المجرم نفسه.. الضحية نفسها.. بالوسيلة ذاتها وبالدعاية ذاتها، وللهدف والغاية نفسيها.. لا يحتاج المشهد إلى كثير من التّمعن والتّمحيص، ولا إلى أدنى قدر من الذكاء ليتأكد العام والخاص بأنها ضربة أمريكية بقناع صهيوني، أودت بحياة خمسمائة نسمة “دفعة” واحدة، داخل حرم المستشفى الأهلي العربي “المعمداني”، حيث لجأ الفارون العزل من لهب القنابل وحمم الصواريخ المتواصل انهمارها منذ أيام على قطاع غزة.. ضربة أفجعت القلب العربي وأوجعت الضمير الإنساني، وأوغرت السكين في جرح فلسطين، وشطرت العالم نصفين؛ الإنسانية في صف، والهمجية في صف آخر.. القيم والأخلاق في جهة، والعربدة والظلم في جهة أخرى.. الشعوب الحية الحرّة في وادٍ، والأنظمة القاتلة الإمبريالية في وادٍ آخر.
يقول أحد المسوخ الصهاينة من غلاة القتل والدماء، في تبريره العملية الإرهابية الغادرة: “..ما حدث في مستشفى غزة شيء عادي، حيث قدّم الجيش الإسرائيلي خدمة للفلسطينيين، بأن خلصهم من عبء تقديم الإسعافات للمصابين والجرحى، وأختصر عليهم طريق الموت، فهم ميتون في كل الحالات والأحوال..”، بلسان حاقد قاتل لعين، يقطر غلّا وبشاعة وصلفا.
بألم غائر تتقطع له الأحشاء وتتمزق له الأكباد، جعل هذا القصف البربري العراقيين والعرب والعالم الحرّ بأسره يستذكرون تفاصيل جريمة ملجأ العامرية ببغداد، وكيف تم قصفه من قبل الجيش الأمريكي بأمر من المقبور “بوش”، ذات فيفري من عام واحد وتسعين تسعمائة وألف، بكل وحشية وبكل حقد وبكل عنجهية.. أفضت العملية حينها إلى ارتكاب جريمة مروعة، لا يمكن محوها من ذاكرة الإنسان والتاريخ.. جريمة وقعت باسم تحقيق “الحرية والديمقراطية والعدالة”.. بالمفهوم الأمريكي الإمبريالي عديم الإنسانية والأخلاق.
كان الملجأ مكتظا بالمدنيين العزّل، عندما قامت طائرة أمريكية من طراز “أف 117” في طور التجربة، بإسقاط قنبلتين ذكيتين بلغ وزن الواحدة منهما ألفي رطل، وهو ما يعادل طنا، على رؤوس سكان بغداد الذين كانوا قد فروا إلى هذا الملجأ بحثا عن الأمن المفقود في بقية أنحاء المدينة والبلد، ليرتقي أكثر من أربعمائة شهيد بين رضع وأطفال ونساء ومسنين، من ثلاث جنسيات عربية؛ عراقية، فلسطينية وسورية، امتزجت دماؤهم، أو بالأحرى أشلاؤهم في محرقة مرعبة لم تشهد البشرية مثلها إلا نشازا؛ اثنان وخمسون طفلا ما دون سن الخامسة.. اثنا عشر رضيعا.. مائتان وواحد وستون امرأة.. وبقية الشهداء من كبار السن.
كان يوما أسودَ شبيها بيوم “ناغازاكي” و”هيروشيما”؛ يوم الغدر والحقد والجريمة المروعة.. فعلى الرغم من التبريرات والمزاعم الأمريكية، إلا أن صرخات الألم ورائحة الموت قد طالت العالم كله وفضحت الجريمة والبهتان.. تقول مديرة الملجأ السيدة “انتصار أحمد السامرائي” في شهادتها على الجريمة: “..لجأ الناس إلى هنا –الملجأ- هروبا من الموت المحدق ببغداد في كل لحظة وحين.. كانوا يفرون الى هنا كل ليلة بحثا عن الأمن.. فقد كانوا كلهم مدنيون أبرياء من غير سلاح… لقد قتلت القنابل جيراننا وأصدقاءنا وأحبتنا بكل مكر وغدر وعدوان..”.
وقد شهد على بشاعة الجريمة ووحشيتها أحد شرفاء الطبقة السياسية والحقوقية الأمريكية، السيد “رامزي كلارك” وزير العدل على عهد الرئيس “ليندون جونسون”، حيث زار العراق بعد تلك الجريمة المنكرة، وصرح واصفا مشهد الحرب والدمار بقوله: “..إنها حرب إبادة جماعية، مخططة وممنهجة ضد سكان مدنيين عزل غير مسلحين ولا عدوانيين..”. لكن، وبكل مرارة وأسف، نسي “الزعماء” العراقيون الجريمة والعدوان، وراحوا يبررون الفعل ويتجاهلونه، ويسارعون إلى طلب الود الأمريكي ومد يد الصداقة، أو بالأحرى يد الانبطاح لمن قتل أطفالهم واستحيا نساءهم وأذل كبرياءهم.. وهاهم اليوم يبكون بلدا أضاعوا شرفه، ولم يتمكنوا من الحفاظ عليه كما فعل أسلافهم منذ فجر الحضارة والتاريخ.
