتخابات البرلمانية. وقد عبّر إيغيدي عن رغبته في تحقيق استقلال غرينلاند التام عن الدنمارك، خاصةً بعد تصريحات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بشأن شراء الجزيرة، التي أعادت تسليط الضوء على قيمتها الاستراتيجية.
بما تمتلكه من موارد طبيعية هائلة وموقع استراتيجي مهم، تبرز غرينلاند كمنطقة ذات أهمية متزايدة على الساحة الدولية. ومع تصاعد التنافس بين القوى الكبرى على النفوذ في القطب الشمالي، يبدو أن مستقبل الجزيرة يحمل في طياته فرصاً وتحديات كبيرة، مما يجعلها محط اهتمام عالمي متزايد.
هجرات الإنويت إلى غرينلاند
عبر سلسلة من الهجرات التي استمرت منذ حوالي 2500 قبل الميلاد حتى أوائل الألفية الثانية الميلادية، استطاع شعب الإنويت أن يصل من أمريكا الشمالية إلى شمال غرب غرينلاند، وفي عام 982، وصل النرويجي إريك الأحمر، الذي كان قد نُفي من أيسلندا بتهمة القتل غير العمد، إلى الجزيرة التي أصبحت تعرف لاحقًا باسم غرينلاند. وبعد عودته إلى أيسلندا في حوالي عام 985، تحدث عن الأرض التي اكتشفها ووصف مزاياها، فأطلق عليها اسم “غرينلاند”، أو “الأرض الخضراء”.
في عام 986، قاد إريك رحلة استكشافية أخرى أسفرت عن تأسيس مستوطنتين رئيسيتين في الجزيرة، وصل عدد سكانهما إلى نحو 6 آلاف نسمة، مما قد يشير إلى أن درجات الحرارة في تلك الفترة كانت أكثر دفئًا مما هي عليه اليوم. وفي القرن الحادي عشر، جاء إريك ليف إريكسون من النرويج المسيحية ليجلب الدين المسيحي إلى غرينلاند، وتم تأسيس أول مقر أسقفي في الجزيرة عام 1126.
مع بداية القرن الثالث عشر، بدأ المستوطنون النورسيون في التفاعل مع ثقافة الإنويت في شمال غرينلاند، إلا أنه في القرن الرابع عشر، بدأت المستوطنات النورسية بالتراجع، وهو ما يُعزى إلى التغيرات المناخية التي أدت إلى تبريد الطقس. بحلول القرن الخامس عشر، اختفت هذه المستوطنات تمامًا.
في القرنين السادس عشر والسابع عشر، كانت رحلات صائدي الحيتان الهولنديين والإنجليز في مياه غرينلاند مستمرة، حيث كانت هناك بعض التفاعلات مع السكان المحليين. ومع ذلك، لم يبدأ الاستعمار الجاد في الجزيرة إلا في عام 1721، عندما أسس هانز إيغيدي بعثة تجارية ودينية تابعة للدنمارك في منطقة نوك الحالية، مما كان بمثابة بداية العصر الاستعماري في غرينلاند.
في عام 1776، فرضت الحكومة الدنماركية احتكارًا تامًا للتجارة مع غرينلاند، وأغلقت ساحل الجزيرة أمام الدول الأخرى، ولم يُسمح بإعادة فتحه إلا في عام 1950. وخلال الحرب العالمية الثانية، وقعت غرينلاند تحت حماية الولايات المتحدة أثناء الاحتلال الألماني للدنمارك، وعادت إلى السيادة الدنماركية في عام 1945. بعد الحرب، استجابت الدنمارك لاحتجاجات سكان غرينلاند بشأن كيفية إدارتها للجزيرة، حيث تم إلغاء احتكار شركة غرينلاند التجارية الملكية في عام 1951. ومن ثم، وبالتزامن مع جعل الجزيرة جزءًا من مملكة الدنمارك في عام 1953، تم تنفيذ إصلاحات لتحسين الاقتصاد المحلي، وتعزيز أنظمة النقل، وتطوير النظام التعليمي. وفي 1 ماي 1979، مُنحت غرينلاند الحكم الذاتي.
