حتى قبل أن تحلّ سنة 2025، اضطر نصف مليون إسرائيلي أن يعيشوا -على نحو ما- القصة ذاتها: استيقظوا -ذات يوم من أيام معركة “طوفان الأقصى”- على وقع سؤال ظل يراودهم مفاده: “ألم يحن الوقت لجمع ما تبقى من متاع قبل الفرار؟”.
لكن، لماذا 2025 بالذات، ولماذا يجب أن نتخيل بهذه التفاصيل: الاستيقاظ، ثم استحضار السؤال “المؤلم” ثم جمع “ما تبقى” من المتاع، وأخيرا مغادرة الكيان الصهيوني الذي –بالتأكيد- لم يعد مناسبا للحياة الآدمية.
الإجابة عن كل هذه الأسئلة تضمنها مقال مطول -تضمن توقعات “مرعبة” لمستقبل الكيان -في عام 2025- وهذا المقال -الذي أعادت نشره صحيفة “هآرتس” العبرية- كان قد كتبه -في عام 1999- المؤرخ الإسرائيلي رون بونداك، المعروف أنه أحد مخططي اتفاقيات أوسلو.
المؤرخ الإسرائيلي، أصبح في لحظة من الزمن يكتب عن مستقبل الكيان كما لو أنه جزء من الماضي، فقد تخيل في مقاله أنه في عام 2025، وأنه استيقظ ذات صباح على وقع سؤال ظل يراوده مفاده: ألم يحن الوقت لأجمع ما تبقى لي من متاع قبل الفرار؟
الصحيفة قالت إن توقعات بونداك كانت دقيقة إلى حد “مؤلم”، وبدت اليوم قريبة من التحقق على أرض الواقع “بشكل مرعب”، وذلك بعد مرور عقد من الزمن على وفاة المؤرخ الذي شاءت الأقدار ألا يعيش حتى هذه اللحظة ليتأكد كيف أن توقعه أصبح حقيقة على الأقل لنصف مليون إسرائيلي، فقد وافته المنية في (تل أبيب) يوم 14 أفريل 2014 عن عمر ناهز 59 عاما بعد صراع مع السرطان.
السؤال الذي راود ذهن المؤرخ، لم يأت من فراغ، وليس مجرد خيالات أديب استشرافي، فقد رأى بعين القارئ للأحداث أن الأوضاع لدى الكيان تدهورت بشدة، ووصف ذلك بالقول: حتى إن “معظم أصدقائي غادروا” (إسرائيل).
وفسر المؤرخ الراحل، مفهوم المغادرة، بالنسبة إلى أصدقائه، موضحا أنها “تبدأ عادة عندما يهاجر أبناؤهم وأحفادهم، فبعض منهم هاجر إلى أوروبا، ومعظمهم إلى الولايات المتحدة، وآخرون إلى مناطق أبعد من ذلك مثل شرق آسيا”.
فجأة، أُفرغ الكيان من أغلب موارده البشرية في “عدد كبير من الصناعات القائمة على المعرفة”، وهو بالضبط ما حدث في الزمن الراهن، منذ انطلاق معركة طوفان الأقصى، الذي يبعد كثيرا عن زمن المؤرخ الحقيقي لكنه يتطابق مع زمنه المفترض الذي تحصر خلاله على “السنوات الأولى من القرن الـ21” عندما كان الكيان –وفق تعبير المؤرخ- رائد في هذا مجال، “الصناعات القائمة على المعرفة”.
وانتقد الكاتب حكومة رئيس وزراء سلطة الكيان الصهيوني إيهود باراك الأولى (1999-2001) بسبب ارتكابها العديد من الأخطاء عندما “كان كل شيء جاهزا للتوقيع وتنفيذ الصفقة التاريخية الكبرى مع الفلسطينيين، والتي –وفق تعبير المؤرخ- “كان من الممكن أن تغير مجرى التاريخ”.
غير أن حكومة الكيان قررت التمسك بالخطة المحدودة التي تفتقر إلى الرؤية، والتي فُرضت على الفلسطينيين وألقت الشرق الأوسط في أتون اضطرابات -يقول مهندس أوسلو- “ندفع ثمنها حتى يومنا هذا”، وسرد رون بونداك بعض الملابسات التي صاحبت عملية التفاوض التي أجريت عام 2000، من أجل إلى تسوية سلمية مع الفلسطينيين.