في غزة، يستعيد التاريخ بؤسه وبأسَه، بأن جعل المجرمون الصهاينة والأمريكان، من المستضعفين في القطاع المحاصر منذ عقدين من الزمان “مخبرَ تجارب” للأسلحة الأمريكية الفتاكة، كان بينها تجربة قصف مستشفى المعمداني.. حيث إن حكومة الكيان المجرم بقيادة النتن-ياهو رغم انتشائها بالضربة وبعدد الضحايا الكبير في صفوف الضحايا من اللاجئين داخل المستشفى، راحت تبرئ نفسها وتتهم الجهاد الإسلامي وحماس ووو.. في تمويه فاضح للحقيقة بمباركة أمريكية، ذلك أن الكيان الصهيوني في حساب الأمريكان ليس أكثر من مجرد نظام وظيفي لتأدية دور “الإرهابي المرعب” في مشهد الصراع الدائر على أرض فلسطين منذ أكثر من قرن من الزمن، أي منذ وعد “بلفور” المشؤوم إلى اليوم.
فعندما يصرح رئيس أمريكي ويقول على الملأ إنه “لو لم تكن “إسرائيل” – الكيان الصهيوني – موجودة لأوجدناها، حماية لمصالحنا في المنطقة وفي العالم..”، فإن معنى هذا الكلام أنه ليس هناك دولة فعلية تسمى “إسرائيل”، كما تدعي نفاقا وانبطاحا وذلة بعض الأنظمة العربية من المهرولين والمطبعين في المنطقة، وإنما هو “كيان صهيوني” مصطنع وجد بقوة الحديد والمال، لتأدية دور لصالح الغير وكفى، فلا وعد ولا دين ولا هيكل ولا جبل ولا تلمود ولا توراة.. وإنما هو العبث، وعندما تنتهي مهمته التي وجد من أجلها، فسوف تساق له الأسباب التي تلغي وجوده من الأساس، وسيأتي جيل أمريكي متحرر من ربقة العبودية الصهيونية(الرأسمالية)، فينفض يديه من هذا الإثم، ويقدم اعتذاراته للتاريخ، ولملايين الضحايا عن هذا الانحراف الأخلاقي القاتل.
فما كان للزعيم “جورج واشنطن” الرئيس المؤسس للولايات المتحدة الأمريكية ومحررها، وهو القائل: “..اجتهد دائما لكي تحافظ على تلك الشعرة الإلهية، التي تضيء القلوب وهي الضمير..”، “..السعادة والواجب الأخلاقي، يرتبطان ارتباطا غير قابل للانفصال..”.. ما كان له أن يقبل بأن تتجرد أمريكا من ضميرها ولا من أخلاقها بهذا الشكل المفزع وعلى هذا النحو المرعب، وتصير مجرد آلة دموية قاتلة يعبث بها الشواذ والشذاذ وباعة القتل والدمار. وما كان للزعيم “أبراهام لينكولن” أن يقبل بأن تستعبد أمريكا الناس باسم الحرية، وهو القائل: “..انهضوا أيها العبيد، فإنكم لا ترونهم كبارا إلا لأنكم ساجدون..”، وما كان له أن يقبل بأن تتغطرس أمريكا بكل هذا الصلف، وهو الذي ساق مثلا حكيما: “..يحكى أن ملكا في الشرق كان قد كلّف مستشاريه الحكماء يوما بأن يبتكروا له جملة تبقى ماثلة دائما في الأذهان.. تكون صادقة ومناسبة لكل الأحوال والأزمان.. وبعد تبصر وتأمل في حاضر الحياة وماضيها، جاءه كبيرهم بهذه الكلمة المختصرة الحكيمة: ..وهذا أيضًا سيزول.. فكم هي معبّرة، وكم هي ناهية ساعة الغرور، وكم فيها عزاء في غمرة ألم المصاب..”.. وكأن الرجل يتكلم الساعة عن واقع غزة الأليم.
وبعد كل البشاعة التي وقعت، ما يزال النفاق العالمي يراوح مكانه، بكل البلادة المقرفة والخساسة اللعينة، حيث يسارع الجميع إلى شجب الجريمة ورفضها، من دون أن يجرؤ أحد على رفع بنانه بالإشارة إلى المجرم القاتل.. الجريمة هنا، والمجرم هاهنا، والشاهد بينهما؛ فعين رأت وعين عميت، أذن سمعت وأخرى صمَّت، ولسان أخرس عن الحق، ناطق بالباطل والهوى.. في تحوير قذر وتزييف متعمد للحقائق والأحداث، على يد آلة إعلامية إرهابية قاتلة، تدار بأيدٍ حمراء دموية من خلف سُتُر، لوأد الحقيقة وتحريف الواقع ولو بالكذب والبهتان.