في بداية القرن الحادي والعشرين، تزايد الدعم في غرينلاند للمطالبة بمزيد من السيطرة على شؤونها الخارجية. ويُعزى ذلك جزئياً إلى اتفاقية عام 2004 التي سمحت للولايات المتحدة بتحديث نظام دفاعها الصاروخي في قاعدة ثولي الجوية. وقد تقدم الإنويت، الذين تم تهجيرهم قسريًا من المناطق المحيطة بالقاعدة في الخمسينيات، بدعوى قضائية لاستعادة حق العودة، وأثاروا شكاوى في المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان.
كان سكان غرينلاند يشعرون بالقلق إزاء نوايا الولايات المتحدة، خاصة بعد أن كانت تخزن قنابل نووية على الجزيرة خلال فترة الحرب الباردة دون علم غرينلاند، رغم الحظر الدنماركي على مثل هذه الأسلحة. وفي عام 1968، تحطمت طائرة عسكرية أمريكية بالقرب من ثولي كانت تحمل أربع قنابل هيدروجينية.
مع تزايد الدعوات للاستقلال، حققت الأحزاب المؤيدة لمزيد من الحكم الذاتي انتصارات انتخابية خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وفي استفتاء عام 2008، صوّت سكان غرينلاند لصالح تعزيز الحكم الذاتي، بما في ذلك السيطرة الأكبر على موارد الطاقة، إضافة إلى منح لغة الكالاليسوت (لغة غرينلاند الغربية) وضع اللغة الرسمية بدلاً من الدنماركية. وأكدت الدراسات في عام 2010 أن جليد غرينلاند يذوب بمعدلات أسرع من المتوقع، مما يسهم في ارتفاع مستويات البحار والمحيطات.
أراضي أمريكية بصفقات شراء !
محاولة الولايات المتحدة لشراء غرينلاند من الدنمارك ليست المرة الأولى التي تسعى فيها واشنطن للحصول على أراضٍ عبر الشراء، فقد سبق لها أن حاولت في وقت سابق الاستحواذ على هذه الجزيرة. كما أن الدنمارك كانت قد باعت أراضٍ للولايات المتحدة في الماضي، مثل جزر الهند الغربية الدنماركية التي أصبحت تعرف اليوم بجزر فيرجن الأمريكية في منطقة البحر الكاريبي. لقد تم الحصول على حوالي 40% من الأراضي الحالية للولايات المتحدة من خلال صفقات شراء من القوى الاستعمارية والدول الأخرى.
بعد وصول كريستوفر كولومبوس إلى أمريكا الشمالية في أواخر القرن الخامس عشر، بدأت القوى الأوروبية مثل إسبانيا وإنجلترا وفرنسا في إقامة مستعمرات في الأراضي الأمريكية خلال القرن السادس عشر. وفي القرنين السابع عشر والثامن عشر، تسارعت عمليات الاستيلاء على أراضي الشعوب الأصلية عبر الحروب والإبادة، مما مهد الطريق لسيطرة القوى الأوروبية على القارة.
مع إعلان استقلالها، تبنت الولايات المتحدة سياسة التوسع الإقليمي على مدار العقود. ففي عام 1803، قامت بشراء أراضي لويزيانا من فرنسا مقابل 15 مليون دولار، مما أدى إلى توسيع حدودها غربًا عبر القارة. وقد سهلت هذه الصفقة الصعوبات الاقتصادية التي كانت تعاني منها فرنسا، إلى جانب المخاوف التي كان يساور نابليون بونابرت بشأن التحديات الاقتصادية والأمنية المحتملة نتيجة صراعات محتملة في أوروبا.
وفي عام 1819، أبرمت الولايات المتحدة معاهدة آدامز-أونيس مع إسبانيا، مما مكنها من شراء ولاية فلوريدا مقابل 5 ملايين دولار. وكانت فلوريدا في تلك الفترة إحدى المستعمرات الإسبانية، وبحلول بداية القرن التاسع عشر، كانت إسبانيا قد فقدت السيطرة على المنطقة بسبب تأثيرات الحروب الأوروبية والصراعات الداخلية.