وقال إن سلطة الكيان لم تكن مستعدة أن تسمح للفلسطينيين بإقامة دولة على معظم أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، وكانت تهدف من وراء ذلك إلى التقليل من حق عودة اللاجئين إلى دولتهم المستقبلية، وأصرّت على الحفاظ على فرض السيادة الصهيونية في قطاع واسع من الأراضي على طول وادي الأردن، ورفضت تمكين الفلسطينيين من المياه في الطبقة الجوفية من أرضهم.
وأضاف أن المناقشات بشأن القدس تعثرت أيضا عندما طالبت سلطة الكيان بالسيادة على المدينة بأكملها، بما في ذلك 65 كيلومترا مربعا التي ضمتها من الضفة الغربية عام 1967، فضلا عن السيطرة الكاملة على السكان العرب في المدينة، الذين كان يبلغ عددهم آنذاك 200 ألف نسمة.
وفي نهاية المطاف، بدا واضحًا لسلطة الاحتلال أن السبيل الوحيد للتوصل إلى اتفاق هو الضغط على الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات وإجباره على قبول إملاءات “السلام” الصهيونية، وهو الذي “كان يدرك أن أيامه باتت معدودة بسبب مرضه، وكان يريد أكثر من أي شيء آخر أن يكون هو المؤسس لدولة فلسطينية مستقلة”، بحسب ما ورد في المقال.
ولكن عرفات استسلم -وفق المقال- للضغوط التي مارسها عليه إيهود باراك والرئيس الأميركي بيل كلينتون، ووافق على الصفقة بعد أن حصل على وعد بأن إبرامها سيجعل بالإمكان استئناف مناقشة القضايا المؤجلة في اتفاق الوضع النهائي على الفور، ومن بينها وضع مدينة القدس واللاجئين، وأراضي الضفة الغربية التي احتفظت سلطة الاحتلال بـ40% منها ضمن الاتفاق.
وأشار بونداك إلى أن سلطة الكيان بدأت في بناء سياج عالٍ متاخم لطريق مزود بمعدات مراقبة إلكترونية لكشف التسلل، وكانت الفكرة إنشاء حاجز دائم يفصل الكيان عن الدولة الفلسطينية. وفي الوقت ذاته، واصلت سلطة الكيان اتباع سياستها المتمثلة في “خفض عدد العمال الفلسطينيين لديها” إلى الحد الأدنى. ولم تشجع سلطة الكيان أو تسمح بأي مشاريع للفلسطينيين الذين بدأ اقتصادهم في التدهور”.
وأسهب الكاتب في رصد المحطات الرئيسة التي مرت على اتفاقيات أوسلو ومواقف الحكومات الصهيونية المتعاقبة منها وكذلك الفصائل الفلسطينية لا سيما حركتي المقاومة الإسلاميتين (حماس والجهاد) وحركة فتح والسلطة الفلسطينية.
ومضى المقال في سرده التاريخي ليقف عند أعمال العنف التي شنّها قطعان المستوطنون في الضفة الغربية على القرى الفلسطينية، وشهدت المنطقة الواقعة بين العفولة ومدينة جنين، على طول الحدود، أعمال عنف على حد سواء، “ما حدا بسلطة الاحتلال إلى إحتلال جنين ونابلس لبضعة أيام”.
وأوضح المقال أن الأحزاب الدينية ظلت تستند في حملاتها الدعائية والتسويقية إلى نصوص من التوراة، على غرار ما ورد في سفر التثنية 2 الذي جاء فيه” فأسلمه الرب إلهنا إلينا (سيحون ملك الأموريين) فهزمناه وجميع أبنائه ورجاله في ذلك الوقت، استولينا على جميع مدنه، ودمرنا كل مدينة -رجالا ونساء وأطفالا- ولم نترك أي ناجٍ”.
وكان الشعار الذي أوصل رئيس وزراء الاحتلال التالي إلى السلطة هو: “تذكروا ما فعله بكم عماليق. فعرب الداخل وعرب الخارج خطر على كيان (إسرائيل)”.
ويمضي مقال “هآرتس” إلى التأكيد أن محاولات المجتمع العربي للاندماج في الحياة المدنية بكيان الاحتلال، وأن يصبح أفراده مواطنين يتمتعون بحقوق متساوية تماما، قد باءت بالفشل. ولم يتمكن النظام السياسي الصهيوني من التعامل مع المشاكل والفوارق التي ظهرت، ونشأت حالة من الغليان بين جيل الشباب العربي.
