السّطور الأخيرة من حياتنا في لبنان تلفظ أنفاسها، حروفٌ تتبعثر كلماتُها وسط رماديّة تلفّ الكون وتخنقها، صوَرٌ تتراكم على محيّاها، وتكسر هدوءَها أصواتٌ صاعقة، وحجارةٌ تسجّل تاريخًا أمام انهيارها، ثمّ يأتيكَ من بين هذا الدّمار مَن يحمل كيسًا يجمع فيه أشلاء ذكرياته، ربّما يضع فيه بقايا ما يجده من أحبّته؛ قد يجد يدًا مهترئة تستغيث، أو حفنة من ضحكات تلاشت مع الزّمهرير، أو ربّما يحاول أن يجمع ما تبقّى من أنفاس أحبّته، ليحيا ما تبقّى من حياته على أمل جديد… ويأتي البعض ليقول إنّ الحبّ في زمن الحرب محظور!
تقتاتُ الذّات الإنسانيّة من أنفاس الحبّ لتُكمل مسيرة أيّامها العجاف؛ من حبّ الله ينطلق الإنسان في الحياة، ومن حبّ الحياة، يخلق الصّمود والأمل، ومن حبّ العطاء ينبعث العمل، وما العمل إلّا جهاد يمسح صدأ الأيّام، ويواجه عقارب الانتظار الثّقيلة، وينزع عنك قشور الاستسلام واليأس، وفي جعبة الوطن مفاتيح الوجود…
وماذا عن الكلمة عندما تضيع مفاتيح الوجود؟ الكلمة الطيّبة صدقة، وما كانت لتطيب لولا انتشار الحبّ في مجتمعنا، الحرب بأبشع ما تحمله من معانٍ، جاءت محمَّلة بأسمى المعاني، نعم، أسمى المعاني؛ حين ينفطر قلبك، وأنت تحاول أن تجمع أطياف من تحبّهم، تحاول أن تعثر على عُمرٍ لهم تحيكه بيديك، حين ترتجف كلماتك مع كلّ قطرة دم تنزف في كلّ بقعة من لبنان، حين تنسى لونك، ولا ترفع إلّا راية لبنان، حين يشتعل قلبكَ غيرة على كلّ ذرّة من تراب لبنان، حين تنسى من أنتَ؟ سنّيّ، أو شيعيّ، أو مسيحيّ، أو درزيّ… حين تحاول أن تضمّد جرح أخيك بكلمة، بعد أن عجزت كلّ المحاولات، وأنتَ تحتاج إلى مَن يرفع عنك ثقلَ الحياة، حتمًا إنّك تجاهد في سبيل الله، لأنّك تشكّل ترسًا متينًا في مواجهة الأعداء، لأنّ العدوّ إن لم يستطع قتل جسدك، سيقتلك حيًّا، سيرميك بين أنياب الفتنة ونيرانها…
وماذا عن الكتابة؟ مسؤوليّة كبيرة تقع على عاتق القلم، وخائنٌ كلّ قلم لم يرسم جراح الوطن، وكلّ قلم تعمّد أن يخبّئ حبره لأيّام السّلم؛ وليحيا كلّ قلمٍ جمع بين الجرح وضمّاده، واستطاع أن يَعبُر بكلماته آفاقًا واسعة، يخترق من خلالها جدران الصّمت، أو أن يفتّت بكلماته حواجز اليأس، ويرسم كلمات الحبّ بأبهى صوره، ولكن في المقابل هل من قارئ يسمع بجوارحه، هل من متلقٍّ يعبُر كلّ المسافات البعيدة ليلتقي مع جراحنا، هل من مُبصر يستنطق هذه الكلمات؟ ماذا استطاعت أن تفعل كلماتنا؟ هل أوقفت جَلدَ أرواحِ الأبرياء؟ هل استطاعت أن تعيد ألوان الحياة، وتمحو رماديّة السّماء؟ هل استطاعت أن تعيد مفاتيح الوجود التي سُرقت من جعبة الوطن؟
سأعلّق على عاتقكم هذه التّساؤلات، وأترك لي الخيار في أن أكتب وإن لم تعانق كلماتي السّماء، لأبرّئ ذمّتي أمام وطني، أنّني لم أخنه حتّى في قلمي، وأنّني حاولت ضمن قدراتي أن أطعن الحقد برصاصة قلمي، سأكتب لعلّني أوقظ أحد القابعين في زوايا الموت، أو الذين يختبئون في بيوت العنكبوت، يعدّون أصابع اللّيل، كأنّهم لا يدركون…
أقول قولي هذا، وفي قلبي حرقة لسكون الكَون في عزّ إعصارنا، وفي قلبي خوف من نبض قد يخفق من دون أحبّتي، وأمام هذا الرّماد الكثيف أحاول أن أسرّح سنابل القمح لتنحني أمامهم، وتحت قدميّ رمال متحرّكة تنتزع آمالي، أقاوم لعلّني أبصر النّور من وجودهم، ولكن إلى متى؟
وختامًا، اقتلع من الحرب راءها، واصنع الحبّ ولو بالكلمة، لكن إيّاك أن تبقى ساكنًا، كن مفتاحًا للأمل وإن ضاقت بك كلّ السّبل، فإنّ العجز ليس من الإيمان!