في عام 1854، قامت الولايات المتحدة بشراء ما يقرب من 77 ألف كيلومتر مربع من الأراضي من المكسيك مقابل 10 ملايين دولار، وهي الأراضي التي تضم الآن أجزاء من ولايتي أريزونا ونيو مكسيكو. وفي عام 1867، استحوذت الولايات المتحدة على ألاسكا من روسيا بمبلغ 7.2 مليون دولار، بعد أن كانت الضغوط الاقتصادية الناتجة عن حرب القرم قد جعلت روسيا تواجه صعوبات مالية، مما دفعها لعرض بيع ألاسكا. اليوم، تشكل ألاسكا حوالي 17% من أراضي الولايات المتحدة.
ومع مرور الوقت، تزايدت الأهمية الجيوسياسية لألاسكا ومنطقة القطب الشمالي. فقد قدمت ألاسكا للولايات المتحدة موقعًا استراتيجيًا ضد روسيا، وأصبحت لها أهمية كبيرة في تعزيز الوجود العسكري والدفاع الأمريكي في المنطقة القطبية. وفي عام 1898، وبعد الحرب الإسبانية الأمريكية، قامت الولايات المتحدة بشراء الفلبين من إسبانيا بموجب معاهدة باريس التي وقعت في 10 ديسمبر من العام نفسه. تم دفع 20 مليون دولار لإسبانيا مقابل الفلبين، التي حصلت على استقلالها في 4 جويلية من عام 1946.
في بداية القرن العشرين، سعت الولايات المتحدة لتعزيز وجودها الاستراتيجي في منطقة البحر الكاريبي، حيث حاولت شراء كوبا من إسبانيا. وفي سياق استقلال كوبا في عام 1903، قامت واشنطن بتأجير الأراضي المطلة على خليج غوانتانامو. كما قامت في عام 1917 بشراء جزر الهند الغربية الدنماركية، المعروفة اليوم بجزر فيرجن الأمريكية، من الدنمارك مقابل 25 مليون دولار.
هذا الاستحواذ لم يسهم في تعزيز النفوذ الأمريكي في منطقة البحر الكاريبي فحسب، بل جعل جزر فيرجن الأمريكية وجهة سياحية شهيرة للولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية. ومن الجدير بالذكر أن رئيسة وزراء بنغلاديش السابقة، الشيخة حسينة، زعمت بعد اندلاع الاحتجاجات في بلادها في العام الماضي أن الولايات المتحدة حاولت السيطرة على جزيرة سانت مارتن في خليج البنغال. وقد قالت إنها فُصلت عن السلطة بسبب رفضها قبول ذلك، وهو ما نفاه البيت الأبيض.
ما جدوى نشر قوات أوروبية في غرينلاند؟
في ظل محاولات الولايات المتحدة المتكررة للاستحواذ على غرينلاند عبر صفقات شراء، تتجدد التساؤلات حول دور هذه المنطقة في السياسة الدولية. وفي وقت يتصاعد فيه التنافس بين القوى الكبرى على النفوذ في القطب الشمالي، يبرز حديث رئيس اللجنة العسكرية للاتحاد الأوروبي، روبرت بريغير، الذي أشار إلى إمكانية نشر قوات من دول الاتحاد الأوروبي في غرينلاند.
وقال بريغير إنه من المنطقي نشر قوات من دول الاتحاد الأوروبي في جزيرة غرينلاند، بعدما أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن اهتمامه بشراء الجزيرة التابعة للدانمارك. وأضاف بريغير، في مقابلة أجرتها معه صحيفة فيلت أم زونتاغ الألمانية نشرت أمس السبت: “من وجهة نظري سيكون من المنطقي تماما التفكير في نشر جنود من الاتحاد الأوروبي في غرينلاند مستقبلا، وليس الاكتفاء فقط بوجود قوات أمريكية هناك كما هو الحال حتى الآن”، وذكر الجنرال النمساوي أن مثل هذه الخطوة تتطلب في نهاية الأمر قرارا سياسيا.