وتطرق المقال إلى ما كان يدور من أحاديث عن حكم ذاتي عربي داخل الكيان. وفي ذلك يقول الكاتب إن الحكم الذاتي الذي طالب به أنصار هذا النهج لم يكن جغرافيا بالضرورة؛ بل كان ذا طبيعة ثقافية ووظيفية.
وأيّد بعض اليهود الإسرائيليين هذه الفكرة، ومن بينهم أشخاص من اليسار اعتبروها السبيل الوحيد لتطبيع العلاقات داخل (إسرائيل) “التي كانت على شفا انهيار كارثي”، وكذلك بعض المعتدلين الدينيين الذين كانوا يطمحون ببساطة إلى الحفاظ على الكيان، لكن الحكومة اليمينية عارضت هذه الفكرة بشدة.
ونتيجة للتوترات السياسية والدبلوماسية بين الكيان والولايات المتحدة، توقفت واشنطن عن تحويل التمويل المدني والأمني إلى سلطة الكيان، كما بدأ الحوار مع يهود الشتات يتلاشى، بحسب المقال الذي يضيف أن الجيل اليهودي الجديد في الولايات المتحدة وأوروبا لم يعد معجبا بالتحول الذي بدأ يتشكل في المجتمع الإسرائيلي.
ثم لم تلبث الأمور في الكيان “اليهودي” أن بدأت بالانهيار، حيث فاقم التدهور الاقتصادي في البلاد من ظاهرة كراهية الأجانب “التي توشك أن تكون عنصرية الطابع”، ولفت بونداك إلى أن أعداد العمال الأجانب لدى الكيان آخذة في الازدياد بعد أن توقف أرباب العمل الإسرائيليون عن توظيف العمال من “الدولة الفلسطينية”، ومن عرب 1948.
ولعل الأسوأ من ذلك -برأي مهندس أوسلو- أن المواجهة بين الأقلية العلمانية الليبرالية والمؤسسة الدينية لدى الكيان باتت أشد حدّة، واضطر الائتلاف اليميني الهش إلى الخضوع لإملاءات الحاخامات، وأصبحت السلطة أقل يهودية من الناحية الديمغرافية وخاضعة لقيود دينية صارمة.
وتوقع الكاتب أن تبدأ (إسرائيل) بالانحدار، من عام 2017، إلى أتون الفوضى، على الصعيدين المحلي والدولي، مما سيدفعها إلى إطلاق نداء يدعو إلى “استعادة الأمل الذي لاح مع مطلع القرن”.
وستكون السنوات السبع التالية هي الأصعب التي تمر على الكيان منذ زرعه بالمنطقة؛ إذ سيشن جيشها حربا “صعبة ومعقدة” على الفصائل الفلسطينية في الأراضي المحتلة.
وعزا المقال تراجع الكيان إلى جملة أسباب؛ من بينها إنفاقها مبالغ طائلة للتصدي للتوتر المستمر على حدودها. ومن ناحية أخرى، اضطر (الجيش) إلى التعامل مع آلاف الأشخاص الذين رفضوا التجنيد، وتلاشى التماسك الإسرائيلي اليهودي تدريجيا.
وعلى الصعيد الدولي، وصل التدهور لدى الكيان إلى أعماق جديدة. وأعلنت الدول الأوروبية فرض عقوبات مختلفة على سلطة الاحتلال، مع سماح الاتحاد الأوروبي لكل دولة أن تقرر بنفسها طبيعة علاقاتها التجارية والثقافية مع الكيان.
وبغض النظر عن أي عملية دبلوماسية يتم اختيارها، من المرجح أن يتصاعد الصراع بين الطوائف الدينية والعلمانية داخل المجتمع الإسرائيلي ويتفاقم بشدة إلى حد العنف الذي قد يؤدي إلى ظهور جيوب لحرب أهلية.
في مثل هذه الحالة، يختم الكاتب يتوقع حدوث عملية انفصام داخل الجمهور الإسرائيلي وربما تبرز فيه “كانتونات” مختلفة لكل منها مجموعة سكانية منفصلة جغرافيا ووظيفيا على أساس أنظمة تعليمية وثقافية مختلفة، وقد يصل هذا السيناريو إلى حد الانفصال فتصبح هناك “يهوذا و(إسرائيل)”.