واللجنة العسكرية للاتحاد الأوروبي هي أعلى هيئة عسكرية به، إلا أنها تضطلع بدور استشاري فقط لأن الاتحاد الأوروبي ليس له جيش خاص، كما يُعد حلف شمال الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة القوة العسكرية الوحيدة للاتحاد الأوروبي.
وقال بريغير إنه على الرغم من أن غرينلاند ليست جزءا من الاتحاد الأوروبي بل إقليم تابع للدانمارك في الخارج، فإن الأوروبيين والولايات المتحدة، لديهم مصالح هناك، مشيرا إلى موادها الخام وموقعها الاستراتيجي. وقال إنه يأمل أن تحترم الولايات المتحدة، بصفتها عضوا في الأمم المتحدة، حرمة الحدود كما هو منصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة.
صفقة القرن..
وسبق لترامب أن ألمح سابقًا إلى إمكانية استخدام القوة أو الضغط الاقتصادي للاستحواذ على غرينلاند، وهو ما لاقى انتقادات حادة من تقرير نشرته مجلة إيكونوميست، الذي أكد أن اللجوء إلى الإكراه في هذه المسألة سيضر بسمعة الولايات المتحدة عالميًا. وقد سلط التقرير الضوء على فكرة شراء غرينلاند من الدنمارك، مع إجراء مقارنة بين هذه المحاولة وصفقات تاريخية سابقة مثل شراء لويزيانا من فرنسا عام 1803 وألاسكا من روسيا عام 1867، التي تعتبر الآن نجاحات هائلة.
بدلاً من ذلك، يوصي التقرير باتباع أسلوب دبلوماسي، والتفاوض مباشرة مع سكان غرينلاند، احترامًا لحقهم في تقرير مصيرهم، ويتماشى ذلك مع قانون دانماركي صدر عام 2009 يتيح للجزيرة الحق في إعلان استقلالها من خلال استفتاء. وقد قدر التقرير قيمة غرينلاند بنحو 50 مليار دولار، ما يعادل 5% من الإنفاق الدفاعي الأميركي السنوي، ويشير إلى أن الصفقة قد تحقق ربحًا كبيرًا لكل فرد من سكان الجزيرة، البالغ عددهم 57 ألف نسمة.
في ظل الموارد الطبيعية الهائلة التي تمتلكها غرينلاند وأهميتها الاستراتيجية، قد تكون الولايات المتحدة مستعدة لتقديم مبلغ أكبر لتحقيق مكاسب فورية. يرى التقرير أن مثل هذه الصفقة قد تكون مفيدة للطرفين؛ إذ في حين تتمتع غرينلاند بإمكانات اقتصادية ضخمة، إلا أن قلة عدد سكانها واعتمادها على الدنمارك في تمويلها قد يشكلان عائقًا أمام تحقيق نهضة اقتصادية شاملة. كما أن التحديات المرتبطة بالحكم المحلي والصعوبات اللوجستية في بيئتها القاسية قد تعقد الأمور أكثر.
من خلال بيع غرينلاند للولايات المتحدة، يمكن التخفيف من هذه العقبات عبر الاستفادة من الأنظمة الإدارية والأمنية الأميركية، مما يضمن لسكان غرينلاند مزيدًا من الأمن المالي وفرص التنمية. وفي هذا السياق، أشار التقرير إلى أن القيمة الاستراتيجية الحقيقية للجزيرة بالنسبة لترامب تكمن في موقعها بين الولايات المتحدة وروسيا، مما يعزز الأمن العسكري الأميركي، لا سيما في مراقبة ممرات الغواصات. ولتحقيق هذا الهدف، يقترح التقرير أن يتراجع ترامب عن التهديدات ويقدم عرضًا طوعياً جذابًا. ويخلص التقرير إلى أن شراء غرينلاند عبر عملية تفاوض سلمية قد يكون “صفقة القرن”، مما يعود بالرخاء والأمن على كل من غرينلاند والولايات المتحدة.